تبقى المُشاهدة الافتراضية لأفلامِ مهرجان سينمائي دولي،
مُصنَّف فئة أولى، وقتاً طويلاً في الذاكرة. اختبارٌ يتوافق وأحوال عالمٍ
يعيش انهياراتٍ وتغييراتٍ شتّى، بسبب كورونا، وشروطه الحياتية المفروضة على
الجميع أشهراً مديدة، وبسبب أزمات تنشأ من تفشّيه، أو تستمرّ مع هذا
التفشّي، غير المعروفة نهايته بعد. قراءات عدّة يُفترض بها أنْ تواكب علاقة
السينما بكورونا،
وبعض تلك القراءات حاصلٌ ومستمرّ، غرباً أكثر منه شرقاً.
مشاهدةٌ مختلفةٌ
"مهرجان
برلين السينمائيّ (برليناله)" أحد
تلك المهرجانات الرئيسية في العالم. دورته السابقة (70)، المُقامة بين 20
فبراير/ شباط والأول من مارس/ آذار 2020، آخر دورة لآخر مهرجان يُقام
حينها، قبل انغلاق دول ومجتمعاتٍ وأناسٍ في عزلاتٍ وتساؤلات ومخاوف ومخاطر.
دورته الأخيرة (71) تطرح أسئلة عن معنى "الافتراضيّ" في صناعة المهرجانات،
رغم أنّ مهرجاناتٍ أخرى تعتمد الافتراضي في تنظيم دورات العام الماضي.
بين الأول والخامس من مارس/ آذار 2021، نُظمت الدورة
الافتراضية الأولى لـ"برليناله". في يونيو/ حزيران المقبل، تسعى إدارة
المهرجان إلى تنظيم عروضٍ عامّة، يُتوقّع أنْ تكون بين 9 و20 منه، للراغبين
في مشاهدة أفلامٍ مُنتجة حديثاً (مختارة من الدورة الافتراضية تلك)، إذا
سمح الوباء بتحقيق هذا اللقاء المفتوح في الهواء الطلق، أو في صالاتٍ
تُخصِّص نصف عدد مقاعدها للمُشاهدين.
في مقابل استثنائيّتها، المتمثّلة بعرض أفلامها المختارة
"أونلاين"، تفتقد الدورة الأخيرة مفاجآتٍ مُثيرة للدهشة أو الاهتمام. هذا
ليس نقصاً أو تراجعاً، بل يأتي استكمالاً لآلية اختيار بعض أفضل الأفلام
المُنجزة قبل عامٍ، والعام السابق مليء بالارتباكات والتخبّطات والقلاقل،
ومع هذا يتمكّن سينمائيون عديدون من إكمال مشاريع معلّقة لهم، أو من تنفيذ
مشاريع جديدة، وبعضها مختارٌ في المسابقة الرسمية، وفي مسابقات وبرامج
أخرى. حيوية الأفلام يعتادها مهرجان برلين، فهو أول مهرجان يُقام كلّ عام،
ما يدفعه إلى محاولة دائمة ودؤوبة للحصول على أفضل المُنتج حديثاً. دورته
الافتراضية تلك شاهدةٌ على ذلك، رغم أيامها القليلة للغاية (6 أيام).
قلّة أيام الدورة الـ71 لن تحول دون مشاهداتٍ ممتعة، وبعض
المشاهدات مُريح لجالسٍ أمام الشاشة في منزله. يومياً، عند السابعة صباحاً
(بتوقيت بيروت)، تُتاح للنقّاد والصحافيين السينمائيين مُشاهدة أفلامٍ عدة
في مسابقات
وبرامج،
لمدّة 24 ساعة، قبل حذفها وإنزال أفلامٍ أخرى. هذا مُريح في اختيار الوقت
للمُشاهدة، لكنّه يُثقل على المُشاهد لجهة إلزامه بأفلامٍ محدّدة يومياً،
لن يتمكّن من مشاهدتها في وقتٍ آخر، كالحاصل في الدورات الواقعية، التي
تعرض أفلاماً كثيرة أكثر من مرّة، في صالات مختلفة. كلّ فيلمٍ غير مُشاهَد
في 24 ساعة، تستحيل مشاهدته في وقتٍ آخرٍ.
المُريح أيضاً كامنٌ في تمكّن الجالس أمام شاشة صغيرة
(لابتوب) أو شاشة تلفزيونية، لمُشاهدة بعض تلك الأفلام، من التحرّك في
حيّزه الخاص متى يشاء، إذْ يستطيع إيقاف العرض لدقائق، أو يتابعه لاحقاً
ضمن المدّة المتاحة. هذا مريح لحظة حدوثه، لكنّه في الوقت نفسه ينسف فكرة
المُشاهدة برمّتها، تماماً كما تفعل المنصّات. هذا يندرج في إطار التساؤلات
المطروحة منذ أشهرٍ عدّة، مع تفشّي كورونا، والتزام العزلة المنزلية، ومتابعة أخبار العالم
ونتاجاته عبر الـ"أونلاين" والمنصّات.
سطوة كورونا على الأفراد والجماعات معاً تنعكس في صناعة
السينما، تنفيذاً وخيارات درامية. مثلٌ على ذلك: الكمامات والتعقيم
والمسافات المفروضة بين الناس أمورٌ ظاهرةٌ في "مضاجعة فاشلة أو بورنو
مجنون" (إنتاج مشترك بين رومانيا ولوكسمبورغ وكرواتيا وجمهورية تشيكيا،
2021، 106 دقائق) للروماني رادو
جود،
الفائز بجائزة "الدبّ الذهبيّ" لأفضل فيلم في المسابقة: الشخصيات تلتزم
التدابير الوقائية بتشدّد، وإنْ يذهب النصّ (كتابة جود نفسه) إلى أمكنة
أخرى تماماً، تمسّ تاريخاً وحاضراً، وتعاين أحوالاً وانفعالاتٍ وعلاقاتٍ،
بلغة ساخرة وإيقاع يكشف ارتباكاً وتخبّطاً وتناقضات جمّة بين أفكارٍ
وانتماءات ومواقف. لغة ترتكز على صورة وتعليق صوتي وموقف وتصرّف وقول،
بتوليفٍ يُنزل ضرباته المتتالية بحدّة تفرض تنبّهاً كبيراً لتفاصيل،
واطّلاعاً عميقاً لوقائع وحكاياتٍ. لغة سينمائية تجعل الكاميرا (ماريوس
باندورو) رفيقاً ملتصقاً بإيمي (كاتيا باسْكاريو)، الشخصية الأساسية، في
رحلتها القاسية (أقلّ من 24 ساعة بقليل)، في تاريخ بلدٍ وتقاليد اجتماع
وثقافة أناس وموروثاتٍ تربوية يسخر جود منها، كمن يُصفّي حسابات شخصية معها.
عن المرأة لا عن النسوية
المرأة، في جديد الروماني رادو جود، محورٌ وركيزة ونواة.
ممارستها الجنس مع زوجها، الراغب في تصوير هذا الفعل بينهما، سببٌ لسجالٍ
يُعرّي كياناً اجتماعياً وبشرياً وأخلاقياً، في بلدٍ يبدو كأنّه لا يزال
يُعاني تأثيرات الحقبة السوفييتية في يوميات الحياة والعيش والعلاقات،
وخراب راهنٍ أيضاً. إيمي، الزوجة والمُدرِّسة، تتحوّل إلى مرآة قاسية، تفضح
بيئة وتفكيراً ومسالك، وتواجه لوحدها تنانين القهر والقمع والانغلاق. هذا
غير حاصلٍ بخطابيّة فجّة، بل بسينمائيّة باهرة.
المرأة عصبُ أفلامٍ عدّة، مختارة للمسابقتين الرسمية
و"لقاءات
(Encounters)"،
ولبرنامج "بانوراما". أهذه صدفةٌ، أو مسارٌ طبيعيّ لانشغالات سينمائيين
وسينمائيات في عالمِ اليوم؟ قبل 3 أيام فقط على الاحتفال بـ"اليوم
العالمي للمرأة"
(8 مارس/ آذار)، تنتهي تلك الدورة الافتراضية لـ"برليناله"، وبعض أبرز
أفلامها معنيٌّ بالمرأة، بعيداً عن كلّ مباشرةٍ وخطابيّة وتنظيرٍ واحتفالية
مُسطّحة، وعن كلّ نَفَسٍ نسوي تنظيريّ. أفلامٌ تغوص في أحوال المرأة
ومشاغلها ومكانتها وأهوائها ومشاعرها، ككائنٍ بشريّ حيّ، له حيّز كبيرٍ في
مجتمعاتٍ عدّة، وإنْ تتعرّض المرأة في بعضها على الأقلّ لعدائية أو
لذكورية، وهذا نادرٌ في تلك الأفلام، فالأولوية للمرأة كائناً بشرياً يواجه
ويبوح ويحلم وينهزم ويُقارع ويتمنّى ويتوقّع ويفشل.
نساء تلك الأفلام، رغم إيجابيات نادرة في عالمٍ يزداد قسوة
ووحشية وخراباً، يبدون كأنّهن "على حافة هجومٍ عصبيّ"، وهذه ترجمة عربية
حَرْفية للعنوان الإسباني الأصلي،
Mujeres Al Borde De Un Ataque De Nervios،
الفيلم الرائع لبيدرو
ألمودوفار،
المُنجَز عام 1988، أو (نساء) "على وشك الانهيار العصبيّ"، كالترجمة
العربية للعنوان الفرنسي،
Femmes Au Bord De La Crise De Nerfs.
رغم أنّهنّ يبدون هكذا، تكشف نساء بعض أفلام الـ"برليناله"
عن متانة حضور، وقوّة مواجهة، وبراعة تحدّ. تريد كلّ واحدة منهنّ حياة
ومشاعر ومسارات. بعضهنّ شابات، وبعضهنّ الآخر أكبر سنّاً بقليل. وحيدات،
تواجه كلّ منهنّ مصيرها بلغة وتصرّف وفعلٍ يُناقض تربية وسلوك جماعيين،
برغبة التحدّي، أو بنزعة الخلاص. بعضهنّ يعثر في أخرياتٍ على امتدادٍ
وحماية، وعلى مزيدٍ من قوة ذاتٍ وروح. ميزتهنّ أنّهن يُتقنّ فنّ العيش في
محيطٍ موبوء، وكلّ محيطٍ موبوءٌ في زمن انهيارات وتحوّلات غامضة ومُثقلة
بأسئلة وأزماتٍ. جميلات هنّ في وحدتهنّ وفي ملاقاتهنّ أخريات وآخرين. بصوتٍ
عالٍ أو بغضب واضح أو بنبرة خفيّة أو بنظرة قاهِرة أو بملمحٍ آسر، يقلن
وقائع عيشٍ يوميّ في "صفيحٍ ساخن" (بالإذن من أحمد فؤاد، وفيلمه المُنجز
عام 1978 بعنوان "رجب فوق صفيح ساخن)، أو في "مدينة الله"
(City Of God)،
كما يصفها فرناندو ميريلّيس وكاتيا لوند في فيلمهما المُنجز عام 2002.
ثورة وسياسة
تداعيات ما بعد "ثورة
25 يناير" (2011) المصرية،
وتأثيراتها وانقلاباتها ومساراتها ومصائرها، حاضرةٌ في الوثائقيّ "كما
أريد" (إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا والنرويج وفلسطين وألمانيا، 2021، 88
دقيقة، "لقاءات") للفلسطينية سَمَاهِر القاضي. انكسارات ومشاغل واحتيالات
وصَدْمات وأهواء وخيبات تعيشها المرأة الشابّة وتواجهها، في بيئة تقليدية،
تصنع الروائيّ "سعاد" (إنتاج مشترك بين مصر وتونس وألمانيا، 2021، 96
دقيقة، "بانوراما") للمصرية آيتن أمين. في الأول، مزيج سياسة واجتماع
ورغبات وقمعٍ وإقصاء ومواجهة؛ وبعض هذا ماثلٌ في الثاني أيضاً.
مناقشة السياسيّ في الأول لن تحول دون تنبّه إلى اشتغالاته
السينمائية، فالوثائقيّ مستوفٍ شرطه البصريّ، والتوليف (غلاديس جوجو) إضافة
أساسية في تركيب المتتاليات، التي يتداخل فيها تسجيل لحظات سابقة على
الفيلم، بلحظات مُصوّرة
(سماهر
القاضي وكريم الحكيم وRM)
لحظة الاشتغال على مسألة التحرّش والاعتداء الجنسيّين على شابات مصريات، في
مرحلة تاريخية صعبة تمرّ بها مصر زمن الرئيس الراحل محمد مرسي، قبل انقلاب
العسكر عليه بشخص عبد الفتاح السيسي.
السياسي مُلغى في الروائي
الجديد لآيتن أمين،
إنْ يرتبط (السياسي) بحدثٍ معيّن. الاجتماع غالب. علاقات شابات مصريات
بأنفسهنّ وبأخريات وآخرين نواة درامية لفيلمٍ ذي إيقاع هادئ في التقاط نبض
الغليان القاسي في ذاتٍ وروح. الهدوء الظاهر، تصويراً وشخصياتٍ ومساراتٍ،
يُخبّئ وجعاً وانكساراتٍ وصدامات وقهراً وغلياناً. بشاشة مكشوفة على وجهٍ
شابّة تُظلِّل غمّاً وألماً وقلقاً. هذا يُحرِّض على نقاشٍ نقديّ، كتحريض
"كما أريد" تماماً.
أفلامٌ أخرى تصنعها امرأة أو تحضر فيها: "أم صغيرة" (فرنسا،
2021، 72 دقيقة، المسابقة) للفرنسية سيلين سيامّا، و"ماذا نرى عندما ننظر
إلى السماء؟" (إنتاج مشترك بين ألمانيا وجورجيا، 2021، 150 دقيقة،
المسابقة) للجورجي ألكسندر كوبُرِدْزَاي
(العنوان
ترجمة عربية حرفية للعنوان الإنكليزي المعتمد في المهرجان:
What Do We See When Look At The Sky؟)،
و"أغنية بقرة بيضاء" (إنتاج مشترك بين إيران وفرنسا، 2020، 105 دقائق،
المسابقة) لبحتاش صنايعي ومريم مقدم. المسابقة، والعنوان الفارسي: "قصيده
كاو سفيد")، و"عجلة الحظّ والفانتازيا" (إنتاج اليابان، 2021، 121 دقيقة،
المسابقة) للياباني رياسْكي هاماغتْشي (الترجمة العربية للعنوان الإنكليزي
المعتمد في المهرجان:
Wheel Of Fortune And Fantasy)،
الفائز بجائزة "الدب الفضيّ ـ الجائزة الكبرى للجنة التحكيم".
هذه تنويعات تنصبّ
في حضور المرأة وعوالمها المختلفة. جماليات سينمائية تروي فصولاً من
حكاياتٍ تتشابه، والاختلاف ماثلٌ في كيفية السرد البصريّ. |