"ألم
ومجد" يعيد ألمودوفار إلى مسابقة مهرجان كان
أمير العمري
فيلم اعترافي للمخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار عن فنان
يتأمل رحلة الحياة ويسترجع ذكرياته في مغامرة بحث فكرية وجمالية.
ما من موعد للسينما الأوروبية أهم من موعدها مع كان. فهناك
السعفة الذهبية التي يتسابق السينمائيون ليفوزوا بها، ويفوزا بالمجد، وكذلك
بشبابيك التذاكر التي تستحقها افلامهم. بيدرو المودافار واحد من عباقرة
السينما الاوروبية، ومن المخرجين القلائل الذين ادخلت افلامهم رؤى جديدة
وموضوعات جديدة على فن السينما عكست هموما جمالية وفكرية خاصة بمخرج طموح
لطالما سحرت أفلامه عشاق السينما بتلك الطاقة الروحية والميول التعبيرية
المنعشة لنوع مبهج من العاطفة الإنسانية، والأفكار المبدعة. جديد المودافار
هذه المرة أيضا والموضوعات الجادة مع بنلوبي كروز التي تعتبر تحفته
السينمائية، بالاشتراك مع أنطونيو بانديراس الممثل الاثير بالنسبة إلى
المودافار..
لا شك أن فيلم المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار “ألم
ومجد” الذي يشارك في مسابقة مهرجان كان السينمائي الـ72، لا يشبه أيا من
أفلامه السابقة التي كانت تميل بوجه عام للجموح والتعبير عن المشاعر
الجياشة المتدفقة، بل ولا أظنه يشبهها أيضا في نسيجها السينمائي الذي يميل
إلى المزج بين الخيال والواقع ونسج القصص من داخل القصص، والتسلل إلى عالم
الأحلام، رغم أن طابع وبصمة وهمسات ألمودوفار لا تغيب عنه.
إنه يقدم لنا هذه المرة فيلما عن العذاب الذاتي للفنان، عن
الذاكرة، وعن الرغبة في الركون إلى الهدوء بعد رحلة طويلة في عالم السينما
شهدت اشتباكات وصراعات ورغبات جامحة تعبر عن نفسها بوحشية كما تبدو في
أفلام ألمودوفار الأولى، وبوجه خاص “الميتادور” و“قانون الرغبة” قبل أن
يتجه باهتمامه أكثر إلى عالم المرأة.
قد يكون “ألم ومجد”
Pain and Glory
أكثر أفلام مخرجه تعبيرا عن ذاته القلقة، عن بدايات وعيه بالدنيا والعالم،
وتمرده على ما كان مخططا له أن يكون، أي أن يصبح قسيسا، مع التصاقه بأمه
التصاقا شديدا، ثم تفتح وعيه على الجنس ثم اتجاهه لإقامة علاقة مثلية، لكنه
قد أصبح الآن بعد أن سرقه الزمن، وحيدا منغلقا على ذاته، هجر السينما وسئم
الانتقال من فيلم إلى آخر، بل ربما يكون قد أصبح يواجه عقدة المبدع الذي
أصبحت تستعصي عليه طلاسم الإبداع.
استلهام من السيرة
ألمودوفار يحاول أن يعبر تعبيرا ذاتيا ولكن من دون أن يصور
بالضرورة سيرة حياته بتفاصيلها الدقيقة. إنه يتخيل نفسه ومسار حياته في
شخصية يخلقها من وحي خياله، فيها من ذاته لكنها ليست ذاته. هذه الشخصية هي
بطل فيلمنا هذا المخرج السينمائي المشهور “سلفادور مالو” الذي يريد من
خلاله ألمودوفار أن يفهم ذاته وما وقع له خلال الأربعين عاما الماضية.
“سلفادور”
الآن هجر العمل في السينما، وأصبح يعزل نفسه داخل منزله الفاخر الذي يشبه
متحفا كبيرا، لكنه يتلقى فجأة نبأ اعتزام سينماتيك مدريد عرض فيلم صنعه منذ
32 عاما بعد إعادة ترميمه. هذا الفيلم واسمه “سابور” كان بطله الممثل
“البرتو كرسبو”، وكان يفترض أن يقوم فيه بدور شاب مدمن كوكايين لكنه أداه
كما لو كان مدمنا للهيروين الأمر الذي تسبب في وقوع أزمة ثقة كبيرة بين
المخرج والممثل وقطيعة بينهما امتدت حتى يومنا هذا.
صور الفيلم تتميز بالألوان الصريحة المباشرة المبهجة التي
يعشقها ألمودوفار، ولا يخلو الفيلم من لمسات موسيقية بديعة تمهد لنا
الانتقال بين الماضي والحاضر
وهذه الفكرة تبدو بالطبع في سياق الفيلم أقرب إلى المزحة،
لكنها تسرد دلالة على تشبث الفنان بما تنتجه قريحته، ورغبته في إرغام
الممثل على الالتزام الحرفي بملابسات الدور.
لكن سلفادور الآن أصبح أكثر تصالحا مع العالم. لقد أنضجته
التجربة الطويلة وأرهقته. لذلك يتجه في منتصف الليل إلى منزل ألبرتو الذي
لم يره منذ 32 عاما.. يريده أن يرافقه في احتفالية سينماتيك مدريد باعتباره
بطل الفيلم، لكن ألبرتو لا يزال غاضبا بل شديد الغضب. وعندما يلين قليلا
ويدخن الهيروين لكي يسترخي، يطلب منه سلفادور (ضمير ألمودوفار) أن يشاركه
تدخين الهيروين، ولكن لماذا؟ لأنني أريد أن أجرب كيف يشعر مدخنو الهيروين
فقد عرفت من يتعاطون الكوكايين لكنني لم أختبر الهيروين!
سطوة الجسد
يمضي الفيلم. تنفك عقدة سلفادور. يكتب نصا مسرحيا قصيرا
يلخص فيه تجربته في الحياة. إنه يعيش على الماضي. يحلم ويتخيل ماضيه منذ أن
كان طفلا صغيرا يقيم مع أمه (تقوم بالدور بنيلوب كروز) في كهف حجري في قرية
من قرى فالنسيا. تعرض على عامل بناء أمي وسيم أن يقوم ابنها سلفادور
بتعليمه القراءة والكتابة مقابل أن يزين لها البيت-الكهف.
من هنا يكتشف سلفادور قوة الفن، كما يكتشف بعد ذلك مباشرة
للمرة الأولى سطوة الجسد وإغراء الفتنة. ويمضي الفيلم وسلفادور يروي لنا
بصوته معلقا على الأحداث، مستدعيا من الذاكرة، وإن كان لا يتطرق إلى
الأفلام التي صنعها. فالأفلام ليست مهمة هنا بل المهم هو من أين كان يستمد
قصصها وعوالمها، وهذا ما يشغله ويريد أن يستفيض في شرحه وعرضه واستعادته.
يجن جنون ألبرتو بعد أن يعهد إليه سلفادور بقراءة النص
المسرحي. يفتنه النص ويوقعه في غرامه، يريد أن يقدمه على المسرح. فهو
يعتبره “دور العمر”، يوافق سلفادور، ولكن في اليوم الموعود للعرض المسرحي
يتقاعس عن الحضور، لكن يجري حوار معه عبر التليفون يقول خلاله الحقيقة أي
حقيقة علاقته القديمة وسبب خلافه وقطيعته مع ألبرتو، ولكنها الحقيقة التي
تشعل غضب ألبرتو.
يحضر العرض فيديريكو، الذي كان يرتبط في الماضي بعلاقة مع
سلفادور. والآن هو في عطلة في إسبانيا بعد أن هاجر إلى الأرجنتين واستقر
هناك كما سنعرف لاحقا.
وستكون تلك فرصة لكي يتصل بسلفادور ويذهب إلى منزله حيث
يدور بين الاثنين حوار عن الماضي الذي كان، وكيف سارت الأيام بهما:
فيديريكو تزوج ثم طلق ولديه ابنة شابة، ويرتبط حاليا بعلاقة مع امرأة أي
أنه ودع المثلية الجنسية لكنه مع ذلك لا يزال يحن إلى “الزمن الجميل” حينما
قضى ثلاث سنوات مع سلفادور.
يعتمد فيلم ألمودوفار هذه المرة على السرد من خلال التعليق
الصوتي المصاحب، أي عن طريق الحكي الصوتي الذي لا يكاد يتوقف، وهو ما يضعف
كثيرا الفيلم من الناحية البصرية.
صور الفيلم تتميز بالألوان الصريحة المباشرة المبهجة التي
يعشقها ألمودوفار، ولا يخلو الفيلم من لمسات موسيقية بديعة تمهد لنا
الانتقال بين الماضي والحاضر، إلا أن الفيلم عموما يعاني من البرود وغياب
الحرارة التي ألفناها في أفلام ألمودوفار بسحرها الذي يتميز أساسا في السرد
وفي جموح الشخصيات ومفارقات الحبكة.
المقارنة مع فيلليني
إن المقارنة بين هذا العمل وفيلم فيلليني الكبير الشهير “8
ونصف” لا مجال لها رغم التشابه الظاهري الأولي بين الفيلمين، ففيلم فيلليني
يعتمد أساسا على الصورة، ويركز على تداعيات أزمة بطله وحيرته الوجودية بعد
أن فقد الرغبة في مواصلة الإبداع بل وبدأ يتساءل أيضا عن معنى الإبداع
وقيمته وكيف يمكن للفنان أن يتحرر من القيود التي يفرضها عليه المنتجون،
وأن يوازن بين ماضيه وحاضره، بين علاقته بزوجته وولعه بعشيقته.
تلك الحيرة الجميلة كانت أساس فيلم فيلليني. أما هنا،
فالسرد الأفقي يتعاقب من دون حرارة ومن دون إحساس حقيقي بمعاناة الشخصية
وأزمتها التي تدفعها إلى مراجعة الذات، وفي الوقت نفسه، ينكب البطل على
الكتابة ويكتب نصا جديدا، عندما نراه على المسرح لا نشعر به ولا نفهم لماذا
اعتبره الممثل تحفة عصره وزمانه بينما لا يخرج النص عن مجرد تعبيرات
إنشائية عمومية ساذجة.. أو أن هذا استقبالي الشخصي لها على أي حال.
ألمودوفار يحاول أن يعبر تعبيرا ذاتيا ولكن من دون أن يصور
بالضرورة سيرة حياته بتفاصيلها الدقيقة
وعلى حين عبر فيلليني في فيلمه الشهيـر عن تمـرده على
الكنيسـة ورفضـه للدين بأسلوب سينمائي ساحر ومن خلال تداعيات شديدة القوة
والتأثير، يكتفي ألمودوفار بالتعبير عن هذا النفور في مشهد واحـد تقـريري
ثم بالحـوار مع أمه.. دون أن نلمس تأثير الكاثوليكية عليه في ما بعد
ومعـاناته للتخلص من أشباحها، فليس صحيحا أن علاقته بها قد انقضت تماما بل
تظـل أشباح تلك العلاقة تحلق فوق أفلامه، ولكن بدرجة أقل في هذا الفيلم
“الاعترافي”!
الهاجس المرضي
إن هاجس المرض يبدو مسيطرا عليه أكثر من أي شيء آخر، فهو
يصف لنا في البداية في مشهد طويل عبر التعليق الصوتي من خارج الصورة (وهو
أساس أسلوب ألمودوفار في الفيلم) عددا من الأعراض والأمراض التي يعاني
منها، من أول طنين الأذنين وتكلس فقرات العمود الفقري، إلى الشعور بألم في
القناة التنفسية يؤدي إلى نوبات مفاجئة من السعال وضيق في التنفس. وتخبره
الطبيبة بعد إجراء الفحوصات في مشهد لاحق، أن هناك ورما لكنه ليس خبيثا
ويمكن إزالته ببساطة.
كان فيلم ألمودوفار السابق “خوليتا” أيضا عن معاناة مخرج
سينمائي تقدم به العمر، لكنه كان عملا حميميا يتميز بالحرارة واشتعال
الذكريات، وكان بالتأكيد أكثر “سينمائية” من فيلمنا هذا الذي يقطع مسارا
سرديا تقليديا تماما: الانتقال بين الماضي والحاضر، والربط بين الأشياء عن
طريق شريط الصوت، ولكن أين تلك القصص السحرية التي تنبعث من قلب القصة
الرئيسية، وأين مواقف ألمودوفار الميلودرامية الساحرة المميزة لسينماه؟
قد
تكون إحدى مشكلات الفيلم غياب الحبكة، أو القصة الأصلية التي تتفرع منها
باقي القصص، فالفيلم عبارة عن شذرات ومشاهد متفرقة تعكس حالة نفسية لكنها
لا تتطور إلى دراما تفيض بالتساؤلات الوجودية أو تترك مساحة ما للتأمل في
علاقة الفنان بالعالم. هذا بالتأكيد أقل أفلام ألمودوفار توهجا رغم أنه لا
يخرج بالقطع عن عالمه الخاص، ففيه منه الكثير ولكن المشكلة في الصياغة
والسرد واختيار الأسلوب وهو ما انعكس أيضا على أداء الممثل.
عن الممثل
في الدور الرئيسي هناك نفس الممثل الأثير لدى ألمودوفار أي
أنطونيو بانديراس (قام ببطولة 8 من أفلام ألمودوفار)، وهو يظهر هنا متقدما
في العمر، يكتسي شعره الكثيف باللون الرمادي، لكن الممثل يفتقد شيئا أساسيا
ربما نتيجة وعيه بأن المطلوب منه المحاكاة دون التعايش، وأن يعبر دون أن
يقلد، ولكن المشكلة الأهم تكمن في بناء الشخصية وما تقوم به في مشاهد
حوارية مليئة بالثرثرة، لا تتمتع بالطرافة ولا بروح المرح التي اعتدنا
عليها، ولا بالقدرة على الإمتاع من خلال الأداء.
وربما يكون الممثل الصغير أسيير فلوريس الذي قام بدور
سلفادور الطفل (في التاسعة من عمره)، أكثر حضورا من بانديراس في هذا
الفيلم. أما عن المرأة في الفيلم، فباستثناء الحضور المتوهج كالعادة
لبنيلوب كروز في دور أم سلفادور في شبابها (قبل أن يذهب الدور إلى ممثلة
أخرى مع التقدم في العمر) لا توجد بصمة خاصة لشخصية “زوليما” التي كانت
إحدى الممثلات اللاتي عملن مع سلفادور وهي تقوم الآن في الفيلم بدور أقرب
إلى دور “السكرتيرة” المساعدة التي ترتب له مواعيده.
في نهاية الفيلم ينتاب المرء شعور بأنه أمام عمل ناقص
مبتور، فألمودوفار ربما لم يشأ أن يكشف كل ما في جعبته، وفيها دون شك،
الكثير، وربما يعود مجددا ليستكمل اعترافاته في فيلم قادم.
كاتب وناقد سينمائي مصري |