أحمد رزق الله يكتب:
10 مشاهدات من مهرجان القاهرة
على مدار 10 أيام من انعقاد مهرجان القاهرة السينمائي
الدولي في دورته الأربعين، في الفترة من 20 وحتى 29 نوفمبر الماضي، شاهدت
العديد من الأفلام المصرية والعربية والأجنبية، وتباين خلالها الأداء وكذلك
ردود الفعل من الجمهور. استعرض أفضلها فيما يلي مع توضيح الأسباب.
1-
ليل خارجي
في خامس أفلامه الروائية الطويلة كمخرج بعد (هليوبوليس-
ميكروفون- فرش وغطا- ديكور)، اختار أحمد عبد الله السيد هذه المرة موضوعًا
أقرب للحياة اليومية التي يعيشها رجل الشارع المصري كتغيير عن الطابع
التجريبي الذي سلكه في مشواره خاصةً في فيلميه السابقين. ربما التجريب هذه
المرة يكون لأحمد في آلية إنتاج الفيلم التي بعدت عن شركات الإنتاج وصناديق
الدعم الأجنبية المعتادة، بالإضافة أيضًا إلى عدم استعانته بممثلين من ذوي
الأسماء البراقة أو الجماهيرية للعب الشخصيات الرئيسية.
ولكن رغم ذلك فإن عناصر التمثيل الثلاث لم تخذل أحمد وكانت
إحدى نقاط القوى الرئيسية لليل خارجي سواء كان كريم قاسم أو منى هلا وخاصةً
شريف الدسوقي الذي فاز بجائزة أفضل ممثل في المسابقة الرسمية للمهرجان عن
دوره المميز كسائق أجرة. هذا السائق هو رمانة ميزان الفيلم والضلع الأقوى
والأكثر ثراءً بين الشخصيات الثلاثة الرئيسية، المخرج السينمائي المتعثّر
في بداية مشواره الفني (مو/ كريم قاسم)، وفتاة الليل التي يتنافس عليها
الجميع (توتو/ منى هلا)، والسائق المنتفع من خدمة المخرج والراغب في قضاء
وقت لطيف مع فتاة الليل (مصطفى/ شريف الدسوقي).
الفيلم لاقى إعجاب الكثيرين ولكنه أيضًا اتهم بالضعف وبوجود
ثغرات في السيناريو (الذي كتبه شريف الألفي) من الآخرين من السينمائيين. في
رأيي الخاص “ليل خارجي” هو أقوى أفلام أحمد عبد الله (ربما مناصفةً مع
تحفته الأخرى ميكروفون) فنحن أمام فيلم مكتوب بعناية شديدة وبعد مجهود
لمعايشة حقيقية للشارع المصري في وقتنا الحالي ولشخصيات شبيهة بتلك التي
ظهرت على الشاشة ليخرج في النهاية بهذه الواقعية الشديدة، ولكنها واقعية من
النوع غير المؤلم أو المدرّة للشفقة بقدر ما هي واقعية ساخرة تجعلك تتحسّر
على الأوضاع دون أن تنفر منها.
2-
واجب
مرة أخرى تتألق آن ماري جاسر المخرجة الفلسطينية بفيلم
دافيء يختلف عن السائد والمعتاد تقديمه في السينما الفلسطينية. “واجب” فيلم
مبهر في بساطته عن رحلة أب وابنه لتوزيع دعوات حضور فرح ابنة الأول وأخت
الثاني على حبيبها. نتعرّف خلال هذه الرحلة القصيرة على الخلافات الفكرية
بين الأب (الممثل الكبير محمد بكري) والابن (صالح بكري، ابن محمد بكري في
الحقيقة) والتي دفعت الابن إلى ترك فلسطين والسفر للحياة في إيطاليا هربًا
من الأوضاع المتدهورة في فلسطين، ليعود فقط في هذه الرحلة القصيرة لحضور
فرح شقيقته.
الفيلم عرض في إطار القسم الخاص الذي نظمه مهرجان القاهرة
لتحية المخرجات العربيات الناجحات، وشهد حضور مخرجته في عرضه الأول والذي
للأسف لم يصحبه أي ترجمة إنجليزية، مما أدى لانسحاب الجمهور غير العربي من
العرض (وإن تم ترك هذا في العرض الثاني للفيلم). نقطة القوة الرئيسية في
الفيلم هي النجاح في الاستعانة بمحمد وصالح بكري وتجسيدهما لنفس العلاقة
الإنسانية التي تربطهما في الواقع، وإن تفوّق محمد بكري بتأديته لشخصية
الأب الضعيف المستعد للتعاون مع العدو وذلك على النقيض تمامًا من شخصيته
الأصلية المعروفة بالرفض التام للمحتل وما استتبع ذلك من مشاكل كثيرة له في
مسيرته وفي حياته الخاصة.
3-
ورد مسموم
رغم حصوله على عدد من الجوائز بنهاية المهرجان إلا أن فيلم
“ورد مسموم” لمخرجه أحمد فوزي صالح يعاني العديد من المشاكل التي استفزت
الكثير ممن شاهدوا الفيلم سواء من المتخصصين أو من الجمهور العادي الذي كان
متشوقًا لهذا العمل لمخرجه الواعد. أحد أهم مشاكل الفيلم هو الريتم شديد
البطء لأحداثه، أحداثه التي تتلخص في حياة بائسة لتحية التي ترعى شقيقها
الذي يعمل في صناعة الجلود بالمدابغ والذي يخطط لأخذ أحد مراكب الهجرة غير
الشرعية ليهرب من ظروف المعيشة الصعبة.
قصة مكررة ولكن يميزها عنصران جديدان الأول هو التصوير في
منطقة المدابغ وهو ما سمح بتقديم مناظر جديدة لم تعتد عليها السينما
المصرية (وإن قدمها المخرج نفسه في فيلمه التسجيلي الناجح “جلد حي”)،
والعنصر الآخر هو علاقة التملك والسيطرة (وربما الهوس؟) المسيطرة على
“تحية” تجاه شقيقها والتي تدفعها إلى إفشال مخططه للهرب بالإضافة إلى
محاولة إبعاده عن علاقة عاطفية محتملة له. الفيلم تبلغ مدته الزمنية 70
دقيقة (ساعة وعشر دقائق) أي أنه في عرف الأفلام الروائية أقرب إلى كونه
فيلم قصير عن كونه فيلم طويل ورغم ذلك يبدو أن صناعه لم يكن لديهم الكثير
ليقولوه من خلاله فلجأوا إلى إعادة نفس اللقطات والمشاهد مرة بعد الأخرى
لتأكيد نفس الفكرتين (الظروف البائسة، والشقيقة المسئولة عن رعاية وعن
إطعام شقيقها). جلد حي هو فيلم ذو نوايا طيبة جدًا إلا أنه ورغم تلك
الجوائز التي حصدها فإنك في الأغلب – إن استطعت إكمال مشاهدته الأولى- لن
ترغب في الاصطدام به مرة أخرى.
The White Crow -4
واحدة من أهم إنجازات الدورة الأربعين لمهرجان القاهرة هي
استضافة النجم السينمائي البريطاني “ريف فاينس” والأهم أن استضافته جاءت في
إطار تقديمه لفيلمه الأحدث (كمخرج وممثل) The
White Crow للجمهور
المصري، وبالتالي لم يكن حضوره دعائيًا فقط كما جرت العادة بهدف التقاط صور
له على السجادة الحمراء للمهرجان ثم سفره مباشرة في نفس اليوم بعد أن يكون
وكيله قد تحصّل على “المعلوم”.
الفيلم الذي عرض خارج المسابقة يتناول قصة حقيقية وهي قصة
راقص الباليه الروسي الشهير”رودولف نورييف” من خلال عدة مراحل في حياته
وأهمها كيفية نجاحه في الهروب من النظام الشيوعي إلى باريس حين كان في جولة
فنية لفرقة الباليه الروسية التي كان أحد أبرز أعضاءها. الفيلم –كما يقول
فاينس في الندوة التي عقدت له مع الجمهور في اليوم التالي لعرض الفيلم- لا
يهتم بأخذ موقف مع أو ضد أي من أبطال العمل فاختار أن يقدّم جميع الشخصيات
بشكل حيادي تاركًا حبها أو كرهها للجمهور بما في ذلك الشخصية الرئيسية
(والتي ظهرت في أحيان كثيرة كشخصية متعجرفة أنانية رغم إنه يفترض تعاطف
الجمهور معها) وحتى الشخصية التي قدمها “فاينز” نفسه كمدرب باليه ضعيف
الشخصية رغم عظمته المهنية.
The Interpreter – 5
هو أحد الأفلام التي لم تأخذ خقها من المشاهدة في المهرجان
رغم أهميته وطرافته في نفس الوقت. يبدأ الفيلم السلوفاكي/النمساوي/التشيكي
الذي عرض في قسم البانوراما الدولية بداية شديدة الجدية لا توحي بما هو
قادم بأننا أمام فيلم خفيف الظل رغم القضية الشائكة التي يتناولها. فالفيلم
يبدأ برجل ثمانيني يصعد إلى أحد البنايات بحثًا عن أحد سكانها حاملاً
مسدسًا وعازماً على قتل هذا الرجل الذي يبحث عنه حال العثور عليه. إلا أن
الوضع يتغيّر عندما يفتح له باب الشقة التي يستهدفها رجل خمسيني يخبره أنه
ابن الرجل الذي يبحث عنه وأن هذا الرجل (والده) قد توفّى، فنبدأ هنا تراجع
مؤقت عن تلك النية بالقتل لنشهد فيلمًا طريفًا يجمع هذا الرجل الثمانيني
السلوفاكي والابن الخمسيني النمساوي للرجل الذي يبحث عنه. الفيلم يناقش
(كمئات الأفلام التي ناقشت هذا الموضوع سابقًا) الإبادة التي حدثت لليهود
على يد الألمان وحلفاءهم في القرن الماضي وذلك من خلال هذا الرجل الكبير في
السن الذي يعمل مترجمًا والذي يريد الوصول للقائد العسكري النمساوي الذي
قام بتعذيب ثم قتل والده اليهودي في تلك الفترة ثم الانتقام منه بقتله.
ولكن ما يحدث عندما لا يجد ضالته في العنوان المنشود أن
الأحداث تقوده ليعمل مترجمًا لابن قاتل والده في رحلة الأخير للبحث عن أي
معلومات يتعرّف من خلالها عن تلك الفترة في حياة والده قاتل اليهود. ننطلق
إذاً في رحلة طريق أخرى لاثنين ليسا فقط شديدي الاختلاف في الشخصية
(اليهودي البائس الممتنع عن ملذات الحياة في مقابل النمساوي المستهتر
المقبل على الحياة عاشق النساء) ولكن أيضًا والد أحدهما قام بقتل والد
الآخر على أساس ديني عنصري.
النجاح الحقيقي لهذا الفيلم هو كيفية تحويل هذه القصة
الشائكة إلى كوميديا لطيفة جدًا دون أن يفقد القائمون عليه العصب الرئيسي
للفيلم بإلقاء الضوء على مدى بشاعة ما حدث من جرائم تطهير غير مقبولة على
مختلف العصور وباختلاف الضحايا.
Alpha, the Right to Kill – 6
من المنجزات الهامة أيضًا للدورة الأربعين لمهرجان القاهرة
استضافة المخرج الفلبيني الأهم “بريانتي ميندوزا” وهو الحاصل على جائزة
أفضل مخرج في مهرجان كان عام 2009. وقد حضر “ميندوزا” كعضو للجنة التحكيم
وكمحاضر حيث تم تنظيم ندوة له مع السينمائيين، ولكن كان أيضاً مرافقًا
لفيلمه الأخير Alpha,
the Right to Kill والذي
عرض خارج مسابقة المهرجان. إلا أن مستوى الفيلم جاء مخيبًا جدًا للأمال
ومغايرًا للمستوى المعروف عن أفلام ميندوزا. فقصة الفيلم (وهي أضعف ما فيه)
مكررة وسبق تقديمها بنفس تلك الحبكات في الكثير من الأفلام حتى المصرية
منها.
الضابط الفاسد الذي يقوم بحملة على وكر عصابة إتجار مخدرات
وأثناء الحملة نكتشف تواطؤه مع أحد أفراد العصابة (وهو أيضاً المخبر الذي
يجمع له المعلومات) ليقوما بالاستيلاء معًا على جانب من أموال وممنوعات
العصابة لصالحهما الخاص. وبالطبع مع قرب اكتشاف أمرهما يقوم هذا الضابط
(البارع في تقديم نفسه كضابط ملتزم هاديء الطباع) بقتل المخبر شريكه في
العملية لإخفاء أي دليل على إدانته. الفيلم من نوعية الأفلام البوليسية
التي تناسب فترة الظهيرة أمام أي تليفزيون وهو في رأيي واحد من أضعف أعمال
“ميندوزا” في السنوات الأخيرة.
Bombshell: The Hedy Lamarr Story – 7
فيلم وثائقي آخر عرض في قسم البانوراما الدولية ومر عرضه
مروراً هادئًا دون أن يلتفت إليه الكثيرون. هيدي لمار هي واحدة من أجمل
ممثلات هوليوود في فترة من ثلاثينات إلى خمسينات القرن الماضي وقد كان
جمالها هو رأسمالها ومدخلها إلى عالم التمثيل الصعب اقتحامه في تلك الفترة.
ولكن من خلال هذا الفيلم نتعرف على أوجه أخرى أكثر عمقاً لتلك الممثلة التي
يجهل عنها الشباب الكثير. فنتعرف من خلال رواية هيدي نفسها في مكالمة
تليفونية سجلها صانعو العمل مع هيدي قبل وفاتها بقليل أنها (ذات الأصول
النمساوية) بدأت حياتها بداية صعبة بزيجة خالية من أي حب مما جعلها تهرب
إلى باريس بحثًا عن فرصة لحياة جديدة وجدتها في عالم التمثيل. ولكن أهم ما
يكشف عنه الفيلم هو الوجه المجهول تمامًا لهيدي، فتلك الممثلة التي ظلت
محاصرة لفترة طويلة من مسيرتها في أدوار الفتاة اللعوب (بسبب نجاحها في لعب
هذا الدور في فيلم قامت بتمثيله في النمسا وعرفها الناس به في بداية
مسيرتها) كانت تمتلك موهبة أخرى رفض العالم لسنوات طويلة الاعتراف بها. فقد
كانت هيدي مهتمة بالعلوم وخاصة ما يتعلق بالموجات والترددات ونجحت بالفعل
مع صديق لها (مؤلف موسيقي) في الوصول إلى نظام راديو يعتمد على تكرار
الترددات يمكن استخدامه لتطوير تكنولوجيا الاتصالات المستخدمة في ذلك الوقت
في مواجهة القوات الألمانية أثناء الحرب العالمية. إلا أن العالم وجموع
المتخصصين في علوم الحرب رفضوا الاعتراف بهذا النظام وكان الدافع الأكبر
لرفضهم هو عدم تقبلهم تدخل ممثلة غير متخصصة ومعروفة كممثلة إغراء في شئون
عسكرية لا شأن لها بها.
الجزء الأخير من الفيلم التسجيلي وهو الجزء الأكثر تأثيرًا
يوضح كيف أن مع مرور السنين بدأ العالم يلتفت للنظرية العلمية التي توصلت
لها هيدي وبدأوا في تطوير ما قامت به حتى أصبحت تلك التكنولوجيا هي أساس
الثورة التكنولوجية التي حدثت في السنوات الماضية مع التوصل إلى تكنولوجيا
البلوتوث والواي فاي وغيرها من تكنولوجيات معتمدة على الذبذبات والموجات.
8-
في استوديو مصر
الكثير يعرفون استوديو مصر كاستوديو لتصوير وإنتاج الأفلام
السينمائية خاصةً أثناء العصر الذهبي للسينما المصرية، والبعض الآخر يعلم
إضافةً لذلك دور طلعت حرب أبو الاقتصاد المصري في إنشاء هذا الاستوديو كجزء
رئيسي من خطته لتحديث مصر واقتصادها. قامت منى أسعد بتقديم بحث ممتع عن هذه
الجوانب في فيلمها الوثائقي الهام “في استوديو مصر” ولكن الأهم هو توثيقها
للرحلة التي قام بها مجموعة من السينمائيين المصريين الشباب (آنذاك)
الطموحين (المجنونين؟) في عز فترة خصخصة الدولة لممتلكاتها لتولي إدارة هذا
الصرح المتهالك وتحويله إلى استوديو حقيقي يواكب العصر السينمائي الحديث.
فريق شركة الإكسير بقيادة المخرج (مع إيقاف التنفيذ) كريم
جمال الدين نجحوا في إحداث نقلة نوعية في تقنيات الصورة والصوت في السينما
المصرية حين اقتحموا السوق في نهاية تسعينات القرن الماضي مسلحين بثقافة
الانفتاح على العالم، ولكن طموحهم لم يتوقف عند هذه النقلة وقرروا اتخاذ
خطوة يبدو أنهم لم يكونوا مدركين لخطورتها حين قرروا الدخول في عش الدبابير
بتولي إدارة استوديو مصر. منى أسعد كانت حاضرة هذه العملية منذ لحظتها
الأولى وفي فيلمها (الذي عرض في قسم العروض الخاصة – خارج المسابقة
بالمهرجان) نجحت في إلقاء الضوء على هذه التجربة الهامة التي نساها
الكثيرون والتي توضح الحالة المزرية التي وصلت إليها السينما المصرية في ظل
ترهّل الدولة وكياناتها المسئولة عن دعم هذه الصناعة. نعيش مع الفريق رحلة
الطموح والشقاء والمعافرة ثم الإحباط التي مروا بها خلال رحلتهم من
الانتقال من القطاع الخاص حيث حققوا نجاحات مبشرة إلى الوقوع في فخ
بيروقراطية الدولة العتيقة المقيّدة لأي إبداع دون أن نملك سوى أن نتعاطف
معهم لتصديقهم لحلم انتهى مصيره بأقل كثير مما كانوا يتمنونه. فيلم عظيم
يستحق المشاهدة مرارًا.
Green Book -9
كان هذا الفيلم واختياره لافتتاح المهرجان مؤشرًا إيجابيًا
على ما نحن جمهور المهرجان مقبلون عليه من وجبة محترمة من الأفلام الهامة.
للأسف اقتصر عرض فيلم Green
Book على
عرض واحد غير مسموح بحضوره سوى لمدعوي حفل الافتتاح رغم الإعلان المبدئي عن
تنظيم عرض آخر لجمهور المهرجان.
الفيلم هو أحدث أعمال المخرج الأمريكي الهام “بيتر فيريلي”
ويعتبر في رأيي تجربته الإخراجية الأنضج، والدليل على ذلك فوزه بجائزة
الجمهور في مهرجان تورونتو السينمائي (وهي جائزة يعرف أهميتها المتخصصون)
بالإضافة إلى توقّع الكثيرين له أن يتصدر قائمة الأفلام المرشحة لجوائز
الأوسكار لهذا العام. لا يتخلّي “فيريللي” عن أسلوبه الكوميدي في صناعة
أفلامه ولكنه يقدم الكوميديا في إطار قصة متماسكة تطرح قضية هامة سبق لكثير
من الأعمال طرحها وهي العنصرية التي لاقاها أصحاب البشرة الداكنة في
الولايات المتحدة في القرن الماضي.
“فيجو
مورتينسين” يقدم شخصية الأمريكي صاحب الأصول الإيطالية المندفع الأهوج
والذي يؤدي اندفاعه وعصبيته إلى طرده من وظيفته (كحارس في ملهى) مما يجعله
يقبل على مضض العمل كسائق ومساعد لموسيقار من أصحاب الأصول الأفريقية لعدة
أشهر أثناء جولته الموسيقية مع فرقته في عدد من ولايات الجنوب الأمريكي.
نصاحب هذا الثنائي خلال رحلتهما معًا
(فهو
فيلم من أفلام الطريق- Road
Movie)
والتي يتخللها الكثير من الأحداث أغلبها تصوّر بشاعة العنصرية الشديدة التي
كان يعاني منها أصحاب البشرة الملونة في أمريكا في تلك الفترة بشكل شديد
المهانة وكيف أدت هذه المواقف إلى تغيّر نظرة السائق (المائل إلى العنصرية
هو الآخر حتى نحو سيّده) من رفض إلى تعاطف ثم صداقة مع هذا الموسيقار الذي
صاحبه وعاش معه لعدة اشهر (والذي يقوم بأداءه بشكل عبقري الممثل ماهرشالا
علي ليكون أحد أقوى المرشحين لأوسكار أفضل ممثل هذا العام) حتى ينتهى بهما
الفيلم وهما يتناولان عشاء عيد الميلاد معًا في منزل السائق وكعضو من أسرته.
A Twelve-Year Night -10
الحب والتقدير الذي لاقاه مخرج هذا الفيلم (الأوروجواني
ألفارو بريشنر) من الجمهور المصري خاصةً بعد العرض الأول للفيلم في
المهرجان وأثناء استلامه لجائرة الهرم الذهبي في حفل ختام المهرجان قد يوحي
أن لهذا المخرج الشاب تاريخ طويل مع الجمهور المصري ومهرجانهم. إلا أن
فيلمه الذي عرض في المسابقة الرسمية نجح في لمس قلوب المصريين وفي تحريك
مشاعرهم تجاه أحداثه وأبطاله بشكل نادر الحدوث لدرجة أن الجمهور استمر في
مطاردة مخرج الفيلم بعد انتهاء العرض والندوة وأصروا على مرافقته حتى خرج
تمامًا من المسرح الكبير بدار الأوبرا بعد أن تناقشوا معه طويلًا والتقطوا
معه صوراً كثيرة كما لو كان أحد نجوم هوليوود.
الفيلم يستحق هذا التقدير كما يلزم الإشادة بجرأة إدارة
مهرجان القاهرة لاختيار هذا الفيلم السياسي شديد الإنسانية الذي يحكي قصة
12 عام من الديكتاتورية والقمع العسكري مرت بهم أوروجواي في الفترة من
(1973-1985) قبل العودة مرة أخرى إلى طريق الديموقراطية الصحيحة. يلقي
الفيلم الضوء على هذه الفترة من خلال رصد العذاب الذي تعرض له ثلاث رجال من
القوى المعارضة لهذا الحكم داخل سجون النظام القمعي والذي تخلله تعذيب
مستمر لهم وعزل عن جميع مظاهر الحياة (بما في ذلك منعهم من الحديث إلى
بعضهم) مع الانتقال إلى حياتهم ما قبل السجن وطبيعة علاقاتهم الإنسانية
بأسرهم.
وينتهى الفيلم مع انقشاع تلك الموجة الديكتاتورية وهزيمة
هذا النظام من خلال الانتخابات وبالتالي خروج الثلاثة من السجون بعد تلك
السنوات من الانقطاع عن الحياة ليعودوا إلى لعب دورهم التنويري في ظل نظام
ديموقراطي حر سمح لأحد الثلاثة بأن يصبح رئيسًا لدولة أوروجواي في عام 2010
وحتى عام 2015. |