الفيلم البريطاني “1917” يفقد الحميمية والتفاعل الإنساني
بين الجمهور والبطل، فيما يجذب الطابع المبهر للحركة تركيز اهتمام الجمهور.
لا تكف السينما إنتاج أفلام عن الحرب، سواء التي تتغنى
بالبطولات، أو التي تناهض الحرب وتصوّر أهوالها بغرض التحذير منها ومن
التورّط فيها. وأحدث هذه الأفلام هو الفيلم البريطاني “1917” الذي حصد
مؤخرا جائزتي أفضل فيلم وأفضل إخراج في مسابقة “غولدن غلوبس”.
من المؤكد أن الحرب تشهد الكثير من التضحيات، لكنها ليست
صنعة أو حرفة جيدة للإنسان خاصة الشباب الصغير السن، البريء، الذي لم يبدأ
حياته بعد ولم يتطوّع أصلا لكي يصبح إحدى آلات القتل الاحترافية بل أُرغم
على الالتحاق بالخدمة العسكرية الإلزامية عندما كانت حالة الصدام المسلّح
تقتضي ذلك، كما حدث للشباب البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى ثم
الثانية.
ولا بد أن يكون فيلم “1917” للمخرج الشهير سام ميندز، أحد
أكثر أفلام الحرب حظا، لكونه صُنع في عصر تكنولوجيا السينما الرقمية، ممّا
أتاح لمخرجه سام ميندز ومصوّره روجر ديكنز أن يختبرا مدخلا جديدا في
التعامل مع المادة والموضوع والمجال المصوّر، بعد دراسة وافية ومتعمّقة لكل
تضاريس المكان وإعادة تشكيله لكي يحاكي ما كانت عليه الجبهة الفرنسية قرب
نهاية الحرب العالمية الأولى
(1914-1918).
ولكن هل نجح سام ميندز في خلق شكل جديد يخدم الموضوع، وهل
وفق في خلق بناء درامي مقنع وقوي البنيان مع زميلته كريستي ويلسون كارينز
التي شاركته كتابة السيناريو؟
"سوبرمان"
مفتعل
استمع ميندز، كما يذكر لنا في نهاية فيلمه من خلال العبارات
التي تظهر على الشاشة، إلى حكايات جده الذي شارك في الحرب العالمية الأولى
كجندي بريطاني في بلجيكا. والتقط من هذه الحكايات قصة جنديين شابين يُكلفان
بمهمة صعبة خلف خطوط الألمان، لتوصيل رسالة إلى الجنرال ماكنزي قائد الفرقة
الثانية، توجب عليه إلغاء الهجوم الذي يستعد لشنه على الألمان المنسحبين من
المنطقة خلال ساعات، بعد أن ثبت أن الألمان أعدوا بإحكام كمينا سيقع فيه
1600 جندي بريطاني ويلقون حتفهم جميعا.
يقع الاختيار على المجند سكوفيلد لتوفر الدافع القوي لديه
لكون شقيقه الضابط موجودا ضمن الفرقة التي يمكن أن تلقى مصيرها بالموت.
ويُطلب منه اختيار من يرافقه فيختار أقرب الموجودين إليه وهو بليك. وبينما
يتحمّس سكوفيلد لأداء المهمة ويبدو أكثر اتساقا مع دوره، يبدو بليك
متردّدا، يخشى عواقب المهمة الثقيلة، خاصة وأنه يتعيّن على الاثنين قطع
الطريق إلى الجبهة سيرا على الأقدام، وأن عليهما إنجاز المهمة خلال ست
ساعات فقط.
ما يحدث خلال تلك الرحلة يمكن تخيله من مشاهد شبيهة بما سبق
أن شاهدناه في أفلام الحرب، دون إضافة حقيقية أو تصعيد مثير في الحبكة، أو
التعمّق بعض الشيء في الشخصيتين الرئيسيتين، بحيث يجعلنا نعرف بعض الشيء
عنهما، وعن حياتهما وانتمائهما العائلي وخبرتهما في الحرب قبل قبول هذه
المهمة.. ما يمكن أن تفجّره المهمة من مشاعر أو أحاسيس وجودية إزاء
العالم.. وغير ذلك.
فلا يحدث الكثير في الفيلم الذي تعرف مسبقا كيف سينتهي، فقط
سنرى كيف يلقى سكوفيلد مصرعه على يدي طيار ألماني أنقذه الاثنان وكانا
يحاولان مساعدته بدلا من أسره، في مشهد مرتبك كثيرا ومن خلال أداء غير مقنع
بل يبدو أقرب إلى تمثيل الهواة المبتدئين، الاستقبال المباشر له هو أن
البريطانيين نبلاء والألمان أوغاد.
يصبح بليك وحيدا، يخوض بمفرده الرحلة من دون خبرة قتالية أو
معرفة بطبيعة المنطقة أو العدو، لكن المطلوب منا أن نصدّق أنه يتمتّع
بشجاعة خارقة، وقدرة خاصة على التماسك واصطياد العدو والإيقاع به في كل
المواجهات، والإفلات من الجندي الذي يطارده ويطلق عليه الرصاص من على مسافة
أمتار خلف ظهره مباشرة. فبليك يصبح “سوبرمان”، لا تصيبه الرصاصات التي
تنهمر عليه سوى بجرح سطحي بسيط.
لكن ليس هذا كله مهمّا، فالمهم أن يجرب سام ميندز مع مصوّره
البارع تقنية توحي بأن الفيلم كله مصوّر في لقطة واحدة ممتدة تتحرّك خلالها
الكاميرا باستمرار، تلهث وراء البطل وهو يجري داخل الخنادق التي حفرها
الجنود، أو وهو يعبر في صباح اليوم التالي فضاء مفتوحا مع انطلاق الفرقة
البريطانية فتنهال القنابل على الجميع من كل حدب وصوب، بينما يقفز بليك
ويتجنبها ببراعة وينجح نتيجة معجزة ما، في تجاوز منطقة الخطر والوصول إلى
القائد قبل أن يصدر أمر إرسال “الموجة الثانية” من جنوده إلى الموت!
لم يصوّر الفيلم بالطبع في لقطة واحدة، وإلاّ لكان قد امتد
لساعات عدة أو ليوم وليلة بالتحديد، وهو زمن أحداث الفيلم، وإنما صُوّر على
لقطات طويلة تستغرق الواحدة منها ليس أقل من 10 دقائق، واستخدمت التقنية
الرقمية الحديثة في إخفاء أماكن “القطع” أي توقف الكاميرا ونهاية اللقطة
والانتقال إلى اللقطة التالية.
الكاميرا هي البطل
هذا الأسلوب السينمائي المصطنع الذي لا تتوقف فيه الكاميرا
عن التحرك، يعيبه أمران: الأول أنه يشتّت الرؤية ويعيق الاندماج في الموضوع
نفسه. والثاني أنه يحرف الفيلم بعيدا عن التركيز على المشاعر والرؤية ويجعل
ما نشاهده كله يأتي، ليس من وجهة نظر الجندي الذي يرحل عبر “الجحيم”، بل من
وجهة نظر المصوّر المحايد الذي “يسجل” عن مسافة تلك المغامرة الشاقة.
يؤدي هذا الأسلوب أيضا إلى أن يصبح أهم ما يشغل بال
المتفرّج هو “الأسلوب” دون أن يكون موظفا لخدمة هدف درامي محدّد. فما الذي
تضيفه الحركة الملتوية المستمرة للكاميرا بعيدا عن الإيحاء (المكشوف)
بالطابع “التسجيلي”!
والإيحاء بتصوير الفيلم في لقطة واحدة ممتدة ليس جديدا، فقد
سبق أن استخدم هيتشكوك هذا الأسلوب في فيلمه الشهير “الحبل”
The Rope
، وأليخاندرو غونزاليس في “بيردمان”
Birdman.
أما من استخدم اللقطة الواحدة فعلا وليس كحيلة مصطنعة، فهو سوكوروف في
“القوس الروسي”
Russian Arc
ثم سباستيان سكيبر في “فيكتوريا”، لهدف جمالي يتّسق مع طبيعة الفيلم نفسه.
إن أي فيلم يصوّر الحرب يريد عادة أن يلتقط ما يحدث من
زوايا مختلفة متعددة، فللحرب وجوه كثيرة وأبعاد مختلفة وزوايا متعددة وهو
ما يصوّره ببراعة فيلم “دنكرك” لكريستوفر نولان، لذلك يفقد فيلم “1917”
الحميمية والتفاعل الإنساني بين الجمهور وبطله الشاب ويصبح اهتمام الجمهور
مركزا على الطابع المبهر للحركة. في هذا السياق أيضا يصبح الجنود الكثيرون
المنتشرون على جانبي الخنادق وفي الجبهة عموما، مجرد ديكور خارجي يستكمل
الملامح الهائلة التي خلقها مصمّمو المناظر (الجثث المتآكلة الملقاة على
الرمل، الفئران وطيور الغربان التي تنهش فيها)، أي يصبحون مجرد “كومبارس”.
يجب أن أقر أيضا بأنني لم أجد ما يثير الفكر والخيال في
مشهد بليك وسكوفيلد وهما يفتشان عن الطعام داخل خندق تحت الأرض هجره
الألمان بينما الفئران تتسلل ثم يتسبب أحدها في تفجير شرك خداعي يؤدي إلى
انفجار هائل يكاد يفقد بليك حياته.
كما بدا المشهد الطويل لبليك مع امرأة فرنسية ترعى طفلا
رضيعا داخل منزل محطم في الريف الفرنسي، حيث يقدّم بليك الحليب الذي حصل
عليه من مزرعة مهجورة للرضيع، بدا مشهدا فاقد الإيقاع ومصنوعا فقط للإثارة
العاطفية.
رؤية سطحية
إن رؤية سام ميندز عن الحرب في “1917” رؤية سطحية، من
الخارج، تفتقد للبعد الإنساني بل وتبدو أقرب إلى الترويج “الدعائي” للبطولة
والاحتفاء بالحرب، وتجميلها، تغيب عنها القدرة على التأمل في المصير
الإنساني. وفي كل الأحوال، لا ترقى إلى مستوى التعبير الشعري، على العكس،
مثلا، من رؤية تيرانس ماليك في “الخيط الأحمر الرفيع”
(The Thin Red Line (1998.
ففي ذلك الفيلم كان هناك بطل وجودي يطرح العشرات من
التساؤلات حول الحرب، الجحيم، الطبيعة، الإنسان، العثور على الهوية من خلال
القتل، أي على الخيط الفاصل بين العقل والجنون، وبين الخير والشر. وكان
الفيلم يصوّر رحلة عبثية يخوضها الإنسان مدفوعا بقوى تفوقه كثيرا، نحو
التدمير والحرق والقتل، كما لو كان يرى أيضا أن التاريخ البشري لم يتأسّس
سوى على سلسلة من الصراعات الدامية، وأن الإنسان الذي يمارس كل هذا الدمار،
لا يدري السبب الذي يجعله يوغل هكذا في العنف، بحيث تصبح الطبيعة الجميلة
الرائعة التي نراها في كل مشاهد الفيلم، ضحية لصراعات الإنسان.
موسيقى توماس نيومان في “1917” تبدو مفروضة على الصورة، بل
ومزعجة وصاخبة أحيانا من دون ضرورة خاصة في النصف الأول من الفيلم. ففي
مشاهد كثيرة كان الصمت يصبح أكثر تعبيرا. ولا يبدو عنوان الفيلم ملائما بل
لا يعني شيئا. فالأحداث تبدأ في السادس من أبريل 1917، ولكن هذا التاريخ
نفسه، أي قبل نحو عام من نهاية الحرب الأولى، لا يعني شيئا عند المتفرج، بل
إنه في الحقيقة مرتبط أكثر بواحد من أهم أحداث القرن الماضي، أي الثورة
السوفييتية.
لا شك أن العمل الأكثر رسوخا في الذاكرة عن الحرب العالمية
الثانية كان فيلم سبيلبرغ المرموق “إنقاذ المجند ريان”
(Saving Private Ryan (1998
وكان يصوّر كيف تسعى مجموعة من الجنود لإنقاذ مجند من وراء خطوط العدو، بعد
أن صدرت الأوامر بضرورة استعادة هذا الجندي وإعادته إلى الوطن بعد مصرع
أشقائه الثلاثة في الحرب. وكان تصوير سبيلبرغ لعملية الإنزال في نورماندي
والاشتباك مع القوات الألمانية (في مشهد يستغرق 20 دقيقة)، من زوايا
متعددة، هو أكثر الصور السينمائية بلاغة في تجسيد هذا الحدث الكبير في
السينما حتى اليوم.
رؤية المخرج للحرب تفتقد البعد الإنساني، بل وتبدو أقرب إلى
الترويج "الدعائي" للبطولة والاحتفاء بالحرب وتجميلها
ولعل أهم وأفضل ما ظهر في السينما عن الحرب العالمية الأولى
هو الفيلم التسجيلي الطويل “أبدا لن يشيخوا”
(2018) The Shall Never Grow Old
الذي نتج عن البحث في 600 ساعة من المواد المصوّرة المحفوظة في متحف الحرب
البريطاني و100 ساعة من التسجيلات الصوتية، يروي فيها جنود وضباط سابقون
التجارب التي مرّوا بها في تلك الحرب، وكلها من المواد المحفوظة في أرشيف
راديو “بي.بي.سي”، وقد أتيحت هذه المواد لمخرج الفيلم بيتر جاكسون، أن يعيد
الحياة بالصوت والألوان إلى الكثير من هذه الصور واللقطات المباشرة الحية،
ونجح في توليفها معا بحيث نشاهد الكثير من الأحداث، من مرحلة التجنيد
والتطوّع ثم تلقي التدريب العسكري، ثم الانتقال إلى الجبهة الغربية في
فرنسا وبلجيكا، ثم القتال الضاري العنيف في حرب الخنادق الرهيبة في أحراش
الفلاندرز، وصولا إلى المواجهة المباشرة مع القوات الألمانية، حتى يتحقّق
النصر ويعود الجنود إلى بلادهم ليجدوا أن لا أحد يشعر بقسوة التجربة التي
مروا بها، حينما كانوا مجرد أطفال يافعين في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من
أعمارهم.
هذه المشاهد واللقطات تتركز أساسا على الإنسان، على الوجوه،
تقترب من الفرد في إطار المجموعة، تعرض لحظات المرح واللعب وتناول الطعام،
بل وحتى قضاء الحاجة في ظروف بالغة الصعوبة.
ورغم التغني بالشجاعة والتصوير المباشر للضحايا الذين سقطوا
خلال القتال، إلاّ أن المغزى الأساسي الذي يخرج به المشاهد من هذا العمل
الكبير، ليس تمجيد بطولات الحرب، بقدر الكشف عن أهوالها وبشاعتها، وهو ما
يفتقده بشكل فادح فيلم “1917”.
إنه دون شك، تجربة مدهشة في التلاعب بالصورة ومكوناتها
والإعلاء كثيرا من شأن حركة الكاميرا وتصميم اللقطة وتحريك المجاميع، إلاّ
أن هذا الإبهار في حد ذاته، يطغى على المضمون وعلى “الحالة” الإنسانية التي
يفترض أن يجسدها لنا، فلا يبقى من الفيلم في الذاكرة بعد ذلك الكثير.
ShareWhatsAppTwitterFacebook
كاتب وناقد سينمائي مصري |