البؤساء.. عمل إبداعي حوّله الغرب إلى صناعة
علي قاسم
رواية عن الظلم والفقر واللامبالاة شكلت ظاهرة لا تموت
وتجسدّت أحداثها في العديد من العروض المسرحية والأفلام.
الرواية التي تحولت إلى مسرحية، والمسرحية التي تحولت إلى
فيلم، والفيلم الذي تحول إلى صناعة كاملة.. ستون فيلما، أضيف إليها مؤخرا
الفيلم رقم 61. أما العرض المسرحي الغنائي المستوحى من الرواية، والذي فتح
الستار عنه في لندن عام 1985، فلا يزال يعرض إلى اليوم؛ حضره أكثر من 120
مليون متفرج، في 52 بلدا، وقدم بـ22 لغة، وحصد أكثر من مئة جائزة. بالطبع
نتحدث عن رواية “البؤساء”، أطول ما كتب من روايات في التاريخ؛ ضمت النسخة
الأصلية باللغة الفرنسية 1900 صفحة، موزعة على 365 فصلا، كتبها الروائي
الفرنسي فيكتور هوغو عام 1862، وتجري أحداثها في باريس في القرن التاسع
عشر. بالحديث عن “البؤساء”، نتحدث عن كتاب لا يموت، وفيلم لا يموت، ومسرحية
لا تموت.. باختصار، نحن نتحدث عن عمل فني إبداعي شكّل ظاهرة لا تموت.
لندن، المدينة الباردة التي يشار إليها بعاصمة الضباب، لا
شيء فيها يغري السائح الباحث عن الشمس والبحر، إلا أنها تحتل مكانة بارزة
وتصنف، بعد باريس، واحدة من أكثر مدن العالم جذبا للزوار؛ أكثر ما يجذب
السائح إليها هو المسارح، ومن بين عشرات الأعمال المسرحية التي تعرض على
خشباتها، يقف العرض المسرحي الغنائي، “البؤساء”، على رأس تلك العروض.
في بداية ثمانينات القرن الماضي كنت قادما جديدا إلى لندن،
وكان ملصق المسرحية، الذي يصور الفتاة كوزيت، يحتل مكانا بارزا على واجهة
مسرح وسط المدينة، واليوم بعد مرور 35 عاما، مازال الملصق الإعلاني يحتل
مكانه.
ظاهرة لم أكن أتخيل وجودها، رغم حبي للمسرح، كنت أعتقد أن
المسرحية الناجحة يدوم عرضها أسبوعا وحدا أو أسبوعين.. وها أنا أمام عرض
متواصل لمسرحية تأبى أن تموت.
وعلى مسارح برودوي، في مدينة نيويورك، قدمت المسرحية في
أكثر من 6600 عرض، مما جعل منها، تاريخيا، ثالث أطول العروض هناك. وبلغ
مجموع من شارك في أداء الأدوار فيها أكثر من 4700 ممثل وممثلة.
ولم يقتصر نجاح العمل على خشبات المسرح ودور عرض السينما،
فقد حظي أيضا على نجاح مماثل في التكنولوجيا الرقمية، ووسائط التواصل
الاجتماعي. وعندما غنت البريطانية، سوزان بويل، أغنية “أنا حلمت حلما” من
المسرحية، تابعها على موقع يوتيوب أكثر من 114 مليون شخص.
يغوص فيكتور هوغو، في روايته “البؤساء” في خبايا المجتمع
الباريسي، عارضا حياة السياسيين والعلاقات بين المرأة والرجل، من خلال صراع
دائم بين مطلب العدالة الاجتماعية وبين الطبيعة البشرية.
قدمت الرواية في عروض مسرحية عديدة، كان أولها عام 1980.
ويبقى العرض الموسيقي الذي كشف الستار عنه في لندن عام 1985 أبرزها، وقد
شجع نجاح العرض على نقل الرواية إلى السينما، حيث تعددت الأفلام التي أنتجت
حولها، وكان آخرها فيلما من إنتاج عام 2012. وأنتجت هيئة الإذاعة
البريطانية (بي.بي.سي) الرواية في مسلسل من ستة أجزاء. ويقول منتج المسلسل،
أندرو ديفيز، إنه أراد بعمله هذا “إنقاذ الكتاب العظيم”، بعد أن “كره العرض
المسرحي الموسيقي”.
يغوص فيكتور هوغو، في روايته "البؤساء" في خبايا المجتمع
الباريسي، عارضا حياة السياسيين والعلاقات بين المرأة والرجل، من خلال صراع
دائم بين مطلب العدالة الاجتماعية وبين الطبيعة البشرية
انتقد هوغو في الرواية الظلم الاجتماعي الذي عانى منه
الفرنسيون، في الفترة الممتدة بين سقوط نابليون عام 1815، والثورة الفاشلة
ضد الملك لويس فيليب عام 1832. وكتب في تقديمه لها عن “الجحيم البشري في ظل
غياب العدالة، وسيادة عادات وقوانين ظالمة”. واعتبر أن كتابا مثل هذا
“ضروري طالما وجد الفقر، ووجدت اللامبالاة”.
قدم هوغو صورة واقعية للحياة الاجتماعية البائسة التي عاشها
الفرنسيون، وصور المعاناة التي عاشها المنبوذون من خلال شخصية، جان فالجان،
السجين الذي خرج لتوه من السجن، بعد أن أمضى فيه 19 عاما، وكانت التهمة
الموجهة إليه هي سرقة رغيف خبز، أراد أن يطعم به أخته وأطفالها الذين
تضوروا جوعا.
لم تكن الحياة التي واجهها فالجان خارج السجن أقل شقاء من
الحياة داخله، وهو الموسوم بجرم سابق، لا عمل يقبله، ولا مكان يبيت فيه.
وعندما يجد الحل في ضيافة أسقف المدينة، يهرب ليلا سارقا أوان فضية، ليقبض
عليه. وللمرة الثانية ينقذه الأسقف مدعيا أنه هو من أعطاه الفضيات، ويصر،
بعد رحيل رجال الشرطة، أن يقدم إلى فالجان شمعدانين فضيين كان يستعملهما
للإضاءة في منزله، قائلا له بصوت خافت “لا تنس أبدا أنك وعدتني أن تستخدم
هذه الآنية لتصبح رجلا صالحا”.
اختفى جان فالجان في الزحمة، ليظهر ثانية في “مونتروي
سورمير”، المدينة الصغيرة في الشمال الفرنسي، ولكن باسم جديد، هو السيد
“مادلين”، مخفيا شخصيته الحقيقية عن الناس، بعد أن أصلح حاله، وتحسنت أموره
المالية، وكوّن ثروة كبيرة استعان بها ليظهر بصفة رجل أعمال وصناعي ناجح،
وواحدا من كبار المحسنين وفاعلي الخير في المدينة.
آمن هوغو أن النعمة التي يرفل بها يجب أن تطال المعوزين
والبائسين والمظلومين. وفتح أبواب العمل للناس، طالبا منهم الالتزام بشرط
واحد أصبح معروفا للجميع: “كن أمينا”. ومع تكرار أعماله الخيرية وتبرعاته
أصبح اسمه يتردد على لسان سكان المدينة، الذين حملوه على قبول منصب العمدة،
بعد رفض وتردد.
وعندما نشرت الصحف في مطلع سنة 1821 خبرا عن وفاة الأسقف،
عن عمر يناهز الثانية والثمانين، قضاها في أعمال البر والخير، شوهد السيد
مادلين في صباح اليوم التالي يرتدي ثوب حداد أسود وعصابة سوداء تطوق قبعته.
آخر ما قدم من أفلام بنيت حول الرواية، كان فيلما موسيقيا
دراميا، إنتاج بريطاني، من إخراج توم هوبر وسيناريو ويليام نيكلسون، وبطولة
هيو جاكمان وراسل كرو، وعرض في ديسمبر 2012
وتأبى الحياة أن تهادن فالجان، ليعترض طريقه محققا اسمه،
جافرت، كان يعمل حارسا في السجن الذي أمضى فيه عقوبته. يشك جافرت بأمر
مادلين ويبقيه تحت رقابة سرية دقيقة.
في الأثناء يُتهم رجل مشرد بسرقة بعض الفاكهة، كان كثير
الشبه بفالجان، لتوجه له، إضافة إلى تهمة السرقة، تهمة الهرب وتضليل من
العدالة، ظنا منهم أنه جان فالجان. وكان المحقق جافرت أكثر المتحمسين
لإلصاق التهمة به، وشهد أمام المحكمة أنه جان فالجان نفسه.
بعد صراع طويل وتأنيب ضمير، سلم مادلين نفسه للشرطة لإنقاذ
الرجل البريء، كاشفا عن حقيقته ومعرضا نفسه لعقوبة طويلة لكونه صاحب سوابق.
وخلال نقله من المحكمة إلى السجن، استطاع الفرار والاختفاء من جديد، ليقضي
بقية حياته مطاردا، وكان قد تبنّى طفلة يتيمة اسمها، كوزيت، هي ابنة امرأة
عملت لديه وتوفيت إثر مرض أصابها، وكرس حياته لإسعادها.
الرواية، التي صدرت لها عدة ترجمات باللغة العربية، كان
أولها ترجمة اللبناني، منير البعلبكي، عام 1950 بخمسة أجزاء وتضمنت 2340
صفحة، رواية لا يمكن اختصار أحداثها ببضع أوراق. رغم ذلك يمكن القول إن
أحداث الرواية التي عرضت واقع البؤس في تلك الفترة، ليست مجرد استعراض سردي
لعدالة اجتماعية مفقودة، بل ما يميزها هو النزعة الجمالية الرومانسية التي
بلغت ذروتها بقصائد شعرية، تحولت معها الرواية إلى عمل كلاسيكي، وصنفت
واحدة من أهم ما أنتجه الأدب الغربي طوال 157 عاما. إنها حكاية صالحة لكل
زمان ومكان.
وكما ذكرنا بداية، قدمت الرواية للسينما في 61 عملا، كان من
بينها فيلمان قدمتهما السينما المصرية، الأول عام 1943، من إخراج كمال
سليم، واقتباس ميشيل تلحمي وبديع خيري، وشارك في الأداء كل من عباس فارس
وأمينة رزق وسراج منير ولطيفة نظمي. المرة الثانية، كانت عام 1978، للمخرج
عاطف سالم، سيناريو رفيق الصبان، بطولة فريد شوقي وعادل أدهم ويوسف وهبي،
وشاركت في الفيلم ليلى علوي، في أول دور سينمائي لها، وكانت في العاشرة من
عمرها. وقد منح الفيلم مؤخرا جائزة “سينما من أجل الإنسانية”، في مهرجان
الجونة السينمائي، بنسخته الأخيرة.
آخر ما قدم من أفلام بنيت حول الرواية، كان فيلما موسيقيا
دراميا، إنتاج بريطاني، مقتبسا عن المسرحية الموسيقية التي تحمل نفس الاسم
للكتاب، آلان بوبليل، وكلود ميشيل شونبيرج، وهربرت كريتزمر، والتي بدورها
اقتبست عن رواية البؤساء.
كان أول فيلم صامت اعتمد رواية البؤساء قد أنتج عام 1909،
تلاه فيلم صامت آخر من إنتاج وليام فوكس وإخراج فرانك لويد عام 1917.
لتتوالى الأفلام بعد ذلك
الفيلم من إخراج توم هوبر، وسيناريو ويليام نيكلسون، وبطولة
هيو جاكمان وراسل كرو وآن هاثاواي وأماندا سيفريد وايدي ريدماين وهيلينا
بونهام كارتر وساشا بارون وأيضا إيرون تفايت، في دور ثانوي.
العرض الأول الخاص للفيلم قدم في قاعة سينما الإمباير بساحة
ليسترسكوير وسط لندن، 9 ديسمبر 2012، وعرض في الولايات المتحدة في 25
ديسمبر 2012، وفي المملكة المتحدة في 11 يناير 2013. حقق الفيلم نجاحا
باهرا وتلقى استقبالا حارا وإيجابيا من قبل النقاد، واعتبر أفضل فيلم
موسيقي يرشح لجائزة الأوسكار منذ عام 2002، ونال أداء كل من هيو جاكمان وآن
هاثاواي التي قامت بقص شعرها وخسارة وزنها لتبدو مريضة بالسل، ثناء خاصا
مستحقا.
حصد الفيلم ثلاث جوائز، غولدن غلوب، من أصل أربع جوائز. حيث
نال جائزة أفضل فيلم موسيقي أو كوميدي، وجائزة أفضل ممثل في فيلم موسيقي أو
كوميدي، التي ذهبت لهيو جاكمان، وجائزة أفضل ممثلة في فيلم موسيقي أو
كوميدي لآن هاثاواي. ورشح لتسع جوائز بافتا، حصل على أربع منها، من ضمنها
جائزة أفضل ممثلة في دور مساعد، لآن هاثاواي. كما تلقى ثمانية ترشيحات
للأوسكار، حصد منها ثلاثة لأفضل ممثلة في دور مساعد لآن هاثاواي، وأفضل
ماكياج وتصفيف الشعر، وأفضل ميكساج للصوت.
وكان أول فيلم صامت اعتمد رواية البؤساء قد أنتج عام 1909،
تلاه فيلم صامت آخر من إنتاج وليام فوكس وإخراج الأميركي فرانك لويد عام
1917. لتتوالى الأفلام بعد ذلك.
ولكن، من هو فيكتور هوغو، الذي شغل عالم السينما والمسرح
والرواية والشعر؟
ولد فيكتور هوغو في مدينة، بيزانسون، شرقي فرنسا، 26 فبراير
1802، وتوفي في 22 مايو 1885، هو شاعر وروائي وواحد من أبرز أدباء فرنسا في
الحقبة الرومانسية، ترجمت أعماله إلى أغلب اللغات المنطوقة؛ 21 لغة. ورغم
أن العالم عرف هوغو روائيا، في المقام الأول، إلا أن شهرته كشاعر سبقت
شهرته ككاتب روائي في بلده فرنسا، حيث بدأ نشاطه الأدبي في كتابة الشعر،
تاركا خلفه عدة دواوين، أشهرها “تأملات ” و”أسطورة العصور”. أما أبرز
أعماله الروائية فهي “البؤساء” و”أحدب نوتردام”. وكان هوغو ناشطا اجتماعيا،
حيث دعا إلى إلغاء حكم الإعدام وأيد نظام الحكم الجمهوري.
في مطلع حياته درس هوغو القانون، إلا أنه لم يمارس مهنة
المحاماة بل شرع في كتابة الأعمال الأدبية، بعد تشجيع من والدته. وأسس
جريدة المحافظون الأدبية؛ نشر فيها أعماله وأعمال أصدقائه الشعرية. وفي عام
1831، نشر أحد أكثر أعماله شهرة؛ رواية “أحدب نوتردام” التي مهدت الطريق
لكتاباته السياسية اللاحقة. وبحلول عام 1940 كان هوغو قد أصبح من أبرز
الشخصيات في الأوساط الأدبية الفرنسية، وتم انتخابه عضوا بالأكاديمية
الفرنسية ورشح لمجلس النبلاء.
شهد عام 1843 حدثا ترك أثرا كبيرا على حياة هوغو، حيث لقيت
ابنته الكبرى مصرعها غرقا بنهر السين مع زوجها، ليدخل في حالة اكتئاب شديد،
وينكب على كتابة قصائد في رثائها.
وفي ديسمبر عام 1851، وبعد أن استولى لويس نابليون على
السلطة في فرنسا، ونصب نفسه إمبراطورا، نظم هوغو حركة مقاومة باءت بالفشل،
فاضطر إلى مغادرة فرنسا مع عائلته، وعاش في منفاه الاختياري حتى عام 1870،
عاد بعدها إلى فرنسا رجل دولة وأديبا يتبوأ المركز الأول، وانتخب نائبا عن
باريس، ولكنه استقال بعد وفاة ابنه شارل.
اتسمت أغلب الأعمال التي نشرها هوغو، أثناء إقامته في
المنفى، بسخرية مريرة وانتقادات اجتماعية لاذعة، وكان أشهرها رواية
“البؤساء”، ويقال إن ما كتبه هوغو في الرواية، حول الظلم الذي تعرض له
فالجان، كان سببا في قرار فرنسي يمنع تجريم أي شخص يسرق خبزا.
عودة هوغو إلى فرنسا، قادما من منفاه في بريطانيا، أصبحت
رمزا لانتصار الجمهوريين، إلا أن سنواته الأخيرة كانت في منتهى البؤس؛ فقد
اثنين من أبنائه، بعد أن فقد ابنته وعشيقته، وخيمت الكآبة على أعماله، التي
ركز فيها على مفاهيم الألوهية والشر والموت.
توفي فيكتور هوغو في باريس، يوم 22 مايو 1885، متأثرا بمرض
عضال، وتم تشييع جثمانه في جنازة تشريفية شارك فيها عشرات الآلاف، ودفن
أسفل قوس النصر تكريما له، لينقل في وقت لاحق إلى مقبرة العظماء.
مات فيكتور هوغو، وبقيت رواية “البؤساء” حية لا تموت..
تحولت إلى ظاهرة، وتحولت الظاهرة إلى صناعة.
كاتب سوري مقيم في تونس |