مُراجعة الأيرلندي: سكورسيزي في مهب الريح
أحمد الخطيب
“تسير
أغلب الأعمال بطريقة تُشبه ــ معلومات، قطع…معلومات، قطع…معلومات، قطع ــ
المعلومات بالنسبة للمُخرجين هي مُتن القصة. لكن بالنسبة لي، هُناك وفرة من
الأشياء التي تدنوا من كونها معلومات، وتتآلف مع حيواتنا الخاصة بشكل وثيق،
بيد أنها لا تتصل أتصالاً مُباشراً بالقصة، أنا أحاول الخوض… الأفلمة… أخذ
مساحة في الزمان والمكان، والكثير من الأشياء الأخرى، لذلك أنا أعمل بنفس
الطريقة ــ معلومات، قطع…معلومات، قطع…معلومات، قطع ــ غير أنه بالنسبة لي
المعلومات ليست هي كُلّةُ القصة”. المُخرج وكاتب السيناريو (بيلا تار).
هُنا (مارتي) حاول فعل بالضبط ما قاله المُخرج (بيلا تار)
ولكنه لم يُنتج سوى نُسخة رائعة كَهلة لفيلمه القديم (الأصدقاء الطيبون)
بعدد ساعات أكبر، وبإسهاب ومط فيه إغفال لروح أفلام عصاباته الأولى، وفيه
ارتياح وخفة في أداءات ممثلين ربما كانوا على وشك التقاعد فأعادهم مرة أخرى
للحياة.
سكورسيزي مزدوج، القديم يُلاحق الجديد… الفِكر والتوقعات
قبعات ومعاطف بألوان رمادية، بذات رسمية وحُلل منمقة، خواتم
ذهبية ضخمة وأسلحة نارية في حجم كف اليد مُندسة في الجيوب، قطع لحم كبيرة،
ورقائق ذرة مغموسة في الخمر، نُدف من الدم على
الحائط، وحناجر مملوءة بالصيحات. بالإضافة للكثير من الأشياء الأخرى التي
ستصطدم بها خلال مشاهدتك لفيلم ثلاث ساعات ونصف من الحوارات واللقطات
المتوسطة والديباجة التي صبغت النصف الأول من الفيلم لتأتي بنتائج مُرضية
في النهاية؛ بيد أن كُل هذه الأشياء لا تصيغ سيماء فكرية مُعينة، أرقى من
أقرانها الراسخين في حقيبة السينما.
أكثر المتشائمين استنبأوا بقُدرة المُخرج العجوز (سكورسيزي)
على خطف قلوب الجماهير، (سكورسيزي) الذي مرّ بالعديد من التجارب السابقة،
تمكن فيها من صُنع أفلام ذات توجهات مُختلفة، ومواضيع مُتباينة، لكن من بين
سيرة غصة بالعظمة والسمو، وأعمال تلتمع على سطح السينما، هُناك جواهر ثقيلة
في الأعماق، مثل فيلم “سائق التاكسي” وفيلم “ملك الكوميديا” ومن بين تلك
الجواهر -وأقصد هُنا الأشياء التي يؤوب المقال إليها- الأشياء التي برع
فيها حقاً، وأحبها حقاً مثل “الأصدقاء الطيبون” و”كازينو” و”عصابات
نيويورك” و”المغادرون” وهي أفلام العصابات التي تناولها بأوجه مُختلفة وفي
حِقب مُتباينة، بفلسفات القتل مُتعددة.
لقد أبدى مهارة مُنقطعة النظير في صُنع أفلام العصابات،
وأجاد نسج خيوط شخوصه الذي يُضفي عليها بُهاراته الإيطالية المخصوصة،
بالإضافة لتشكيله الممتاز للعامل الزمكاني الذي يُضفي على السرد نوعاً من
الواقعية باختياره الحِقب المُناسبة والبُقع المُلائمة، والأجواء المُتفقة
مع طبيعة الفيلم، وهذا بجانب عوامل إخراجية أخرى، وحذق في الانتقاء
والانتقال بين الكادرات، واصطفاء طاقم ممثلين يمتازون بطبيعة وصوت يُلائم
قوة الفيلم.
إنما كُل ما في الأمر أنه فيلم عصابات! مرة أخرى! بعد كُل
الأفلام والمحاولات التي امتصت الفكرة، وقدمتها بكُل وجه ممكن، ثم ألقت بها
في أكبر سلة قمامة، والآن (سكورسيزي) يتلقفها مرة أخرى، يستدعيها ويستجلب
معها الصخب والضجيج، ليعيد الأمل في فيلم عصابات تمنى الجميع أن يكون بحجم
مكانته، وتوقع الجميع أن يبتعد عن الأفكار المُستهلكة قبلاً ليُنتج نوراً
جديداً.
ولكن إذا فكرنا، بعد أفلام “سيرجي ليون” بفلسفتها وسردها
المميز للأحداث، و”العراب” للجبار “فورد كوبولا”، وعصابات
“كوينتن
تارانتينو”
ما بعد الحداثية، وعُصبة أفراد “جاي ريتشي” المُثيرة للسخرية، والكثير إذا
أسهبنا في الحديث، هل من جديد؟ حتى لو تم استهلاك جميع الأفكار التي تدور
في حيز أفلام العصابات، كان الجميع يتوقع من مارتي الأفضل، حتى إذا لم يأت
بفكرة عبقرية، يُمكنه أن يُقدم وجبة دسمة يرجف لها الجسد، وينبض لها القلب
شغوفاً، وهذا ــ رُبما ــ بالفعل ما قدمه مارتي، في رِتم يسير بسرعة ثابتة
نحو الأمام، وحلقات زمنية تُحكى من منظور “الفلاش باك” وهذا شيء يجب أن
نتوقف عنده، لأن الإقدام على صُنع فيلم يزيد عن الثلاث ساعات هو تحدٍ هائل،
سواء للميزانية الإنتاجية للفيلم، أو للجمهور الذي سيجلس لأكثر من ثلاث
ساعات يُحملق في الشاشة، بيد أن الفيلم لم يفقد الرِتم حتى لو للحظات
قليلة، وهذا شيء رائع، يدُل على مهنية عالية وخبرة حاضرة لكلا الطرفين
الممثلين والمُخرج.
بيد أنه إذا حاولنا وضع اليد على المنطقة الجديدة في
الفيلم، لن نجد شيئاً جديداً إلا بعض المشاهد المُتفردة في تركيبها، والذي
أرتفع نسقها بسبب قوة حضور الممثل على الشاشة، ولكن يجب أن نسأل أنفُسنا
دون تحيز هل أتى (سكورسيزي) بجديد؟ يُمكننا أن نقول بضمير مُرتاح، لا، لم
أشعر أن هُناك كيس إبداعي مُنتفخ ينقبض وينثني في مُعاناة، وتكوين، وترسيب
لسنوات ثم ينفجر في مثل تلك القصة!!
مارتي الخلّاق حاول الانفجار، والحق أنه لم يخرُج من بين
تماثيل الماضي الذهبية سوى برمادٍ لا يسمن ولا يُغني، وأستطيع القول إن
مارتي لم يترفع عن الماضي، بل أنه تلاشي في وسط زحام الأفكار، جعله هذا
ينجذب لفكر أفلامه السابقة ــ أو ببساطة أخذها كنموذج يُعيد به بناء فيلمه
الجديد ــ وللأسف لم يستطع أن يخرُج من رقّ أشياءه القديمة، حتى لو لونها
بالهدوء، وشكّلها بأسلوب أخر لكي يدخل اللعبة مرة أخرى ولكني لم أجد سوى
(الأصدقاء الطيبون) مترهلاً.
أنا لم أعرف كيف أضع يدي على المُعضلة، الفيلم يسير بالنسق
المطلوب، نحو الأمام، ولكن أنا أعلم بالطبع ما سيحدث، وإذا كان أحد ما يود
أن يُقدم فيلم عصابات، العامل الأول الذي يجب أن يطبع به عمله هو الدهشة،
وأنا لم أقابل أي نوعاً من الدهشة، فقط…متوالية من الخطوط الزمنية، التي لا
تكون عُقدة يجب على المُشاهد التفكير في حلها، بقدر ما تُمهد لفعل معروف
ماهيته من أول ساعة ونصف. لذلك الفيلم أشبه بدراسة الحالة.
الخبرة ليست كُل شيء
هُناك فارق كبير بين أن تصنع فيلماً رائعاً، وأن تصنع
فيلماً بفكر جديد، تضُج به كحالة غرائبية غير مُكررة، وسيأخذ نفس الحفاوة
التي سيحصل عليها الفيلم الرائع، ولكن مكانته بين صُنّاع السينما ذاتهم
ستختلف، لأن الفيلم ذا الفكر الإبداعي، هو منهج ونسق كامل، يستلهم فكرهُ من
تطويع واستحداث وصُنع قالب مُختلف بنفس الأدوات التي يستخدمها البعض لصُنع
فيلم عادي، وذاك الإلهام يظل لسنوات، ورُبما يصنع موجة جديدة تسير على نفس
النهج والمنوال، أو أن تُسمى الطريقة باسم “مارتي العجوز”، ويُطبع أسمه على
كُل من ألهمتهم طريقته. وأنا لا أقصد بهذا أن مارتي فقد هويته بطريقة ما،
أو أنه لم يطبع بصمته في كُل شبر من سينما الشوارع، وكُل عضو من أعضاء
صُناع السينما الموجودين بعده. بالتأكيد سكورسيزي لم يفقد هويته، وهذا
الفيلم أكبر دليل على ذلك، ولكنه وضع كُل خبرته في هذا الفيلم، أنه أشبه
بأن تنطلق بدراجتك الهوائية مُغمض العينين، ويداك مُنفرجتان في الهواء،
فأنت شيخ الطريقة وسيد الأسلوب، لا تخاف شيء، وتحترم الطريق كما يحترمك،
فهذه التجربة يُمكن أن تكون أصعب تجربة وتحدٍ خاضه مارتي، فهو المُشرف على
الكتابة والإخراج واختيار طاقم الممثلين بشكل كامل، وكأنه يقول أنا أستطيع
الآتيان بما لم يأت به الأوائل ــ والأوائل هُنا أقصد بهم سكورسيزي نفسه،
لذلك كان بالنسبة لي “سكورسيزي يصارع نفسه” ــ ولكنه لم يأت بجديد حقاً!
وهُناك الكثير من علامات الاستفهام التي وجب التحديق بها!
صُنع فيلم ليس جمع أقاصيص قديمة، وجلب عدة عظماء جيوبهم
مُثقلة بجوائز الأوسكار، وتلفيق هذا ما ذلك لجس نبض جديد في قصة ماتت منذ
زمن، ولكن المُدهش أن الفيلم خرج مميزاً، وهذا ليس غريباً. ولكن الصنعة
الإبداعية تفرض التجديد، وليس الحنين للقديم بشيء سيء ولكنه يُشبه كثيراً
ما حدث قبلاً، مثل ديجا فو.
أنا أقصد هُنا هي طريقة العرض، ولا أقصد مُتن الأحداث
نفسها، فقصة (فرانك شيران)
قصة لم أسمع بها، رغم أنها عُرضت من قبل، ولكن ألا من سبيلاٍ لعرض الفكرة
غير الكليشيهات العصابية المعروفة؟ أنا أعرف أن الموضوع صعب، لأن السيّر
الذاتية، أو الأفلام المُقتبسة من كُتب يصعُب تغيير قلبها، وطريقة سيرها،
ولكن هذا الكلام يوجه لأي مُخرج غير (سكورسيزي). فهي نفس الطريقة في جميع
الأفلام السابقة، القتل بدم بارد، والمُداعبات والسخرية قبل القتل، الخواتم
المتبادلة علامة على التقدير، المناوشات والخفّة وضحايا الرصاصات الخاطفة
والأقدام السريعة، الرأس الكبير وزعيم العصابات الذي يحترمه الجميع، إنها
قصة مُثيرة، ولكنك رأيتها يوماً ما.
الشيء العظيم في هذا الفيلم، هو رُبما (آلبتشينو) وبالتأكيد
(جو بيتشي)، أنهما الشيء الوحيد المُتمرد على عوالم العصابات المعهودة،
وكليشيهات الأفلام السابقة، وأظن أن ممثل بقدر وحجم (آلبتشينو) هو أضافة
قوية لعوالم مارتي، بل أضافة لشخصية (جيمي هوفا) نفسها، هذا العجوز الرائع،
بطاقته اللامتناهية، ورأسه الصلفة، وصوته الذي يصدح بالثورة والتمرد، وهذه
الصفات رُبما تكون أقرب إلى عوالم عصابات مارتي، ف(جيمس هوفا) الشامخ،
المُكابر، الذي يتميز بروحه النشطة، وقلبه الشغوف، وحنجرته الرخيمة، وفمه
المفوه، قد صبغ العالم بلون خالص به، قائدٌ للتكتلات العُمّالية، وسائقي
الحافلات، يصدح صوته بالشعارات والحوافز الكلامية، وكأنه مُبارز كلامي،
وهذا غريب على العصابات من الناحية الأخرى. أما (بيتشي) والذي رفض هذا
الدور أكثر من عشرين مرة من قبل، فقد كان هادئاً، مميزاً، أنه مجموعة من
المشاعر الممتزجة بالصورة، القسوة والحُب والحقد، شيء مثل غيمة، وثمة أمطار
داخل الغيمة، ولكنها في الأول والأخر غيمة ظل.
كُل مُخرج هو سيد فيلمه الخاص، يعرض أضخم مساحة من الدواخل،
ويمزجها بوفرة من العناصر التي يشترك فيها البشر جميعاً، وهكذا يستطيع جميع
المُشاهدين ــ في نقاط محددة، وبُقع ضرورية ــ أن يجدوا ما يربطهم ببعض،
وذاك الربط يوحدهم مع الفيلم، أنه العامل المُشترك الذي يستخدمه أغلب
المُخرجين، ولكن (سكورسيزي) دائماً ما يأخذ على عاتقه العمل في عوالم
الماضي، بطبيعة مُحددة، ومواقف استثنائية أغلبها مُقتبس من حوادث حقيقية لا
يعرفها الكثير من الجيل الحالي، أو لم تأخذ نصيبها من التاريخ. الحقبة
الزمنية والفكرة الإبداعية هي من توحد المُشاهد مع (سكورسيزي).
ولكن ها هُنا يعود مرة أخرى مُكرراً لذاته، فهل فقد إله
أفلام الشوارع القدرة على تحرير فكرة جديدة؟ ألا من بعض الأحاجي التي
تستملك علينا أنفُسنا تيهاً وأعجاباً؟ أتقاعد أحد آلهة السينما المعاصرة
وقرر أن يرفُل في منطقته الأمنة ويقضي وقته في صُنع النُسخ؟ اقتران الأفكار
بصورة قديمة يجعل المشاهد يستحدث الماضي حتى لو بصورة مُختلفة ويتوقع
النهاية في باكورة البدايات. وبالتالي فهُناك نقطة ضعف في السرد ــ التوقع
والمعرفة ــ وليس في القصة بشكل عام، بجانب نُقطة ضعف السرد هُناك شيء أخر،
وهو الفوارق بين عُمر الأشخاص وأشكالهم، فبغض النظر عن الرائع (جو بيتشي)
هُناك وعلى وجه الخصوص في (دي نيرو) يظهر تفاوت كبير، في البنية الجسدية
وفي علامات الوجه والأوصاف، بالإضافة للملامح والشكل الذي أتى عليها
(آلبتشينو) رغم إتيانه بواحد من أفضل أداءاته في أخر عشر سنوات.
فالأمر كان أشبه بجلسة أصدقاء قدامى في حلقة نار، يتبادلون
أنصاف الحكايات، بيد أنهم ــ في أول الأمر أو أخره ــ أصدقاء رائعين، لدرجة
أنك لا تشعُر أن الفيلم استغرق 106 يوماً كاملاً، بل تم قصه ولصقه في يومٍ
وليلة من حنين العجائز ومغامراتهم وخيبات أملهم، أنه نوعاً أخر من أفلام
المافيا، مافيا العجائز، وأمواج العطيف، وعناقات الأصدقاء، لم يكن هُناك
العُنف المطلوب، أو الأبداع الثوري، أنه أشبه بهُدنة للتقاعد. حتى وأنت
تُشاهد الفيلم يُمكن أن تقول كيف يجرؤ أحدهم بوصف هذا الفيلم كفيلم عصابات؟
وبالطبع هذا ليس أفضل أفلام (سكورسيزي) ولا أخفى عليكم أني أحببته بشدة.
لأنه من مجموعة عظيمة مثل (مارتي) و(باتشينو)
و(دينيرو) و(بيتشي). وإذا طبقنا عليه نقداً بنفس المعايير التي كُنا نحكم
بها على أفلام (سكورسيزي) السابقة لخاب منّا.
نُقطة أخرى يجب الالتفاف حولها، هي ــ من وجهة نظري ــ تركه
فُرصة ذهبية تمضي للعدم، (سكورسيزي) أذهب من يديه فُرصة لإدخال العديد من
الشخوص في القصة وجعل الحبكة أكثر تعقيداً وأقل توقعاً، المزيد من الشخوص
المكتوبة بعناية ودقة في مثل تلك المُدة هي الحياة بالنسبة للفيلم، ولكنه
أفلت الفُرصة وفضل أن يجعل فيلمه أشبه بأفلام دراسة الحالة، يقوم على شخصية
رئيسية وعدد من الشخصيات الأخرى التي لها تأثير مُباشر على الشخصية
الرئيسية. ثلاث ساعات ونصف من الشريط السينمائي تدور حول شخص في إطار سرد
سيرته، وبألمعية وحنكة يجذب المُمثل الشاطر الأنظار حوله، وبفضل الطاقم
الثقيل يستطيع المُخرج أن يصنع دائرة سردية لا تخرج عنها الكاميرا، تدور في
فراغ يملئه ثلاثة فيما كان يُمكن أن يملئه ستة أشخاص أو سبعة، فالقصة تدور
من منظور شخص واحد، وكأنه إلهاً، بيد أنه كان من المُمكن أن تروى القصة من
وجهتين للنظر أو ثلاثة، وكل وجهة نظر تأخذ مساحتها، وشخوصها الرئيسية.
مشاهد مُعيبة، ونقاط تناسي
أولهم بالطبع مشهد ضرب (دي نيرو) لرجُل السوبر الماركت، هذا
مشهد مُضحكاً أكثر منه عنيفاً، لأنه لا الهيئة البدنية ل(دي نيرو) ولا
حركاته الجسدية أو مرونته تؤهله لفعل ذلك، أكتظ المشهد بالترهُل والكادر
المفتوح الذي حاول به المُخرج إخفاء وضع (دي نيرو) الجسدي، ولكنه لم ينجح
للأسف.
ثانياً، لم تنجح تقنية ال
De-Aging
بنقل (دي نيرو) بشكل صحيح بين الخطوط الزمنية الثلاث، وأنا أقصد، أنه حتى
بهذه التقنية، كان وجه (دي نيرو) الذي نعرفه جيداً أكبر بكثير من رجُل في
الأربعين من عُمره.
ثالثاً، لم يستطع المُخرج أن يجعل المُشاهد يذوب بين
الأحداث، وينسى الوقت، وذاك لأنه أنتظر ثلاث ساعات كاملة من “النوستولوجيا”
لكي يخرُج لنا بنصف ساعة أخيرة مُميزة، إذاً لماذا؟ كان من المُمكن إعمال
فريق ال
EDIT
بشكل أفضل كثيراً، في تقليص مُدة الفيلم، وإزالة الكثير من المشاهد
واللقطات التي تُعيب الفيلم، والإسراع من الأحداث لكي تتكشف عن المحاور
الزمنية ذروة حقيقية؛ يُمكن لمُشاهد السينما العادي الاستمتاع بها. ويمكن
للبعض القول إن الفيلم بطيئاً ولكنه لم يفقد الريتم، وهذا شيء جيد، وأنا
مُعترف بذلك ولكن بمقدار مُعين، أقصد أن البُطء هُنا كان نقطة ضعف للفيلم،
لأنه يُعطي فُرصة أكبر للمُشاهد باكتشاف تفاصيل لا يود الخوض فيها، وليست
لها علاقة بالقصة الرئيسية.
فلسفة الفيلم
وبالنسبة لفلسفة الفيلم، أبتعد (سكورسيزي) كُلياً عن فلسفة
العُنف والدماء، وبدأ نوعاً أخر من الفلسفة، وهو فلسفة الرقص على الجثث،
فالقتل بالنسبة له ليس غرضاً أساسياً مُقارنتاً بسير النظام، لذلك كان يلجأ
(راسل) إلى القتل كأخر اختيار، وهو ليس خيار، بل هو واجب حتى لا ينهدم بناء
كامل مضى أعوام على تشيده، ولكن بشكل أو بأخر، نجد فلسفة الأقصاء وإلغاء
الآخر واضحة في هذا العالم الهادئ، وكما في أفلام أخرى، يواجه القاتل ضميره
قبل فعل الجريمة، لكن هيهات، ليس هُناك شرفٌ بين اللصوص، بيد أن قاتلنا
هُنا ليس سيكوباتياً بل يُحرر عقله وعاطفته لبعض الوقت حتى يُعطي مساحة
لنفسه لأخذ خيار ليس له معنى، لأنه سيُنفذ الخيار الأول المطلوب منه. وهو
ما يستجلب نتيجة أنه مُجرد بيدق في جيش الشطرنج، رُبما أفضل بيدق، غير أنه
يظل بيدق، إنما هُناك نوعاً من التعارض والتناقض الذي يبني به (سكورسيزي)
علاقة (فرانك) ب(راسل) فهو يشعر بالتخاذل ويخر بالإذعان، ولكنه يأكل مع
سيده على مائدة واحدة. وهذا ما يهدم الواجب الأخلاقي الذي كان يشعر به
(فرانك) أتجاه (هوفا) لأن هُناك على الجانب الأخر إرادة مُحركة تطغى عليه،
فالإرادة هُنا تُلغي العقل، بيد أنها ليست إرادة داخلية، بل خارجية، وهُنا
فرانك يرضخ كمُستقبِل للأحداث طول الفيلم، يسير كما يسير سيده، ولكن في أخر
الأمر يخسر كُل شيء. كأنه يقول لنا في آخر نصف ساعة، أنظروا كيف استحال كُل
شيء إلى رماد ودموع؟ والندم كان عُنصراً أساسياً في صياغة النهاية، لذلك
فهي نهاية كليشيهية، تحمل في طياتها فلسفة الغُفران والتأسف لما آب إليه من
أسى وآلم، فهو يقول أسفاً لنفسه أولاً ثم لإلهه ثم لابنته، إنما فلسفة
الثواب والعقاب تلك لم تصنع النهاية الملحمية، رُبما كانت حزينة، ولكن كُل
النهايات حزينة.
يُمكننا تقييم هذا العمل كأفضل فيلم عصابات في التاريخ إذا
محينا كُل أفلام العصابات قبله. ولا يُمكننا أن ننفي بشكل مُطلق وجود بعض
المشاهد التي بالفعل كانت تحمل فكر وتأثير جديد، وقوي، ولكن في وسط أكثر من
ثلاث ساعات لم تكن بالشيء الذي يُمكن ذكره. وفي النهاية سيشارك (سكورسيزي)
في الأوسكار بفلمين، أولهما بحضوره الجسدي في (الأيرلندي)، وثانيهما بروحه
الحاضرة في
(الجوكر)
إخراج تود فيلبس. الفيلم كان جميلاً على أي حال، وتجربة كان من الجيد أن
أخوضها. |