بطل فيلم «صوت موسيقى الميتال»
ريز أحمد لـ«القدس العربي»: أقوم برحلة داخل ذهن إنسان فاقد
للسمع
حسام عاصي
لوس أنجليس – «القدس العربي»: كثيرا ما تركز الأفلام التي
تتناول ذوي الاحتياجات الخاصة على تفاعل هؤلاء مع المجتمع من حولهم
والتحديات التي يواجهونها خلال محاولتهم تحقيق ذلك.
لكن بعضها يحاول أن يجعلنا نشعر بالإعاقة من خلال التلاعب
بالسرد، مثلما فعل كريستوفر نولان في فيلم «تذكار» حيث جعلنا نشعر
بالارتباك والرعب الذي يعيشه فاقد الذاكرة. هذه الأيام، أطلقت شبكة
«أمازون» فيلماً عن الصم وهو «صوت موسيقى الميتال» الذي يقودنا في رحلة
داخل ذهن فاقد سمع من خلال استخدام تقنية الصوت.
يفتتح الفيلم بعرض موسيقي في حانة، حيث نشاهد روبين، قارع
طبول في فرقة لموسيقى «الميتال» تضمه وحبيبته، يجد صعوبة في سماع عزفه
والناس من حوله.
وبعد العرض، يذهب الى طبيب لفحص سمعه، فيخبره الأخير أنه
فقد ما يقارب تسعين في المئة من سمعه وينصحه بالتوقف عن عزف الموسيقى من
أجل الحفاظ على ما تبقى من حسه السمعي.
لكن روبين يرفض الاعتراف بمعضلته ويستمر بعزف الموسيقى إلى
أن يفقد حاسة سمعه تماماً.
فيصاب بالهلع ويكشف حقيقة إعاقته لحبيبته ويخبرها أنه
سيستمر في العزف حتى انتهاء جولتهم الموسيقية في الولايات المتحدة. لكنها
ترفض قراره وتقنعه بالانضمام لنادٍ للصم يقع في منطقة نائية، ويديره خبير
في لغة الإشارة وقراءة الشفاه، يدعى جو، الذي يخبره أن عليه أن ينتقل للعيش
في النادي مع الصم وأن يبدأ حياة جديدة معهم.
روبين يرفض أن يتخلى عن حياته وأن يسجن نفسه في ناد
للمعوقين، فيتوسل الى حبيبته أن لا تتركه هناك، لكن دون جدوى. فتتحول حياته
الى كابوس مرعب.
ويجسد دور روبين الممثل البريطاني – الباكستاني الأصل، ريز
أحمد، الذي قضى سبعة أشهر في مجتمع الصم، تعرف خلالها على نهج حياتهم وتشرب
حضارتهم وتعلم لغة الإشارة. وخلال التصوير، قام بإدخال سماعة تبث ضوضاء
بيضاء عميقاً في قناة أذنه حالت دون سماعه نفسه عندما يتكلم. «كثيراً ما
كنت أقضي يومين على تلك الحال في موقع التصوير، فقط لآخذ لمحة عن تلك
التجربة وكم كانت مربكة» يضيف ريز، عندما تحدثت معه عبر خدمة «زوم».
ذلك التحضير ساهم فعلا في تقديم تجسيد مقنع لفاقد السمع،
لكن تعاونه مع مصمم الصوت كان فعلا ساهم في تماهينا مع شخصية روبين وجعلنا
نعيش تجربته من خلال تصميم الأصوات المختلفة التي كان يسمعها في مراحل
مختلفة من أحداث الفيلم.
«تصميم الصوت في جزء كبير منه في الفيلم يرتكز إلى جسدي»
يعلق أحمد. «كان مصمم الصوت يضع ميكروفوناً على صدري ويطلب مني أن أتنفس أو
أبلع أو أرمش أو أن ألعق شفتي. فعندما تفقد سمعك الخارجي وتكون في هذه
المنطقة الرمادية، يقوى سمعك الاهتزازي لعملياتك الداخلية كالمضغ والبلع
والتنفس. وبالتالي تصميم الصوت في جزء كبير منه في الفيلم مبنيّ على ذلك.
وهو بالفعل ما يساعد على تشكيل هذه التجربة الشخصية».
أحمد، الذي يعتبر أول مسلم يفوز بجائزة الإيمي للتلفزيون عن
أدائه في مسلسل «ذي نايت أوف» معروف بأدواره في أفلام مستقلة مثل «الطريق
الى غوانتانامو» و«الأصولية المترددة» وأفلام هوليوودية مثل «روج ون: قصة
من حرب النجوم» و«نايت كرولار» و«جيسون بورن». وهو أيضا موسيقار محترف وعضو
في فرقة موسيقية تدعى «سويت شوب بويز» وفاز بجائزة من جوائز «أم تي في»
للأغاني المصورة عن أغنية المهاجرين «نحن ننجز المهمة».
لغة الإشارة
وبعد أداء دور روبين صار يؤمن أنه بإمكانه ممارسة فنه حتى
في حال فقد سمعه.
«كالكثير من غير الصم ترعرعت على الاعتقاد بأن الصم إعاقة»
يقول أحمد. «لكن الصم ثقافة، الصم هوية. إنها ثقافة غنية ولدينا الكثير
لنتعلمه عنها، لا بسبب الصم بل بفضله».
ويستحضر أحمد محادثة مع مدرب لغة الإشارة، الذي قال له إن
الكثير من الصم يعتقدون أن الأشخاص صحيحي السمع مكبوتون عاطفياً، وذلك
لأنهم يختبئون وراء الكلمات، بينما في مجتمع الصم، الناس يتواصلون بشكل
أكبر بكثير، لأن هناك تشجيعا على التواصل. وعندما لا يمكنك الاختباء وراء
الكلمات فإنك تتواصل من خلال جسدك، وعندما تعيش ما تقوله فإن ذلك يجعلك
منفتحاً بطرق مختلفة.
«المرة الأولى التي تمكنت فيها من إجراء محادثات معقدة أو
عاطفية حول شخصيتي باستخدام لغة الإشارة، وجدت نفسي مشحوناً بالعواطف. أنا
لم أعد أراها كإعاقة بل كأسلوب حياة آخر» يضيف أحمد.
ثقافة الصم، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، هي مجموعة
من الأفكار والقيم والعادات والفنون والتاريخ والمؤسسات المشتركة في مجتمع
الصم، الذي يضم أيضا أقرباء وأصدقاء الصم، ومترجمي لغة الإشارة. الصم
يرفضون وصفهم بمعاقين ويستخدمون لغة الإشارة، وهي شرط أساسي لولوج مجتمعهم،
للتواصل.
لكن بول ريسي، الذي يجسد دور جو، أخبرني خلال حديثنا عبر
خدمة «زوم» أن والديه الأصمين كانا يعتبران نفسيهما معاقين. بول ليس ممثلاً
وحسب، بل هو أيضا عازف موسيقى منذ الصغر كان يطرب والديه الأصمين من خلال
لغة الإشارة. وقام لاحقا بتأسيس مسرح للصم في لوس أنجليس وما زال إلى اليوم
نشطاً في مجتعمهم ويروّج لثقافتهم.«كان والدي يشعر بالظلم الشديد من قبل
الأشخاص صحيحي السمع، الذين كانوا يتحكمون بعالمهم. لم تكن هناك أي
تكنولوجيا ولا عروض نصية للحوار أو أي من كذلك، وبالتالي كنت المترجم الخاص
بهم. كان أبي يقول دوما: أنا أصم لا يمكنني التواصل واحتاج لمساعدة إبني.
لكن حال الصم تغير وتحول على مدار السنين إلى ما هو عليه الآن. فباتوا
يقولون: نحن ثقافة ولا يوجد عيب فينا وليس هناك ما يستدعي إصلاحه هنا. أنت
معوّق لأنك لا تتكلم لغتي. الشيء الوحيد الذي لا يمكنني فعله هو السمع.
وهذا هو السلوك الذي يتحلى به الشباب من الصم اليوم وكذلك الأكبر سناً.
هناك صم ينتجون ويؤدون مسرحيات كلاسيكية للصم وغير الصم، لكي يشاهدوا كيف
تتمظهر ثقافتهم. كما يرفض الصم مصطلح ضعيفي السمع. يقولون لك نادني بالأصم،
فهذا أنا، ولست ضعيف السمع».
فقدان لكل مكونات هويته
لكن فقدان روبين سمعه ليس مجرد إعاقة بدنية وحسب بل هو
فقدان لكل مكونات هويته، مثل حبيبته، ومجتمعه والموسيقى، التي فضلاً عن
كونها وسيلته التعبيرية والإبداعية فقد كانت أيضا علاجاً لإدمانه على
المخدرات وتحصيناً له منها. لكن جو يحثه على تغيير نهج تفكيره وإقناع نفسه
أنه ليس معاقا وبناء هوية جديدة له من خلال الانغماس في مجتمع الصم وتبني
ثقافتهم.
«أن تكون قادراً على السمع ثم تفقده بعد دقيقة سيغير كل
شيء» يقول بول. «عندما كنت أذهب مع والدي لم يهتم للونك أو ميولك الجنيسية.
لم يكن يعنيه أي شيء بشأنك. إذا كنت أصما، فأنت على ما يرام في قاموسه. هذا
كل ما كان يهمه وأي شيء آخر يأتي بعد ذلك، هذا بالفعل يحدد هويتك».
لكن روبين يرفض هويته الجديدة، لأنها جعلته يشعر أن حياته
صارت بلا معنى أو قيمة. فيخضع لعملية زراعة القوقعة التي تتم من خلال غرس
جهاز إلكتروني داخل الأذن الداخلية كبديل للقوقعة الطبيعية، يلتقط الصوت من
معالج كلام الكتروني مركب وراء الأذن، ويحوله الى إشارات كهربائية يرسلها
لعصب السمع، الذي ينقلها بدوره الى الدماغ.
نجاح تلك العملية يتباين من شخص لآخر، ولا يمكن أن يعيد
حاسة السمع بأكملها. وبما أن مجتمع الصم يعتبرها خيانة يقوم جو بطرد روبين
من النادي.
«بالنسبة لجو هو أراد أن يحافظ على ثقافة الصم» يقول بول.
«عندما ظهرت عمليات زراعة القوقعة منذ سنوات، نزل الخبر كالصاعقة على مجتمع
الصم. فقالوا: إنهم يحاولون التخلص منا».بعد اجراء العملية، يقع روبين في
صراع نفسي جديد ويبدأ بالتساءل إذا كانت الحل الصحيح لمحنته وصار يحن
للهدوء الذي منحه اياه فقدان السمع.
«علينا أن نفكر بعمق أكثر بهويتنا» يقول أحمد. «أعتقد أن
هذه هي مشكلة روبين. كان يستخدم علاقته مع حبيبته كضمادة لجراحه. وكان
يستخدم هدفه كقارع طبول كضمادة لجراحه. وعندما تمزقت تلك الضمادات مجدداً
أصبح كحيوان جريح. أظن أن ما يحبطه في الحقيقة متعلق بهويته. لكن الرحلة
التي يشرع فيها تدفعه إلى إدراك أننا أكبر من الأمور التي نقوم بها. هناك
ذات تتجاوز هذه الأمور الخارجية التي نفعلها وأعتقد أن هذه هو الدرس الذي
يجب أن يواجهه روبين».
صوت موسيقى الميتال ليس دراسة إعاقة ما وحسب، بل هو سبر
لمفهوم الهوية وتقبلها. ورغم ضعفه على المستوى السردي والدرامي، الفيلم
فريد من نوعه وذلك لأنه يجعلنا نشعر بفقدان روبين للسمع من خلال محاكاة ذلك
الفقدان بتقنية الصوت، فيعزز من تماهينا معه في رحلته العاطفية التي تبدأ
ككابوس مرعب وتنتهى براحة نفسية. |