عندما أعاد مجدي أحمد علي اكتشاف دلال عبد العزيز
د. أمل الجمل
قدمت دلال
عبد العزيز فيلمين
مع المخرج مجدي
أحمد علي،
شخصياً أعتبرهما من أجمل أدوارها السينمائية، حتى يبدو كأن هذا المخرج أعاد
اكتشاف المواهب المدفونة في قلب هذه النجمة وأعماقها. اختياره لها في حد
ذاته له دلالة قوية عميقة. ففي «أسرار البنات» تقمصت شخصية عواطف، الأم
المحجبة من الطبقة الوسطى المطحونة التي تعاني من تشدد زوجها دينيا
وفكرياً، إذ يفرض حصاراً على ابنتهما الوحيدة ياسمين، مع ذلك يفاجآن بأن
الابنة حامل. تُجهض الفتاة نفسها، ثم تحاول الانتحار مما يفجر العديد من
القضايا الاجتماعية والاقتصادية والدينية، منها ختان الإناث، والغلاء
الفاحش، والفساد، والتشديد المفرط في تربية البنات، وكبت حريتهن.
هنا ترسم عواطف مشاعر الأم المصدومة المقهورة، بشعورها
المختلط بين الرغبة في تعنيف ابنتها أو ضربها وفي نفس الوقت الخوف الشديد
عليها. كل هذا الشعور المختلط يتم في لحظات، في جزء من الثانية أحياناً،
فكيف لامرأة أن تفعل ذلك إن لم تكن موهوبة وقادرة على أن تنفعل بدورها،
وتندمج فيه، وكأنها، هنا، تذكرنا بتعريف الاندماج عند بريشت، إذ كان يطلب
من الممثل: «أن يرتبط بعلاقة معينة مع الشخصية التي يندمج بها، أن يضيف
إليها تقييمها من الناحية الاجتماعية، وتمثيل حالاتها ومواقفها».
كانت دلال عبدالعزيز بارعة في توظيف صوتها، كانت تُجسد
القوة والضعف، الفرح والحزن، بل مختلف حالات الشعور الإنساني عبر تدريجات
أحبالها الصوتية كأنها تعزف مشاعرها صوتياً في نوتات موسيقية.
نسمعها تقول لأختها بصوت منكسر: «هو أنا هتقوم لي قومة تاني
.. ما خلاص بنتي كسحتني..».. ثم في مشهد آخر لها مع ابنتها تعاتبها،
تؤنبها، وربما تفضفض وتبوح بما يكتمه صدرها فتقول: كنت فرحانة بك ومصدقة…
أتاريكي بتلعبي بيَّ، وأنا مش حاسة،، ليه بتعملي فيَّ كدا ليه؟
نلاحظ في مشاهد الحوار السابق تبدل درجات الأداء الصوتي
والمراوحة بين الرقة والعنف والفرح والإحساس بالخديعة، لكن التنقل يتم
بليونة وسلاسة كبيرة.
كذلك بمشهد ثالث توظف عيونها وإيماءات جسدها للتعبير عن
الخوف المرعب على ابنتها لحظة الانتحار.
ثم في مشهد رابع عندما علمت أن الطبيب أجرى لابنتها عملية
الختان تقول بغضب مكتوم: «بيربيها لنا..».
أما في مشهد المواجهة الذي يجمعها وأختها مع الطبيب المتشدد
نسمعها تتنقل بين مختلف الانفعالات وتلونها بمهارة المحترفين، فتجمع بين
مشاعر الخوف والتوتر ثم الانقلاب إلى الجرأة والغضب دفاعاً عن الكرامة
فتصرخ - لكن بتون منخفض لئلا يسمعها الآخرون - في وجه الطبيب حينما يتطاول
عليهن. ثم في نفس المشهد عندما يتركهن الطبيب وينصرف يرتفع صوت أختها
محتجاً فتشعر عواطف بأن المرضى بدأوا ينظرون إليهن. هنا نسمعها تقول في
رجاء وخنوع: «خلاص بلاش فضايح.. الناس بتبص علينا.. بقينا بنتدارى زي
المجرمين».
عصافير النيل
أغلب مشاهد دلال
عبد العزيز فيلم
«عصافير النيل» - المقتبس عن رواية إبراهيم أصلان - يُمكن تدريسها ضمن فنون
الأداء. وذلك رغم أن شخصية نرجس - التي تمثلها دلال
عبد العزيز -
والبهي - محمود الجندي - ليست رئيسية، فالعمل أساسًاً يحكي عن أخيها عبد
الرحيم، مع ذلك تظل المشاهد الأكثر سحراً بالفيلم هى تلك التي تجمع نرجس مع
زوجها البهي.
أحد أبرع وأصدق مشاهدها عندما ينطفئ النور فجأة فتأتي بتلك
الحركة الشعبية الشائعة عن الخوف المفاجيء، إذ تبصق خفيفاً في صدرها قائلة:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. شغلانة إيه بس دي ياربي..» هذه الجملة على قصرها
لكن درجات التلوين الصوتي والقدرة التعبيرية لها تجعلنا نحس بقلق وفزع هذه
المرأة الريفية الشعبية في قلب الظلام وسندرك لاحقاً إلى أي درجة تخاف من
العتمة.
أما المشهد الذي أعتبره «ماستر سين» عندما تجلس نرجس على
الكنبة البلدي، لا نرى وجهها، حيث كانت تنظر من الشباك المطل علي الحارة..
فقط نسمعها تقول لزوجها البهي الذي يمضغ حبة قرنفل: «درسك تاني..؟ يا اخويا
روح اخلعه.. مادام بيوجعك روح اخلعه.. كل الناس بتروح تخلع في مستشفى
الموظفين..».
المدهش أننا لا نرى وجه نرجس، مع ذلك نشعر جدا بكل كلمة
تقولها، فالتلوين الصوتي المتعدد الدرجات، بدءا من طرح السؤال ثم النصيحة
لإبداء الرأي الحازم الذي لا يخلو من لوم، ثم قدرتها وهى تتنقل بين الرقة
والحنيه والشدة والترجي بدرجة صوتية متوسطة وذلك عندما تحول دفة الحديث عن
نفسها في الحوار ذاته كالتالي:
نرجس: ياريتك يا سي البهي لما أموت تبقي توصلي لمبة بسلك في
التربة
البهي: إزاي الكلام ده..؟!
نرجس: إن شاء الله أسبوع واحد بس
البهي: دي تضرب يا ولية
نرجس: والنبي ما هيجرالها حاجة
البهي: طيب وهو حساب الملكين يصح شرعا في نور الكهرباء..
استغفر الله العظيم
نرجس: هو انت هيخس عليك حاجة؟ دا إنت هتاخد وصلة من عبد
الخالق الحانوتي.. لمبة خمسين شمعة.. الحكاية كلها مش هتكلفك جنيه ونص.. أو
يمكن جنيه وربع.. هو أسبوع واحد لحد ما آخد على الضلمة
البهي: طيب لو السلك ضرب وكهرب حد.. دا يموت وتبقى دوشة
نرجس: والنبي ما تعقدها يا سي البهي.
مشهد آخر ساحر لنرجس بالفيلم، ورغم أنها لا تتكلم فيه، لكن
حركات جسمها هى التي تنطق بقوة تعبيرية غير عادية معبرا عن الفرحة الراقصة،
وهو مشهد الجري في الحارة عندما علمت بخبر الإفراج عن ابنها، فخرجت مسرعة،
وأخذت تجري بكل طاقتها، لكن الأهم أنها جعلت جسمها يتطوح يسارا ويمينا،
أعلى وأسفل كامرأة مسنة بالفعل، بأداء رائع يأخذ العقل من قوة صدقيته، كما
أن زاوية التصوير، وتحريك المشهد بالبطيء في المونتاج لعب دوراً في تكثيف
دلالة الأداء وتعميق أثره.
المدهش أنه عندما نتأمل مهارات ابنة الشرقية ونفكر في
أدائها - سواء مع مجدي
أحمد علي
أو مع الآخرين طوال مشوارها الفني الممتد عبر أربعة عقود والذي قدمت خلاله
نحو ٢٠٠ عمل سينمائي ومسرحي وتليفزيوني - سنشعر أنها كانت لا تفكر في
الشعور ذاته، وإنما تفكر بالظروف التي أدت للشعور وتلك التجربة واكتشاف
الدافع من ورائها، الذي خلق الحالة الانفعالية والتجربة لدى الممثل، سواء
من خلال المعايشة أو التجارب المكتسبة أو حتى المتخيلة، لذلك عند تجسيدها
لأي شخصية مشحونة بالانفعالات والأحاسيس فإن دلال
عبد العزيز في
غمرة العواطف الجارفة - والأحداث المروعة أثناء فن الأداء - كانت قادرة على
أن تُسيطر على درجات الانفعال ومستويات قوته وتأثيره، محددة أحاسيسها
وانفعالاتها التي تخدم الدور والغرض الدرامي، وهو أمر يشي بيقظة العقل
الواعي عندها، ربما لذلك كله رغم أنها تركت عالمنا بجسدها المادي، فإنها
أبداً لن تفارقنا بإبداعها الخالد. |