أوراق برلين السينمائي (1):
من دفاتر مايا إلى العنف الإسرائيلي
أمير العمري
اليوم الأول من أيام مهرجان برلين السينمائي الخمسة (من 1
إلى 5 مارس). مشاهدة الأفلام للنقاد والصحفيين المسجيلن تتم عن طريق الفضاء
الالكتروني (الانترنت) أي الوسيلة التي يطلقون عليها تسمية سخيفة هي
“الواقع الافتراضي” ولا أعرف لماذا الإصرار على اقتباس مصطلحات غربية
وترجمتها حرفيا بحيث تصبح بلا معنى!
المهم أن المهرجان العريق (هذه هي دورته الـ71) ينقسم هذا
العام كما نوهنا من قبل، إلى قسمين، الأول هو الذي يقام لأهل السينما فقط
هذه الأيام المشار إليها، زالقسم الثاني سيقام في شهر يونيو القادم ويستمر
12 يوما ويكون مفتوحا للجمهور في قصر المهرجان وقاعات مختلفة للسينما في
مدينة برلين، هذا بالطبع لو سمحت الظروف وكانت الأجواء مهيأة لاحتشاد
النجوم والمشاهدين مجددا داخل القاعات بفرض أن وباء كورونا سيكون قد انحسر
وهو ما نأمل أن يحدث في كل مكان.
شاهدت اليوم ثلاثة أفلام (وأنا أشاهد الأفلام على شاشة
كبيرة نسبيا وليس على شاشة الكومبيوتر)، منها فيلمان من أفلام مسابقة
المهرجان التي تضم 15 فيلما من ضمنها 5 أفلام ألمانية دفعة واحدة أي ثلث
أفلام المسابقة، والفيلم الثالث ضمن قسم “المنتدى” (فوروم). الفيلم الأول
هو الألماني “أنا رجلك”
I m your man
للمخرجة ماريا شرايدر، وبطولة الممثل الإنجليزي دان ستيفنز (الذي يجيد
اللغة الألمانية)، والممثلة الألمانية ماري إيغرت التي تقوم بدور “ألما”
الفتاة الوحيدة التي تشعر بالغربة عن العالم، وهي ستتعرف على شاب هو “توم”
الذي يقوم بدوره ستيفنز، لكنه ليس رجلا بل “روبوت” متقدم مصمم لارضاء
“الزبونة” (أما) وحسب احتياجاتها.
العلاقة بين الإنسان والروبوت ليست جديدة، بل سبق معالجتها
كثيرا في السينما والتليفزيون، ومن أشهر الأفلام الحديثة مثلا فيلم “إكس
ماشينا”، والموضوع عادة ما يثير من بين طياته بعض التساؤلات الفلسفية، عن
الإنسان ورغباته، وما الذي يبحث عنه في الحياة، وما الذي يريده من الرفقة
الإنسانية، وما هي السعادة، وكيف تتحقق، وهل الألم والخذلان والفشل وغير
ذلك من المشاعر السلبية، جزء من الطبيعة البشرية.
في سياق كوميدي إلى حد ما، تسير العلاقة بين ألما والرجل
الذي يعيش معها تحت سقف واحد، يفهم مشاعرها بل ويمكنه أيضا التنبؤ بما تفكر
فيه وتريده، وتدريجيا سيبدأ في الانتقال من مجرد روبوت جامد آلي ينفذ
المطلوب، إلى كائن يتعلم أن يكون له بدوره مشاعر تجعله يغضب ويفرح والأهم
بالطبع، يشعر بالحب.
طرافة الموضوع والمعالجة لا تنقذ الفيلم من الهبوط عندما لا
يقع أي تطور في الحبكة لأكثر من ساعة، بل تظل المخرجة تصف وتكرر وتعيد
وتزيد لكي تؤكد على الفرق بين ألما وتوم، إلى أن نصل إلى مرحلة التغير:
فتوم يتغير ليقترب من الاسنان، والما تكتشف الكثير من نفسها ومما كانت
تخفيه وتقمعه في داخلها، بفضل توم. أي أن الروبوت كان أكثر فهما لها من
حبيبها السابق الذي تخلى عنها وارتبط بامراة أخرى.
أداء مميز من جانب الثنائي (ستيفنز وإيغرت) مع الممثلة
ساندرا هوللر (التي تألقت من قبل في فيلم “توني إيردمان” (2016) ولكن في
دور صغير فرعي هنا، هو أيضا لروبوت نسائي.
دفاتر مايا
الفيلم اللبناني في المسابقة هو فيلم “دفاتر مايا” اخراج
جوانا حاجي توماس وخليل جوريج. ولكن الفيلم أساسا فيلم جوانا التي تروي هنا
عن نفسها وتقتبس من ذكرياتها الشخصية، من أيام مراهقتها في بيروت في زمن
الحرب الأهلية اللبنانية قبل أن تهاجر مع عائلتها أو ما بقي من العائلة،
إلى مونتريال.
هذا فيلم بسيط في تكوينه وبنائه، يقوم لا على دراما مباشرة
وصراع بين شخصيات، وأحداث كبيرة، بل على نوع من التداعيات التي تأتي من
تأمل صور من الماضي، من زمن الشباب، من مرحلة اللهو البريء والحب الأول
والصداقة الأبدية التي لا تصبح أبدية، ثم المعاناة القاسية بعد انفجار
الحرب الأهلية، مصرح الشقيق، انتحار الأب، هروب الصديقة خارج البلاد. ولكن
المدخل الى هذه الأمور كلها يكمن في ذلك الصندوق الضخم الذي يأتي مشحونا من
لبنان الى مونتريال حيث تقيم بطلتنا الآن مع ابنتها. ويحتوي الصندوق يتي
على كمة كبيرة من الصور والأوراق والمذكرات والرسائل وغير ذلك، مما يثير
رغبة الابنة- الحفيدة، في أن تعرف ما الذي تخفيه أمها في صدرها، ولماذا لا
تريد البوح لها، وما هو الماضي الذي لم تخبرها سوى بأقل القليل عنه ولذلك
فهي تتسلل وتفتح الصندوق الموجود في قبو البيت، وتطلع سرا على الكثير من
الأمور ثم تمارس ضغوطا شديدة على أما إلى أن تجلس وتروي لها الكثير مما
وقع. كيف كانت الحياة ثم كيف أصبحت.
إنه فيلم عن الحب الذي لم يكتمل، وعن العائلة التي مزقتها
الحرب، والرفاق الذين تفرقت بهم السبل، عن مأزق الغربة والحنين الى الوطن.
هناك لمسات شاعرية رقيقة تغلف الموضوع، واجتهاد في صنع سياق السرد بحيث يتم
تأجيل الكشف عن أشياء قد تكون صادمة الى قرب النهاية. ولكن هناك أيضا إحساس
بترهل الإيقاع العام للفيلم، بسبب الاستطرادات الكثيرة التي تكرر ولا تضيف،
وعدم قدرة الممثلين في كل المشاهد، على التماسك أمام الكاميرا ربما أيضا
بسبب ضعف الحوار بشكل عام.
العنوان الأجنبي للفيلم هو “صندوق الذاكرة”. المخرجة اقتبست
موضوع فيلمها من حياتها الشخصية (بتصرف) كما تذكر في مدخل الفيلم، وهي
تستخدم في تجسيد تلك الذاكرة أو استعادة الذكريات، الكثير من الصور
(الحقيقية والمصنوعة) كما تعود إلى مشاهد مصنوعة من الحرب اللبنانية،
لتكثيف أجواء الخوف والرعب والخطر التي عاشتها البطلة في شبابها والآن فإن
ابنتها “ألكس” هي التي تدفعها الى مواجهة الماضي الذي كان ثم التصالح مع
نفسها ومع ذلك الماضي أيضا وتجاوزه دون نسيانه. لكنها تستحدم أيضا أسلوب
الحكي الصوتي من خارج الصورة، في سرد طويل، فالأم ترةي لابنتها عن ذلك
الماضي وتفاصيل معاناتها مع أسرتها في لبنان في الثمانينيات. ولعل من أفضل
مشاهد الفيلم تلك التي تصور بيروت بين الماضي والحاضر، في زمن الحرب، وفي
الوقت الحالي، وصولا إلى معانقة المدينة وكل أصدقاء الماضي بعد ثلاثين عاما
من الانفصال.
إسرائيل تواجه نفسها
الفيلم الأهم من بين الأفلام الثلاثة هو دون شك، الفيلم
الإسرائيلي “أول 54 عاما- دليل مختصر للاحتلال العسكري” وهو فيلم تسجيلي
طويل من إخراج أفي مغربي. وهو المخرج الذي تثير افلامه الجدل داخل وخارج
إسرائيل، بسبب هجائيتها القاسية للعسكرية الإسرائيلية بوجه خاص، وللسياسة
الإسرائيلية بوجه عام. وهو من دعاة السلام، ومن المؤيدين للحقوق المشروعة
للشعب الفلسطيني.
وأنا أتابع أفلام أفي مغربي منذ ان شاهدت فيلمه “انتقم لعين
واحدة فقط” (2006) الذي كان يتناول من خلال أسلوب مبتكر وفريد في بناء
الفيلم التسجيلي، النزعة اليهودية نحو الانتقام. وكان يعود الى الأسطورة
التوراتية، ويصور تأثير الأسطورة على الفكر الإسرائيلي من مرحلة الطفولة
إلى الالتحاق بالجيش.
بعد ذلك جاء فيلمه “زد 32″، وفيه يستند على ما عثر عليه من
معلومات مصنفة في ملفات لدى منظمة “شوفريم شتيكا” التي قامت باستجواب
مجموعة كبيرة من الجنود الإسرائيليين الذين سبق أن خدموا في الأراضي
الفلسطينية المحتلة، وسجلت قصصهم وتجاربهم، ووضعت على كل ملف حرفا ورقما.
هذه الملفات هي ملفات “عمليات
الانتقام” التي تشنّها قوات الجيش الإسرائيلي ضد مدنيين فلسطينيين تستهدفهم
بالقتل.
ويركز الفيلم على حالة جندي شاب شارك في عملية خاصة قتل
خلالها اثنين من رجال الشرطة الفلسطينية. هذا الجندي السابق يظهر في الفيلم
وهو يخفي وجهه خوفا من أن يتعرف عليه الفلسطينيون، يتحدث تفصيلا عن دوره في
تلك العمليات القذرة، وكأنه في جلسة من جلسات التحليل النفسي من أجل تحقيق
نوع من الهدوء عن طريق البوح والاعتراف بالذنب.
يعتمد مغربي في أفلامه على أسلوب قريب من أسلوب مدرسة
“سينما الحقيقة” التي ظهرت في فرنسا في الستينات، أي السينما المباشرة التي
تعتمد على التقاط الحدث وقت وقوعه، وتقوم بتسجيله باستخدام كاميرات صغيرة
محمولة، دون الاستعانة بممثلين ودون التدخل في ضبط الزوايا ووضع الشخصيات
بطريقة فنية داخل الكادر، وكما تعتمد أيضا على جعل الكاميرا مثل الشاهد
الصامت المتحرك الذي لا يهدأ ولا يتوقف، وعدم التلاعب في الصور واللقطات عن
طريق المونتاج، وجعل المشهد الطويل أساسا لبناء الفيلم وليست اللقطة
القصيرة.
وهو يتبع أسلوبا مماثلا في فيلمه الجديد الذي يظهر فيه
بنفسه ليصحبنا كدليل يقدم لنا الوصايا التي تتبعها المؤسستان، السياسية
والعسكرية، في التعامل مع الأراضي المحتلة منذ 1967، والمفاهيم التي مازالت
تحكم عقلية الذين يديرون الصراع، من خلال ما يدلي به نحو 40 شخصا من الجنود
والضباط السابقين الذين خدموا في الأراضي المحتلة عبر الأجيال، من عام ما
بعد 1967 إلى ما بعد أوسلو. وتتضمن شهادت هؤلاء الكثير من التفاصيل التي
تدين إسرائيل وتكشف بوضوح عن سياستها العنصرية.
ليس من الممكن تلخيص فيلم كهذا، وليس من الممكن الاكتفاء
بالقول كم هو جريء ومدهش وصادم فيما يطرحه، بل لابد من مشاهدته. ولذلك أدعو
لعرضه في مهرجانات السينما التي تقام في العالم العربي كما أدعو إلى عرض
جميع أفلام أفي مغربي (64 سنة) الذي يدعم تماما إقامة دولة فلسطينية مستقلة
كاملة السيادة. |