أوراق برلين السينمائي (4) إيران تتزين وتخلع الحجاب
أمير العمري
لم اشاهد كل أفلام المسابقة المعروضة في الدورة الخاصة من
مهرجان برلين السينمائي إلا أنني لا أستبعد أن يفوز بها- كما حدث في العام
الماضي- الفيلم الإيراني “قصيدة البقرة البيضاء” فهو أفضل ما شاهدت حتى
الآن.
الفيلم الإيراني يتميز كثيرا عن غيره رغم بنائه التقليدي،
على العكس مثلا من الفيلم الروماني “حظا سيئا للجنس أو بورنو مجنون”
Bad Luck Banging or Loony Porn للمخرج
“راضو جود الذي فاز فيلمه البديع “عفارم” (2015) بالدب الفضي. وهو في فيلمه
الجديد ينحو نحو البناء الحر الذي يقوم على الاسقاطات الساخرة التي تصل حد
العبث والسخرية السوداء، من كل أشكال النفاق الاجتماعي والسياسي، في
رومانيا وفي العالم، ولكنه يمتلك خيطا رفيعا يتابع معه كيف تواجه مدرسة في
مدرسة ثانوية مأزقا كبيرا بعد ان تسلل إلى برنامجها التعليمي الذي توجهه
لطلابها عبر الانترنت، شريط فيديو من نوع أفلام البورنو الجنسية الفاضحة
وشاهده الطلاب. ويتعين عليها أن تواجه آباء طلابها في اجتماع عام لتقرير
مصيرها رغم أنها لا تعرف كيف تم ادخال هذا الشريط الفاضح إلى برنامجها
التعليمي.
هذا اول فيلم حقيقي من عالم “الكوفيد – 19″، فنحن نشاهد كيف
يرتدي الجميع الكمامات الواقية حتى في الشارع، وكيف تلفت المدرسة المتزمتة
نظر البائعة في أحد مراكز التسوق إلى أن الكمامة انزلقت عن أنفها، وكيف
يسخر بعض عجائز الرجال من التباعد الاجتماعي بالقيام برقصة بالعصي التي
تفصل بين كل منهم مسافة متر ونصف، إلى جانب تعليقات أخرى بالصوت والصورة
تبدو كما لة كانت منتزعة من “الميديا الجديدة” في حين أنها كلها مصنوعة
خصيصا للفيلم الذي يص إلى أقصر درجات العبث والجرأة وفضح التركيبة
المتناقضة للنساء والرجال في رومانيا، والزيف الاجتماعي ورفض تصوير الجنس
رغم عدم الممانعة في الحديث بكل صراحة ومباشرة فجة عن الممارسة الجنسية.
بطبيعة الحال هذا الفيلم ليس من الممكن عرضه في العالم
العربي الذي أسدل عليه وعلى ثقافته منذ ثلاثة عقود على الأقل، حجاب كثيف من
التزمت السياسي والاجتماعي والثقافي، أدى إلى “إخصاء” الفكر، وطرد كل فكرة
حرة طموحة تسعى للاقتراب من المشاعر الحقيقية للبشر، فالحديث عن المكبوت في
الفيلم العربي حديث مستتر بالرمز، مع اسدال قناع من الحشمة المفتعلة على
اللغة. لكن هذا على أي حال، موضوع آخر.
اشترك في إخراج الفيلم الإيراني “قصيدة البقرة البيضاء” Ballad
of a White Cow كل
من المخرج بهتاش صناعيه، والممثلة مريم مقدم، التي تقوم أيضا بدور البطولة
في الفيلم، وقد أضفت عليه لمسة نسائية واضحة من خلال مشاركتها في كتابة
السيناريو فهذا أساسا، فيلم عن قوة المرأة وقدرتها الهائلة على الصمود
بطريقتها الخاصة في وجه مجتمع ذكوري ظالم، يتجاهل وجودها أصلا. لكنه
بالتأكيد أبعد من هذا كثيرا.
من المتوقع أن يتعرض هذا الفيلم للكثير من المشاكل داخل
إيران، من جانب السلطات، لكونه يتجاوز في تفاصيل كثيرة، قواعد الراقبة على
السينما ويضرب بها عرض الحائط. هذا فيلم آخر عن عقوبة الإعدام من وجهة نظر
مناهضة بقوة لتطبيقها. تماما كما كان فيلم العام الماضي لمحمد روسولوف “لا
وجود للشيطان”. إلا أنه يتجاوز مجرد كشف هشاشة النظام القضائي الذي يطبق
تلك العقوبة لكي يوجه النقد الشديد أولا للتشبث بالفكرة الدينية المستمدة
من النص القرآني نفسه التي تقضي بالقصاص. ولكن ماذا لو وقع القصاص على رجل
بريء كما يحدث بالضبط لزوج بطلة فيلمنا هذا “مينة” التي يتم إعدام زوجها
لتترك دون حول ولا قوة، مع ابنتها الصغيرة التي ولدت صماء، “بيتا” (في
السابعة من عمرها)، ثم يتضح فيما بعد أن زوجها رغم ارغامه على الاعتراف
بجريمة قتل لم يرتكبها، أن القضاة أخطأوا بعد ان اعترف القاتل الحقيقي
بالجريمة؟
في حوار جريء يدور في الفيلم بين اثنين من هؤلاء القضاة،
يقول أحدهم: كان من الأفضل الحكم بالسجن لأننا في حالة اتضاح البراءة كان
يمكننا أن نطلق سراحه.
يقول له زميله: ولكنها إرادة الله وحكمه. وكان الرسول محمد
(ص) نفسه يطبقه بعد الاستماع لشهادة رجلين. وقد شهد رجلان هنا عليه.
نعم ولكن الآن اتضح أن الشاهدين تآمرا ضده وأحدهما هو
القاتل الحقيقي أي أنهما من شهود الزور. لقد أخنا حياة رجل دون ذنب بموجب
شهادة زور. كان يمكن أن نعيد له حياته لو لم نكن قد حكمنا باعدامه!
وهل كنا سنعيد له 20 عاما من حياته لو كان قد قضى عليه
بالسجن مدى الحياة؟
لكن الأمر لا يتوقف هنا. فالزوجة “مينة” التي تأمر لها
المحكمة بتعويض قدره 270 مليون كومان (أكثر من ستة آلاف دولار) تصر على
ضرورة أن يعتذر القضاة عن تشويه سمعة زوجها الذي أعدم ظلما، وهي تواصل
السعي من أجل ذلك دون كلل، ولكنها في الوقت ذاته تواجه معركة أخرى مع والد
وشقيق زوجها الراحل. فوالده يريد أن يحصل على حضانة الطفلة لأنه يرفض أن
يتركها تعيش مع امرأة وحيدة (أرملة)، وشقيق الزوج الراحل يريد أن يتخذها
عشيقة له أو ربما يطمع في الزواج منها بينما هي لا تطيقه.
ومينة أيضا أصبحت مهددة بالطرد من الشقة التي تقيم فيها لأن
صاحب المنزل لا يقبل وجود امرأة وحيدة، خاصة وانها استقبلت في بيتها رجلا.
من هو هذا الرجل؟ إنه رجل غامض هبط عليها فجأة ذات يوم، قال لها إن اسمه
“رضا” وأصر على منحها مبلغ مالي كبير، بدعوى أن زوجها كان قد سلمه له
للاشتراك معا في مشروع ما لم يتحقق، وعندما يعرف بمشكلتها مع صاحب المسكن،
يمنحها شقة قديمة يمتلكها في أحد العقارات ويظل يتردد عليها ويساعدها
ويتلطف مع ابنتها رغم ما يرتسم على وجهه طول الوقت، من علامات التجهم.
سيتضح أن هذا الرجل ما هو سوى القاضي الذي أصدر حكمه بإعدام
زوجها، وأنه يشعر بالذنب، ويريد التكفير عن ذنبه، بل إنه يستقيل من عمله
احتجاجا على غياب العدالة عن النظام القضائي، ولرفضه الشديد لعقوبة الإعدام
خاصة وأنها كانت المرة الأولى له التي يصدر فيها هذه العقوبة. أما “مينة”
فلا تعرف حقيقته بل تقترب منه تدريجيا وتشعر نحوه بالثقة ثم بالحب، تصر على
أن يأتي معها ومع ابنتها الى السينما، وعلى أن يذهبوا جميعا معا في نزهة
خلوية. إنه يصبح تدريجيا الزوج البديل لها والأب البديل لابنتها التي تتعلق
به كثيرا.
يموت ابنه الشاب الفوضوي عازف الموسيقى بشكل مفاجئ بسبب
افراط في تناول المخدرات، وكان هذا الشاب قد غادر منزل والده كنوع من
التمرد (يظل مصير زوجة رضا غامضا ولكننا نفهم أن الطلاق وقع بينهما من
سنوات).. بعد وفاة الابن يصاب رضا بانهيار عصبي وتسرع مينة لتنقله الى
المستشفى ثم تأخذه الى شقتها لترعاه. وبعد أن تتحسن حالته، تكون قد بدأت
تقترب منه أكثر، وتشعر نحوه بمشاعر المرأة، تهتم أكثر بمظهرها، يفارقها
الحزن، تخلع الأسود، وترتسم الابتسامة على وجهها بل ويعرف الضحك أيضا طريقه
إليها.
ماذا يمكن أن يحدث والحال هكذا؟ رجل يشعر بالذنب، هو
المسؤول عن موت زوجها، وامرأة تتطلع للحياة، لا تكاد تصدق أن الله قد أرسل
إليها هذا الرجل “الصديق” الوفي الذي يمنحها كل شيء؟ وماذا يمكن أن يحدث
عندما تعرف في النهاية حقيقته؟
ليس هذا مهما رغم أن الفيلم ينتهي بالطبع بالتواء في الحبكة
ومفاجأة صادمة، لكن المهم أن فيلم “قصيدة البقرة البيضاء” الذي يبدأ بآية
من سورة البقرة هي “وإِذ قال موسَى لقومه إِن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة
قالوا أتتخذنا هزوُا قال أعوذ بِاللَّهِ أن أكون من الْجاهِلين”، ثم بلقطة
لبقرة بيضاء تقف في ساحة ضخمة مثل ساحات الإعدام العسكرية بينما يصطف عشرات
الجنود على الجانبين يحملون أسلحتهم، يتجه أكثر نحو تكسير التابوهات
الموروثة في السينما الإيرانية، فهو أولا يشير بوضوح إلى كون ابن القاضي
مدمن للمخدرات ويجعله يموت من الافراط في الجرعة، وثانيا يصور جارة “مينة”
في العمارة السكنية التي ستنتقل إليها وهي تمتلك كلبا أليفا، بينما يستنكر
القاضي (رضا) وجود كلب في البيت بدعوى أنه “نجس” طبقا للمفهوم الإسلامي،
فتدافع هي عنه وتقول إنه مجرد حيوان أليف، وفي مشهد آخر تقول صاحبة الكلب
إنها حريصة على عدم تركه يغادر المنزل لأن الكلاب ممنوعة في الشوارع،
وثالثا: تفقد مينة عملها في مصنع الألبان، بعد اضراب العمال عن العمل
واعتقال الكثيرين منهم، وهو ما يعد ايضا من المحرمات في السينما الإيرانية.
في أحد أكثر المشاهد سخرية من الرقابة تقوم الابنة الصغيرة
“بيتا” بصبغ شعر أمها. لكن الأم تضع على مقدمة رأسها طاقية من البلاستيك
الأبيض كتلك التي تستخدم في الحمام، وتترك الجزء الخلفي فقط من شعرها واضح
لكي تقوم الطفلة بوضع الفرشاة عليه لتصبغه. وهو مشهد يمنحنا تأثيرا كوميديا
ساخرا مقصودا بالطبع!
هنا حديث أكثر من مرة عن فيلم من الأفلام الإيرانية التي
صنعت قبل الثورة الإسلامية وهو فيلم “بيتا” (1972) للمخرج حاجير داريوش،
بطولة المطربة والممثلة الشهيرة غوغوش التي امتنعت تماما عن الظهور الفني
بعد الثورة، ثم هاجرت عام 2000 الى الولايات المتحدة.
وتقول “مينة” إنها أطلقت على ابنتها اسم “بيتا” تيمنا بهذا
الفيلم، بل وتقوم بتشغيل نسخة من هذا الفيلم أكثر من مرة حيث نشاهد غوغوش
من دون حجاب بوضوح تام في مخالفة صريحة لقواعد الرقابة الإيرانية. ولكن
يأتي المشهد الأكثر جرأة والذي نعتقد انه قد يؤدي إلى محاكمة الممثلة مريم
مقدم وشريكها في الإخراج.
بعد أن تتوثق العلاقة بين مينة ورضا (الذي سنعرف أن اسمه
أمين في النهاية)، تستضيفه في بيتها، تعد له الطعام، يجلس الاثنان معا في
الشرفة في الليل في جو شاعري يوحي بالتهاب المشاعر. لكنه ينسحب الى غرفة
النوم في الداخل. تظل الكاميرا من بعيد في منظر عام مسلطة على مريم جالسة
في الشرفة في المقدمة، بينما يجلس رضا في الخلفية البعيدة يمكننا أن نراه
بوضوح. هذا التكوين الذي يجمع الاثنين في كادر واحد، مع إضاءة هادئة تكشف
المطلوب فقط في الصورة، يوحي بما تفكر فيه مينة، وما يشعر به رضا. وفي
اللقطة التالية نراها تقف امام المرآة، تتزين بوضع الماكياج على وجهها،
تطلي شفتيها باللون الأحمر، تزيح الحجاب جانبا، ثم تنزعه تماما عن رأسها
لتظهر الممثلة، لأول مرة في فيلم إيراني عارية الرأس بشعرها الأسود الجميل.
تقف أمام باب الغرفة التي يرقد فيها رضا. تتردد لحظة، ثم تفتح الباب وتنفذ
الى الداخل.
إن مينة هنا لم تسمح فقط بإقامة رجل ليس زوجها في منزلها في
مخالفة للقانون، بل تسري عنه بلمس جسده بيدها أكثر من مرة (وهو محظور طبقا
للرقابة) ثم تخلع غطاء الرأس أمام الكاميرا، ثم توحي لنا في اللقطة التالية
بأنها ستمارس معه الجنس. وهو مشهد شديد الأهمية لأنها في المشهد التالي
ستعرف من يكون “رضا”، وتنهار حياتها فوق رأسها، ويموت حلمها ببدء حياة
جديدة، وتحسم أمرها وتنتقم وتحقق “القصاص” بطريقتها الخاصة!
يتميز الفيلم بوجود سيناريو ممتاز، واضح القسمات مع شخصيات
واضحة المعالم، محدودة، دوافعها واضحة، وتسلسل منطقي للمشاهد، وحبكة لا
تقوم على الصراخ والعويل بل دقة في اختيار طول المشهد وما يكتفي منه،
وانتقال بالقطع في الوقت المناسب بعيدا عن الاستطرادات والشروح التي لا
ضرورة لها، ومراعاة للعلاقة بين الكتل والفراغ، واختيار ممتاز للأماكن
الطبيعية، وتوزيع للضوء يجعل الصورة تبدو طبيعية، والضوء يأتي من مصادره
الطبيعية، في النهار وفي الليل، في الداخل وفي الخارج، ولقطات الكلوز أب
القريبة للوجوه، تجعلنا أحيانا نرتعد ونحن نقترب من انعكاس الحدث على وجه
“مينة” في حين لا نرى الحدث نفسه (الإعدام)، ولا توجد قفزات، ولا استعراضات
بالكاميرا، ولا ثرثرة في الحوار، مع أداء تمثيلي عبقري، صامت لكنه معبر من
خلال قسمات وجه الممثلة مريم مقدم التي تحمل كل عذاب الدنيا، لكنها تمتلك
أيضا قوة شكيمة تدفعها الى مواصلة التحدي والعيش والإصرار على تربية ابنتها
الصماء، والوقوف في وجه المؤسسة الرسمية لانتزاع حقوقها. |