في دورته الـ75، يُسجل مهرجان "كان" السينمائي عامًا جديدًا
من عمره. ولأنها دورة استثنائية "يوبيل"، فقد حظي برنامجها بالعديد من
الفعاليات والأحداث الخاصة احتفالًا بهذه المناسبة. وعلى مدار 12 يومًا، من
17 إلى 28 من مايو/ أيار، يجتمع "السينيفيليون" من أنحاء العالم لمعايشة
الحدث بعد تأجيل وإلغاء على مدار العامين الماضيين جراء الوباء الكوروني.
شهدت السنوات الأخيرة ازدهار المشاركات العربية في
المهرجان، ربما يأتي في مقدمتها حدثان فارقان بالنسبة للسينما العربية
والمصرية بالأخص، حين حصل الفيلم القصير "16: أخاف أن أنسى وجهك"، لسامح
علاء على السعفة الذهبية عام 2020، وانضم إليه في العام الماضي الفيلم
الروائي الطويل الأول للمخرج عمر الزهيري "ريش". وكانت السينما المصرية في
هذا العام على موعد مع مفاجأة جديدة، تُعد إضافة هامة للتواجد العربي
والمصري.
وبالرغم من أنها لا تمت بصلة للأفلام، إلا أنها تحدث لأول
مرة في تاريخ الجائزة، وهي رئاسة المخرج يسري نصر الله للجنة تحكيم مسابقة
الأفلام القصيرة، فيما يترأس الناقد الشاب أحمد شوقي لجنة تحكيم الاتحاد
الدولي للنقاد "فيبرسي".
"بدأت
المشاركة المصرية منذ الدورة الأولى للمهرجان عام 1946، وفي ما بعد،
وتحديدًا بعد نصف قرن من هذا التاريخ، عام 1997، سجل المخرج العالمي يوسف
شاهين هدفًا هامًا لسينماه خلال الاحتفال باليوبيل الذهبي للمهرجان"
بدأت المشاركة المصرية منذ الدورة الأولى للمهرجان 1946،
وفي ما بعد، وتحديدًا بعد نصف قرن من هذا التاريخ 1997، سجل المخرج العالمي
يوسف شاهين هدفًا هامًا لسينماه خلال الاحتفال باليوبيل الذهبي للمهرجان.
تبلغ حصيلة الأفلام المصرية المُشاركة حتى الآن 27 فيلمًا. تنوعت عروض هذه
الأفلام بين برامج: "نظرة خاصة"، أو "نصف شهر المخرجين"، و"المسابقة
الرسمية"، أو "خارج التنافس".
ويمكن لمن يريد إضافة فيلم آخر إلى القائمة هذا العام،
هنالك فيلم "صبي من الجنة"، إلا أن الفيلم لا يحمل من مصر في هويته سوى أن
مخرجه السويدي طارق صلاح من أصول مصرية، بجانب أن قصة الفيلم تدور داخل
الأزهر، وبمُحرك للأحداث يبدأ بموت الإمام الأكبر بين طلابه، وهو ما سيُثير
كثيرًا من الجدل في مصر والعالم الإسلامي في الفترة المقبلة.
دنيا الدورة الأولى
التف السينمائيون من جميع أنحاء العالم حول أقدم
المهرجانات، "البندقية" في إيطاليا، إلى أن بدأ المهرجان يمارس لدى بعضهم
وسائل ترويج للفاشية، وتحالفات هتلر وموسوليني. وقتها، قررت فرنسا الغاضبة
تنظيم مهرجان بديل يضع الفن نصب عينيه، لا الدعاية السياسية. إلا أن اندلاع
الحرب العالمية الثانية عام 1939 حالت دون ذلك، ولم يتسن لأولى دورات "كان"
أن تخرج إلى النور إلا بعد انتهاء الحرب بعام تقريبًا، في سبتمبر/ أيلول
1946، بمشاركة أفلام من 18 دولة، كان من بينها، "نهاية الأسبوع المفقود"
للمخرج الأميركي النمساوي بيلي وايلدر، و"روما.. مدينة مفتوحة" للإيطالي
روبرتو روسيليني، ومن فرنسا اشترك المخرج رينيه كليمنت بفيلم "معركة
القضبان"، أما المشاركة المصرية فتمثلت في فيلم "دنيا" سيناريو وإخراج محمد
كريم، وبطولة سليمان نجيب، وراقية إبراهيم، ودولت أبيض.
على أن التمثيل المصري في المهرجان لم يقف عند حد فيلم
"دنيا" فقط؛ حيث اشترك الفنان الكبير يوسف وهبي كعضو لجنة تحكيم مسابقة
الأفلام الروائية والقصيرة برئاسة المؤرخ الفرنسي جورج هويسمان، وهي
الطريقة التي اتبعتها إدارة المهرجان في تشكيل اللجنة باختيار ممثل واحد عن
كل بلد من البلدان المشاركة. لم تخلُ الدورة الأولى من بعض المشكلات الفنية
ربما يأتي على رأسها عرض بكرات أحد أفلام هيتشكوك بترتيب عكسي.
أجنبي.. وواقعي.. وهيتشكوك المصري
ليس من الغريب أن يكون للمخرج العالمي يوسف شاهين نصيب
الأسد من الأفلام المشاركة في كان، أو "جو"، كما كان المقربون والأصدقاء
ينادونه. وإذا بحثت أكثر ربما تجده يملك أكبر عدد من المشاركات في
المهرجانات العالمية أيضًا، وهو ما أشار إليه في فيلم "حدوتة مصرية"
(1982)؛ أحد أجزاء رباعية سيرته الذاتية السكندرية، حيث نرى مُخرجًا مهتمًا
بمشاركة أفلامه في المهرجانات الدولية حد الولع، دفع هذا بعضهم، إلى جانب
المواضيع المختلفة، وأجواء معظم أفلامه، إلى اعتباره مُخرجًا أجنبيًا
بالمعنى الأيديولوجي.
"قدمت
تحية كاريوكا في "شباب امرأة" أعظم أداء لها، "شفاعات"، كإشارة إلى كافة
ضروب المغويات التي بوسعها أن تعرقل الشباب البريء في مستهل طريقه"
بدأ شاهين رحلته في مهرجان "كان" مع فيلم "ابن النيل"
(1951)، ثالث أفلامه، وعبر 52 عامًا تقريبًا، شارك في دورات المهرجان بعشرة
أفلام، منها "وداعًا بونابرت"، "اليوم السادس"، "إسكندرية كمان وكمان"،
"إسكندرية نيويورك"، وفي احتفالية المهرجان بدورة اليوبيل الذهبي 1997،
عُرض لشاهين فيلم "المصير"، وحصل على الجائزة الكبرى عن مُجمل أعماله.
حينما تُذكر الواقعية، فلا بد من أن يبرز اسم المخرج الكبير
صلاح أبو سيف. ولا عجب في ذلك، فقد بدأ حياته كمساعد مخرج لرائد الواقعية
المصرية، كمال سليم. قدم أبو سيف عشرات الأفلام خلال فترة تزيد على نصف
قرن، أدرج عدد كبير منها في قوائم أهم الأفلام على مر تاريخ السينما، وأدرج
ثلاثة في مهرجان "كان" عبر دورات مختلفة، أولها فيلم "مغامرات عنتر وعبلة"
(1948)؛ رابع أفلامه. بعد ذلك بالتوالي "الوحش" (1954)، و"شباب امرأة"
(1956)، قصة وسيناريو أمين يوسف غراب، والبطولة لشادية، وشكري سرحان، وتحية
كاريوكا. قدمت كاريوكا في "شباب امرأة" أعظم أداء لها، "شفاعات" كإشارة إلى
كافة ضروب المغويات التي بوسعها أن تعرقل الشباب البريء في مستهل طريقه.
منذ أول أفلامه "المنزل رقم 13" (1952)، اختار المخرج كمال
الشيخ منطقة الإثارة والتشويق مسرحًا لأفلامه؛ حتى أنهم نعتوه بـ"هيتشكوك
المصري"، وذلك بعد رحلة طويلة من عمله بالمونتاج في عشرات الأفلام
الكلاسيكية. شارك الشيخ في مهرجان "كان" مرتين؛ الأولى عام 1955 في
المسابقة الرسمية بفيلم "حياة أو موت"، تأليف علي الزرقاني، وبطولة عماد
حمدي، ومديحة يسري، ويوسف وهبي، وبرغم الوتيرة العادية لأحداث الثلث الأول
من الفيلم، تمكن الثلثان المتبقيان من حبس وشحذ أنفاس الجماهير في متابعة
الطفلة التي تحمل في يدها دواء مميتًا لوالدها المريض، والشجن المصاحب
للنداء الشهير الذي تم بثه بشكل عاجل عبر الراديو، والذي راح يتكرر على نحو
ملح وصارم بين شوارع وحارات العاصمة، محفزًا الحضور في القاعة "السيد أحمد
إبراهيم القاطن بدير النحاس.. لا تشرب الدواء الذي أرسلت ابنتك في طلبه..
الدواء فيه سم قاتل". يعد الفيلم من أوائل الأفلام التي نزلت بالكاميرا إلى
الشارع، كأرض مفتوحة للواقع، بدلًا من جدران الاستوديوهات المصمتة.
الفيلم الثاني للشيخ في مهرجان "كان" جاء في عام 1963
"الليلة الأخيرة" عن قصة الكاتب يوسف السباعي، بطولة سيدة الشاشة العربية،
فاتن حمامة، ومحمود مرسي، وهو فيلم من الأفلام النفسية التي يكون فيها
المُتفرج على علم بما يُدبره البطل، ولكنه يتابع بغرض انكشاف الحقيقة في
النهاية.
الطيب وخان.. وجيلهما
يرى الناقد سمير فريد أن الواقعية الجديدة في السينما
المصرية بدأت سنة 1982، بفيلم "العوامة 70" لخيري بشارة، مُستعيدًا في طرحه
"بداية الدافعية المصرية في السينما" بفيلم "العزيمة 1939" للمخرج كمال
سليم. وفي الحقيقة لم يبتعد فريد بهذا الطرح كثيرًا عن أرض الواقع؛ فبشارة
واحد من خمسة أسماء لمخرجين شباب قدموا أفلامهم الروائية الأولى في مقتبل
الثمانينيات، وهم بترتيب عروض الأفلام: محمد خان، ورأفت الميهي، وخيري
بشارة، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد. هؤلاء الخمسة شكلوا مرحلة هامة
وفارقة في تاريخ السينما المصرية أُطلق عليها "الواقعية الجديدة"، وليس من
المغالاة اعتبار خان والطيب، الأكثر موهبة في هذا الجيل عن جدارة.
تعرض عاطف الطيب لفشل ذريع عقب عرض فيلمه الأول "الغيرة
القاتلة" (1982)، كان كفيلًا بتحطيم آمال الشاب الذي كانه آنذاك، إلا أنه
وفي العام نفسه، وبمساعدة من محمد خان، استطاع حفر اسمه كواحد من أهم مخرجي
السينما المصرية بفيلمه "سواق الأتوبيس".
اهتم الطيب بالشخصيات المصنوعة من دم ولحم الظهير الشعبي
للمجتمع، لذلك نرى الشخصيات عنده تحارب حتى آخر نفس، ولا تركن إلى
الاستسلام؛ إلا أن معظم هذه الشخصيات، أو أغلبها، يُمثلون تطبيقًا حرفيًا
للإذعان لتصاريف القدر، حتى مع وجود مقاومة، وبالتالي فهم يرسخون لفكرة
الانهزامية الحتمية للمهمشين، أو للمظلومين في العموم، المُعبر عنهم
بالمواطن الضعيف.
عُرض للطيب في الدورة 34 من "كان" فيلم "الحب فوق هضبة
الهرم"، القصة لنجيب محفوظ، والسيناريو والحوار لمصطفى محرم، من بطولة أحمد
زكي، وآثار الحكيم، وفيه يجنح الطيب إلى منهجه في تتبع ممارسات القهر على
المحبين "علي ورجاء"، اللذين يتم الزج بهما في قضية فعل فاضح في الطريق
العام، أثناء محاولتهما المستميتة أن يمارسا حقوقهما الشرعية في ظل ظروف
اقتصادية لا تسمح بذلك.
"محمد
خان، ورأفت الميهي، وخيري بشارة، وعاطف الطيب، وداود عبد السيد، هؤلاء
الخمسة شكلوا مرحلة هامة وفارقة في تاريخ السينما المصرية أُطلق عليها
"الواقعية الجديدة""
أما محمد خان، فمن الصعب حصر اسمه في تيار سينمائي بعينه،
رغم طابع السينما الواقعي الذي ارتبط بأفلامه.. إلا أننا سنلمح هاجسًا يلح
على مشروع خان طوال الوقت عبر مشواره الفني وهو التجديد. لا يعتمد خان
كثيرًا على القصة، أو الحكاية، في أفلامه، فكما قال يبدأ برسم الشخصية،
ومنها تخرج الحكاية.. السيناريو عند خان لا يحمل مساحات طويلة من الحكي
المعتاد سينمائيًا؛ حيث السرد المشهدي ينمو ويتطور بنمو الأحداث، وبتبدل
مصائر الشخصيات. حجر الأساس هو الإنسان، وبالتالي معظم أفلامه تحمل من روح
القصة القصيرة الكثير؛ الجزء المنُقطع من الحياة ليس إلا.
يلحق خان بالطيب في الدورة التالية من المهرجان مشاركًا
بفيلم "عودة مواطن" وهو من أميز أفلامه، وأكثرها خصوصية. القصة لعاصم
توفيق، والبطولة ليحيى الفخراني، وميرفت أمين. يعود البطل بعد سنوات من
العمل في الخليج، متوهمًا أنه سيجد الحال كما هو عليه، وأن أخوته لم
يتغيروا، فيصطدم بهوة كبيرة بين ما تخيله وبين ما يطرحه الواقع الجديد لحال
المواطن المصري وتبعات عصر الانفتاح.
التسجيلي الوحيد.. وثلاثة مخرجين
هنالك فيلم تسجيلي واحد في قائمة الأفلام المصرية شارك في
الدورة 59 (خارج المسابقة)، وهو "البنات دول" للمخرجة الحقوقية تهاني راشد،
التي تعيش في كندا. هوجم الفيلم كالعادة من بعض المتابعين، واتُّهم
بالإساءة لسمعة مصر، لما يطرحه السيناريو من تتبع لحياة فتيات النفايات
اللاتي يقضين معظم حياتهن في الشوارع يبحثن عن قوتهن بين أكوام مخلفات
المنازل.
في عام 1949، اشترك المخرج والناقد أحمد كامل مرسي بفيلم
"البيت الكبير"، من تأليفه، بالمشاركة مع الفنان عبد الوارث عسر، الذي شارك
سليمان نجيب، وأمينة رزق، البطولة.
وبعد ذلك بعامين يشترك المخرج أحمد بدرخان بفيلم "ليلة
غرام"، عن قصة لمحمد عبد الحليم عبد الله، وبطولة مريم فخر الدين، وتحية
كاريوكا. وإذا كان الفيلمان لا يعدان الأفضل فيما قدمه المخرجان، وخصوصًا
بدرخان؛ فإن المخرج غزير الإنتاج هنري بركات يُشارك في عام 1965 بواحد من
أهم وأعظم أفلامه "الحرام"، من بطولة فاتن حمامة، وزكي رستم، عن رواية
الأديب يوسف إدريس.
أفلام ما بعد الثورة
شهدت فترة التسعينيات ظهور تيار من الأفلام يمكن أن نُطلق
عليه سينما المثقف، قدمت هذه الموجة موضوعات ليست بعيدة عن المشاهد العادي
كليًا؛ لكنها خاطبت فئة المثقفين على نحو خاص. يُعد المخرج يسري نصر الله
واحدًا من هؤلاء، رغم بدايته أواخر الثمانينيات بفيلم "سرقات صيفية"
(1988)، شارك فيه للمرة الأولى في مهرجان "كان"، وهو أيضًا خريج مدرسة يوسف
شاهين السينمائية؛ حيث عمل معه كمساعد مخرج، ومخرج منفذ، في فيلمي "الوداع
يا بونابرت"، و"إسكندرية كمان وكمان".
"هنالك
فيلم تسجيلي واحد في قائمة الأفلام المصرية شارك في الدورة 59 (خارج
المسابقة)، وهو "البنات دول" للمخرجة الحقوقية تهاني راشد، التي تعيش في
كندا. هوجم الفيلم كالعادة من بعض المتابعين، واتُّهم بالإساءة لسمعة مصر!"
المشاركة الثانية لنصر الله في المهرجان تأتي بعد غياب عن
السينما لعشر سنوات بفيلم "بعد الموقعة" (2012)، ومثلما يناقش في المشاركة
الأولى تبعات ثورة يوليو 1952، يطرح في الثانية المستويات الجديدة من
العالم الذي انفضح فجأة عقب ثورة 25 يناير. وهو ما يُكمله المخرج محمد دياب
في فيلمه "اشتباك" (2016)، الذي اشترك في الدورة 69 من المهرجان. الفيلم
بطولة نيللي كريم، وأحمد داش، وأحمد مالك، وسيناريو محمد دياب، وفيه يستعيد
دياب أجواء 30 يونيو، وخلع جماعة الإخوان.
أما الفيلم الأخير في مشاركات "كان" قبل الجائزتين، فهو
"يوم الدين" (2018)، من تأليف وإخراج أبو بكر شوقي. ويُحسب للفيلم أنه برغم
انتمائه إلى السينما الخاصة، أو المستقلة، فقد حقق إقبالًا جماهيريًا
لافتًا للأنظار يدل على أن الفن الخاص الذي احتكرته الصفوة على نفسها
لسنوات طويلة استطاع أخيرًا أن يشق طريقه إلى الجماهير. |