استوقفنى فيلمان، من الأفلام التى عُرضت آخر أيام المهرجان،
يستحقان التفكير فيهما بسبب موضوعاتهما الساخنة، وأسلوبهما الفنى المتناقض
فى التعبير عن هذه الموضوعات، الأول بريطانى، والثانى لبنانى.
كيف تصنع فيلمًا كوميديًا عن موضوع كئيب؟
كثيرة هى الأفلام التى تناولت مشكلة اللاجئين فى السنوات
الأخيرة، وكثير منها يغلب عليه طابع التعاطف والشفقة على حساب الفن والمتعة
الفنية، ولكن ها هو فيلم رائع فنيًا يناقش القضية من منظور كوميدى لا يغيب
عنه الجانب الإنسانى، بل تعطيه الكوميديا حسًا راقيًا ورقيقًا يزيده
إنسانية.
الفيلم بعنوان
«Limbo»
من إخراج الأسكتلندى بن شاروك وبطولة المصرى أمير المصرى، والذى يشارك فى
المسابقة الدولية لمهرجان «القاهرة». الفيلم سبقت له المشاركة فى مهرجانى
«كان» و«تورنتو» الماضيين. فى «كان» لم يعرض بسبب إلغاء الدورة، ولكنه عرض
فى «تورنتو» حيث حقق نجاحًا نقديًا كبيرًا.
الفيلم تمت ترجمته فى كتالوج ومطبوعات مهرجان «القاهرة»
باسم «التيه»، والحقيقة أن الكلمة الإنجليزية، لاتينية الأصل، لها مرادفات
كثيرة ليس من بينها التيه، ومعناها الأصلى، هو الحفرة المحايدة التى ترسل
إليها أرواح الأطفال غير المعمدين وفقًا للمعتقدات المسيحية الأوروبية، أو
«الأعراف» وفقًا للقرآن الكريم، وهو ذلك السور العالى الفاصل بين الجنة
والنار، والمقصود فى الفيلم هو ذلك المكان النائى المنسى على إحدى الجزر
الأسكتلندية، الذى يرسل إليه بعض المهاجرين غير الشرعيين إلى بريطانيا،
انتظارًا للبت فى أمر هجرتهم: هل يحصلون على الإقامة أم يتم ترحيلهم؟،
وعادة ما يستغرق القرار سنوات يظل فيها هؤلاء المهاجرون داخل الحفرة
الفاصلة بين الجنة والنار.
فيلم «الأعراف» أو «عالم النسيان» أو أى اسم مناسب غير
«التيه»، يدور حول عدد من المهاجرين يتم إرسالهم إلى ذلك المكان المنسى
البارد، ويركز الفيلم على شخصية عمر، الشاب السورى الهارب من جحيم الحرب
الأهلية، وهو عازف محترف للعود، مثل أبيه، ونعرف من خلال محادثاته الهاتفية
أن والديه فرا إلى تركيا، بينما قرر أخوه الأكبر البقاء والمشاركة فى
الحرب. و«عمر» معلق فى المكان لا يعرف مصيره، ولا يستطيع أن يعمل أو يرتب
حياته فى هذا المكان، وحتى حبه للعزف لم يعد يشعر به، بالرغم من أنه يسحب
عوده وراءه فى كل مكان.
فى المشهد الأول من الفيلم نتابع لقطات شبه ثابتة داخل فصل
تعليمى، تقوم فيه معلمة، تبدو على ملامحها الجدية الشديدة، بالرقص فجأة على
إيقاع أغنية قديمة وتدعو مساعدها للرقص معها، بينما يتطلع إليها ببلاهة عدد
من الشباب الذكور من جنسيات إفريقية وآسيوية، وهى تدفع شريكها فى الرقص
كلما لمسها، قبل أن تقوم بصفعه فى النهاية، والسؤال الذى توجهه لطلابها هو:
ما الخطأ الذى ارتكبه شريكها فى الرقص؟
يخلو المكان بالتدريج لأسباب مختلفة ولا يبقى سوى عمر وشاب
باكستانى يظل محافظًا على تفاؤله ومرحه، على عكس عمر الذى يزداد اكتئابًا
خاصة بعد أن يكتشف جثة مهاجر زميل كان يحاول الهرب وسط الجليد. ولكن عندما
يصل أخيرًا خطاب قبول هجرة زميله الباقى الوحيد، يدرك عمر أن هناك أملًا فى
خروجه من حالة اللاوجود واللاعدم هذه.
قدرة المخرج بن شاروك على استخراج الكوميديا من هذه القصة
الكئيبة مدهشة، ويساعده على ذلك فريق تمثيل رائع على رأسهم أمير المصرى فى
دور عمر، والذى أتصور أنه سيكون بداية مستقبل كبير له فى السينما الأوروبية
والأمريكية، لينضم إلى رامى مالك ومينا مسعود كسفراء شباب لفن التمثيل فى
مصر.
ويعتمد شاروك على أسلوب اللقطات شبه الثابتة والممثلين
الذين يثبتون ردود أفعالهم كما لو كانوا فى صورة فوتوغرافية، باستثناء قليل
من المشاهد التى تدب فيها الحركة، مما يرسخ حالة السكون التى تعيش فيها
الشخصيات، وحالة اللاحركة التى تغرق فيها هذه المنطقة.
أين سنكون بعد30 سنة؟
فى قسم العروض الخاصة يأتى من لبنان فيلم «عالم التليفزيون»
إخراج روبير كريمونا، ليطرح سؤالًا حساسًا ومثيرًا للجدل: ألا توجد وسيلة
أمام العالم العربى يتقدم بها إلى الأمام إلا بفتح أبواب الحرية حتى لو كان
ذلك يعنى التسامح مع مواد إعلامية تجارية وتافهة؟. يروى الفيلم قصة شاب
يعمل مذيعًا تليفزيونيًا لبرنامج يستضيف فيه فتيات «متحررات» يتحدثن عن
حياتهن العاطفية والجنسية، ويخترن شبابًا للمواعدة، وهو برنامج يثير استياء
المحافظين فى المجتمع اللبنانى، ومنهم عم البطل نفسه، وصحفية تنتمى لعائلة
متشددة دينيًا تشن حربًا على البرنامج تتصاعد حدتها على وسائل التواصل
الاجتماعى تتسبب فى تخريب حياة المذيع الشخصية والكثير من الفتيات
المشاركات فى البرنامج.
والسؤال الذى يطرحه الفيلم من خلال مدير المحطة التى يعمل
بها المذيع، ثم على لسان المذيع نفسه: علينا أولًا أن نتخيل كيف سنصبح بعد
ثلاثين عامًا من الآن، لو أطلقنا الحريات، ولو رحنا نطاردها كما نفعل الآن؟
الفيلم ذكّرنى بحياة الأمريكى لارى فلينت التى تحولت لفيلم
شهير بعنوان «الشعب ضد لارى فلينت»، وهو إعلامى تخصص فى إصدار مجلات تحتوى
على صور ومواد جنسية وتسخر من رجال الدين والسياسيين خلال سبعينيات القرن
الماضى، وهو ما عرضه لثورة غضب داخل الولايات المتحدة ورفع عشرات الدعاوى
القضائية ضده وقيام أحد المتشددين دينيًا بإطلاق النار عليه مما أدى إلى
إصابته بالعجز، ولكن لارى فلينت لم يتراجع وواصل رفع دعاواه المضادة حتى
وصل إلى المحكمة الدستورية العليا التى كان عليها اتخاذ قرار تاريخى بتعديل
الدستور، وإضافة نص يكفل حق المواطنين فى التعبير وحمايتهم، ولعلهم كانوا
يفكرون وقتها فى مستقبل أمريكا بعد ثلاثين عامًا.
بالمناسبة لارى فلينت لم يزل حيًا، وظهر فى برنامج
تليفزيونى منذ عامين عرض فيه عشرة ملايين دولار لأى مواطن يدلى بمعلومات
تؤدى للإطاحة بالرئيس السابق دونالد ترامب.
فيلم «عالم التليفزيون» بسيط فى صنعته، مباشر التعبير،
صورته تعج بالحركة والحديث كما لو كان برنامجًا تليفزيونيًا، والمخرج نفسه
صنع فيلمه السابق مستخدمًا كاميرا الهاتف المحمول فقط، ولكن الغريب أن هذا
الأسلوب متناسب مع موضوع الفيلم وطريقة عرضه التى تشبه برنامجًا
تليفزيونيًا يطرح الأفكار المتباينة، ويترك للمشاهد اتخاذ رأى وقرار فيها. |