أصحاب «القمصان الصفراء» أحفاد «البؤساء».. قنبلة موقوتة
للثورة!
طارق الشناوي
كتاباته تشعل المشاعر وتحرك العقول وتدفع الشعوب للتغيير،
ولد في مطلع القرن التاسع عشر، وعاش أكثر من 80 عاما، وعندما بلغ الستين من
عمره كتب رائعته «البؤساء» موثقا الثورة الفرنسية، وصارت تلك الرواية مع
الأخرى التي سبقتها «أحدب نوتردام» أيقونتين في الضمير الجمعى العالمى،
ومنحتا الخلود لهذا الكاتب الاستثنائى، ومنحتنا عبر الزمن نشوة الأمل.
إنه فيكتور هوجو الذي تتباهى به فرنسا وتطلق اسمه- عرفانا
له- على أهم شوارعها، نثر بعضا من أفكار (البؤساء) في تلك الكلمات.. تخلق
العادات والقوانين في فرنسا ظرفًا اجتماعيًّا قابلًا للاشتعال، طالما توجد
لامبالاة وظلم وفقر.. كُتب كهذا الكتاب ستكون ضرورية دائما، لا يمكن أن تجد
نهاية للظلم، ولا للبؤساء في كل دول العالم إلا بالثورة.
أثار الفيلم المأخوذ عن الرواية الاهتمام في كل جنبات
المهرجان هذه الدورة، عندما وجه المخرج لادج لى الدعوة للرئيس الفرنسى
ماكرون يحثه فيها على مشاهدة فيلمه «البؤساء»، لأنه يرصد عنف الشرطة الذي
يؤدى إلى زيادة مساحة الغضب في الشارع، وبالطبع الفيلم تم تنفيذه قبل
مظاهرات القمصان الصفراء التي اجتاحت فرنسا مؤخرا، بل إن المخرج قبل بضع
سنوات قدم فيلمًا روائيًّا قصيرًا تناول أيضا بمفهوم عصرى نفس الرواية،
وبالطبع للسينما قانونها الخاص في علاقتها مع الأدب، تتجلى في تقديم إطلالة
خاصة من خلال الأدوات التي تملكها. من المؤكد أن المخرج لم يلتزم بالنص،
فقط اقتنص العمق الفكرى وأقام عليه رؤيته، وهذا هو الدرس المهم للفيلم،
السينما تتعامل في النهاية بمفرداتها، يُحسب للمخرج أنه حرص على أن ينسب
العمل لصاحبه، رغم أنه قدم فقط اللمحة الفكرية ولم يلتزم بأى تفاصيل أخرى،
وقف تحت مظلة هوجو، فكان لزامًا عليه أن يعلن ذلك مباشرة في «التترات»، كما
أن اسم هوجو ولا شك يمنح الفيلم ألقًا خاصًّا.
متعة ذهنية تستشعرها لو أعدت قراءة الرواية، ولكننا هذه
المرة بصدد رؤية سينمائية لها قانون آخر، أجاد المخرج الفرنسى لادرج لى
الذي شارك أيضا في كتابة السيناريو الإمساك بها، عنوانها أن الثورة آتية لا
ريب فيها، فهى ابنة شرعية للظلم، ومهما زادت مساحات القمع، فإنه يتحول مع
الزمن إلى وقود للاشتعال.
المخرج استعاد الكثير من ومضات هوجو وتضمنها في شريطه
السينمائى..
مثل: «الوطن هو الأم التي لا تموت»، «الضمير هو حلبة تتبارى
فيها الشهوات والتجارب وكهف الأفكار التي تثير فينا كوامن الخجل أو القبح»،
«التطرف هو الإساءة إلى الشىء الذي تؤيده وتأييد الشىء الذي يسىء إليك»،
«النجاح إرادة توجه الرجل نحو العمل المتواصل، وتلهب الروح وتؤجج النفس
وترهف الإحساس»، «عندما نسمع أصوات من نحب فلا حاجة بنا أن نفهم معنى
الكلمات».
إنها ومضات الكاتب وليست جملا مقتبسة من الرواية، التقط
المخرج هؤلاء الذين يعيشون على الهامش في فرنسا، مثل أصحاب البشرة السمراء
والمهاجرين من الشباب وغيرهم هؤلاء الذين يصطدمون دوما بالأجهزة الأمنية،
عبر عنها من خلال دورية شرطة يقودها مجموعة من غلاظ المشاعر، يطبقون
القانون بصرامة وعنف مَرضىّ يصل للسادية، ورغم ذلك فإنك تضبط نفسك متعاطفًا
معهم، وهم يواجهون رجال الشرطة بعنف مضاد، إنهم ضحايا القانون أكثر من
كونهم من الخارجين عليه، وهكذا كان عقاب دورية الشرطة مستحقًا وبناءً على
إرادة الجماهير.
في الظلال الأدبية شخصية «جان فالجان» بطل رواية «البؤساء»
الذي عانى في السجن وعانى أيضا بعد خروجه منه، رغم أنه ظاهريًّا يتلقى
عقابًا مستحقًّا، العمل الأدبى برحابته سمح مثلًا برؤية فيلم غنائى عن
القصة قبل نحو 7 سنوات، ومنح المخرج هذه المرة بأن نرى كل هؤلاء المهمشين
وكأنهم تنويعات درامية على «جان فالجان الألفية الثالثة»، فهم أيضا مثله
يعانون من ظلم العدالة، «فالجان» دخل السجن بتهمة سرقة الخبز لإطعام أبناء
أخته، إنه يذكرنى بمقولة أبى ذر الغفارى «عجبت لرجل لا يجد قوت يومه، ولا
يخرج على الناس شاهرا سيفه».
ورغم أن أبطالنا لم يشهروا سيوفهم، إلا أنهم واجهوا ببسالة
قوة مفرطة تتدثر عنوة بالعدالة، الناس تتعاطف مع هؤلاء المهمشين، مثلما
تعاطفوا مع «جان فالجان» رغم أنه ظاهريا مذنب، إلا أن للقلوب دائما حسابات
أخرى.
استطاع المخرج الحصول على أقصى درجات التلقائية من أبطاله،
كما أنه استخدم الموسيقى التصويرية في لحظات ذروة المشاعر، منحتنا الكثير
من الشجن والنشوة، أجاد ضبط إيقاع التصاعد النفسى والفكرى والحركى بين
هؤلاء الغاضبين ودورية الشرطة، المونتاج بطل رائع في قدرته على التماهى مع
الناس وكأنه يعبر عنهم، العنف حرك المؤشر 180 درجة لكى تتعاطف مع هؤلاء
الخارجين عن القانون وهم ينزلون بالشرطة أشد أنواع العقاب.
القانون الذي لا يرفع شعار الإنسان أولًا لا يمكن أن يسمى
قانونًا!.
tarekelshinnawi@yahoo.com |