مهرجان القاهرة السينمائي يخطط لتجاوز مصاعبه
يرأسه خبير ويحضره سينمائيون مميزون
لوس أنجليس: محمد رُضا
يستطيع الواحد منا أن يلم بالمتغيرات المحتملة في
أفق الحدث قبل وقوعه. شيء من التنبؤ الناتج عن ملاحظة ارتباط تلك
المتغيرات الوثيق بدلالاتها. في هذا الإطار يجيء الإعلان الذي صدر
عن إدارة مهرجان القاهرة قبل نحو أسبوع، والمتعلق باختيار المخرج
الدنماركي بيلي أوغوست رئيساً للجنة التحكيم المقبلة لمهرجان
القاهرة السينمائي، إيذاناً بأن الدورة الجديدة تتمتع بعناصر
إدارية طموحة، ولديها القدرة على اتخاذ قرارات أساسية تستطيع
تنفيذها، وليس التوقف عند الحلم بتحقيقها فقط.
عملياً، هذا هو المتوقع من رئيس المهرجان الجديد،
المنتج وكاتب السيناريو محمد حفظي، الذي باشر تولي مهامه منذ بضعة
شهور، ولم يفرط في دقيقة واحدة، منذ أن اختير لقيادة هذا المهرجان
المصري الأقدم؛ ليس لأنه يحاول البرهنة على قدراته؛ بل لوعيه بأن
المرحلة الحالية من حياة المهرجان الذي يخطو صوب دورته الأربعين
(تُقام ما بين 20 و29 نوفمبر «تشرين الثاني» المقبل) ستحدد احتمال
تقدمه أو بقائه في النطاق الذي ثابر عليه.
المهمة عويصة وشاقة لأكثر من سبب؛ ليس أقلها أن
المهرجان إذ يمثل مصر أكثر من سواه من المهرجانات المقامة في ذلك
البلد الثري بثقافاته، عانى من مشكلات كثيرة منذ أن أقيم لأول مرّة
قبل أكثر من ثلاثين سنة وإلى اليوم. مشكلات في الروتين
والبيروقراطية وأخرى في سوء الإدارة، في الحقبة التي تلت رحيل
رئيسه سعد الدين وهبة. ومشكلات في التمويل في أغلب مراحله، وصولاً
إلى دورة سنة 2015 التي تولاها الناقد الراحل سمير فريد، الذي كابد
عاماً واحداً من المصاعب ثم استقال.
حين تسلمت السيدة ماجدة واصف، التي أدارت بنجاح
مهرجان «معهد العالم العربي» في باريس منذ إطلاقه سنة 1992، وحتى
توقفه في عام 2006، وجدت نفسها أمام جدار من المشكلات المالية
والإدارية. صارعت ضآلة التمويل بالإضافة لمشكلات روتينية متوالية
أخرى، وأنجزت - رغم ذلك - دورها بفاعلية، معيدة الأضواء، في دورته
الماضية، إلى هذا الحدث المهم.
دورة حاسمة
الآن يؤكد تاريخ محمد حفظي، ولأسباب عدة، أن المنصب
المرموق آل إلى الرجل المناسب، إن لم يكن بسبب ثقافته السينمائية
والمهنية المتقدّمة، فبسبب علاقاته الدولية. وإن لم يكن لأي من
هذين السببين فلأن الرجل خبر معيقات النمو في صناعة السينما
المصرية، ودرس تاريخ النجاحات والإخفاقات التي واكبت المهرجان، ولم
يقبل المهمّة إلا من بعد إدراكه أنه يستطيع فعلاً تحريك الجامد،
والارتقاء بالمهرجان ليحتل مكانة أعلى مما هو عليها الآن.
لكن الواقع أن الأسباب الواردة كلها صحيحة. هو
بالفعل مثقف سينمائي ناجح، ولديه علاقات دولية متاحة، كما أنه من
خيرة السينمائيين المواكبين لحداثة السينما المصرية والعربية، وجرى
الاحتفاء به في أكثر من مهرجان عربي، إلى جانب حضوره الدائم في بعض
أهم المهرجانات الدولية.
وهو ليس وحده. أحد أكبر وأهم مساعديه الناقد يوسف
شريف رزق الله، الذي واكب المهرجان منذ سنواته الأولى وعمل تحت
إداراته المتوالية من دون هوادة. وجوده في المهرجان بات صمام أمان
للجميع. دوره فيه من الأهمية بحيث لا يمكن الاستغناء عن جهوده
وموهبته. هو ناقد مثقف ويجيد الإنجليزية والفرنسية، وله اتصالاته،
كما أنه مصدر ثقة الجميع، ويحترمه؛ لا أهل المهنة فقط؛ بل الجمهور
الذي تعرّف عليه داخل المهرجان وخارجه، خلال الأنشطة الثقافية
الممتدة عبر العقود.
بجلب بيلي أوغوست ليكون رئيس لجنة التحكيم، مع
الوعد بإعلان أسماء فنية لامعة أخرى تنضم إلى تلك اللجنة، أو تؤم
المهرجان مع أفلامها، تتبلور ملامح دورة حاسمة في حياة هذا
المهرجان.
في الأساس، ليس بيلي أوغوست مجرد اسم معروف لدى
الوسط السينمائي حول العالم. ربما لم يعد اسمه متداولاً كما في
السابق؛ لكنه ما زال أحد علامات السينما اليوم. نال في مهنته، حتى
الآن، ثمانية عشرة جائزة دولية، ورشح لأكثر من ذلك.
حصد ثلاث جوائز من مهرجان برلين، ما بين 1985
و2007، وربح سعفتين ذهبيتين من مهرجان «كان» السينمائي: الأولى سنة
1988 عن فيلمه «بيل القاهر» والثانية عن «أفضل النيات» سنة 1992.
وطئ أوغوست السينما سنة 1977 كمدير تصوير حتى سنة
1981. في وسط مهنته الأولى هذه أخرج فيلمه الأول «في حياتي» سنة
1978، ثم استكمل مهنته مخرجاً من عام 1983 فصاعداً. «بيلي القاهر»
كان دراما ساحرة عن أب سويدي وابنه يلجآن في أواخر القرن التاسع
عشر، إلى الدنمارك بحثاً عن عمل؛ لكن على الرغم من الثقافة
المتقاربة والحدود المشتركة بين الدولتين، فإنهما يواجهان قدراً من
العنصرية والجفاء يزيد من مشكلاتهما، وإن لم يستطع تغيير حرصهما
على تحمل المشاق في سبيل البقاء.
يرمي أوغوست شباكه صوب السويد مرّة ثانية في فيلمه
«أفضل النيات» بتحويل سيناريو كتبه إنغمار برغمن إلى فيلم من
إخراجه، تدور أحداثه سنة 1909، ومستوحى من حياة برغمن نفسه. لكن
الفيلم، الذي يمتاز بحسنات في كل ناحية من نواحيه، لا يحاول
التماثل مع أسلوب برغمن؛ بل ينضوي تحت أسلوب أوغوست ذاته.
وثبة جديدة
لم تتوقف جهود بيلي أوغوست عند هذين الفيلمين؛ بل
أنجز بضعة أخرى لا تقل جودة، بصرف النظر عن ضياع بعضها وسط زحمة
الأيام واختلاف المعايير. هذا الجهد للإتقان نجده عند محمد حفظي
بدوره. ولد سنة 1975، ومارس الكتابة من مطلع السبعينات، قبل أن
يشهد تحويل سيناريو أحد أفلامه، وهو «السلم والثعبان» إلى فيلم من
إخراج طارق العريان. حفظي، في تلك السن المبكرة قام بإنتاج الفيلم
بنفسه، ضامناً رؤيته. وبعد هذا الفيلم تعددت أعماله، وكلها تحمل
اختلافاً متميزاً عن أترابه، مثل «تيتو»، و«ملاكي إسكندرية»،
و«الوصايا العشرة». أحد هذه الاختلافات ميله للنمط الأميركي في
الكتابة، الأمر الذي يجذب إليه رغبة المخرجين الباحثين عن فيلم سلس
الحكاية وعميق المدلولات في الوقت ذاته. أنتج حفظي أكثر من ثلاثين
فيلماً، من بينها ما شهد نجاحاً بين المهرجانات العربية وبعض
الدولية، مثل «ميكروفون»، و«فيلا 69»، و«قبل زحمة الصيف» (آخر
أفلام المخرج الراحل محمد خان)، و«الشيخ جاكسون». في هذا المجال
أيضاً عمد إلى مد العون لمخرجين واعدين كثيرين، فهو منتج فيلم
«أخضر يابس» لمحمد حماد، و«اشتباك» لمحمد دياب، و«المنعطف» للأردني
رفقي عسّاف.
الوثبة الجديدة لا بد ستستفيد من كل مؤهلاته،
والوعد أن مهرجان القاهرة في دورته الأربعين هذه سيرسم معالم جديدة
لهذا المهرجان العريق. |