رأفت الميهي: الواقع أكثر حبكة من السيناريوهات
حوار - علا الشافعي
في مكتبه بوسط القاهرة دأب المخرج المصري الكبير رأفت الميهي على الحديث عن
مشروعاته الجديدة. وبكامل الحيوية والصخب الإبداعيين كان يقف وسط «استوديو
جلال» ليحوله من حالة الجمود والتهالك إلى فضاء نابض بالحياة والمنجزات
السينمائية. كما امتدت أفضال الميهي إلى غيره من خلال تأسيسه أكاديمية
لتخريج الموهوبين في مجالات الفن السابع.
صاحب «على من نطلق الرصاص» ليس مجرد مخرج يتقن هذه الحرفة، أو سيناريست
يكتب وكفى... بل إنه تجربة مثلما حققت فنياً حالة مرجعية مُكتملة، فإن
مضمونها الفكري اقترن بالتمرد والمغامرة والفضح. ولأنه كذلك دخل في معارك
مع سماسرة التراث، والموزعين الذين كانوا سداً منيعاً أمام أي فن مختلف
وحقيقي.
حالياً، يوجد الميهي بمستشفى بـ«المعادي العسكري»، عليك أن تقطع ممراً
طويلاً، قبل أن تصل إلى الغرفة رقم 36 بقسم المخ والأعصاب. تضم تلك الغرفة
الصغيرة جسده الذي صار نحيلاً من شدة المرض، لكن صوته الخفيض يأتي من
الداخل، واستقبلنا بنفس الابتسامة الهادئة، التي لم يأخذ المرض منها شيئاً.
روحه المتمردة سلاحه في مواجهة المرض. يحرص على متابعة كل ما يدور في
المجتمع.. يعرف تفاصيل المشهد العربي المتردي سياسياً.. يتحرك في الغرفة
الصغيرة مابين سريره أو كرسيه المتحرك، مُمسكاً بالريموت كنترول، وعندما
يمازحه أحد «يا أستاذ مش كفاية سياسة ريح بالك» فيرد بجديته ونبرة لا تخلو
من سخريته المعتادة، «مافيش غيرها في المستشفى، ولا أستطيع أن يمر عليّ يوم
دون معرفة تفاصيل ما يدور حولي من أحداث».
قبل أن نجري معه هذا الحوار، بادرناه بالسؤال عن صحته وحالته المرضية؟ فرد
دون أن يستطيع منع دموعه عن حلمه، وحبه للإخراج: «الحمد لله أنا راضٍ جداً،
وأعرف أن حالتي صعبة، ورغم ذلك لا أتوقف عن الحلم بأن أستعيد ولو جزءاً من
عافيتي، كل ما أرغب فيه هو الوقوف وراء الكاميرا من جديد، وأعرف مدى صعوبة
ذلك، ولكن لن أتوقف عن الحلم..».
·
أنت أشهر مخرج فانتازيا في السينما المصرية: هل ترى بأن الواقع الحياتي
الآن أكثر فانتازية من الأفلام، ولماذا لم تعد هناك أفلام تنزع البسمة من
شفاه المصريين؟
-
الواقع الحياتي صار أكثر حبكة من السيناريوهات السينمائية، بل صار أكثر
قرباً إلى الكوميديا السوداء، لذلك أصبح من الصعب أن يجد المصريون ما
يضحكهم الآن في الأفلام التي تطرح كما أن الأفلام «دمها تقيل» ولا تمت للفن
بصلة.
·
منذ أكثر من 30 عاماً وأنت تنادي بضرورة تغيير قوانين صناعة السينما، والتي
عرفت فساداً لا يختلف كثيراً عما يدور في المجتمع، ودائماً ما كنت تنادي
بضرورة النهوض بالصناعة، ووضع أسس لذلك، ولكن تدهور حال الصناعة، وحالياً
هناك محاولات لإنقاذها كيف ترى المشهد السينمائي؟
-
حالياً لا توجد سينما، كانت موجودة في الماضي فقط، وتاريخها كان قائماً على
أكتاف أفراد وليس مجموعات مثل جيل الرواد من المنتجين رمسيس نجيب وحسن رمزي
وحلمي رفلة وآسيا، وغيرهم، ومازلت أحلم أن نعود مثل الماضي، ومع أن هناك
منتجين جدداً يبذلون محاولات وتجارب إلا أن الفيلم يخرج ضعيفاً نظراً
لتكلفته القليلة والمحدودة، ولكن أتمنى أن تملك الدولة وعياً بأهمية الفنون
ومن بينها السينما لتعمل بجدية على تطويرها، بعيداً عن لقاءات الغرف
المغلقة، والخروج بتوصيات تملأ الأدراج ولا ينفذ منها شيء.
·
معارك كثيرة خضتها مع الرقابة، ولا تزال معارك المبدعين مع هذا الجهاز
العقيم البيروقراطي قائمة. من يحمي المبدع وهل تؤيد فكرة إلغاء الرقابة على
المصنفات الفنية؟
-
أنا ضد وجودها و«مفيش حاجة اسمها رقابة»، والمفترض أن يكون هناك جهاز
مصنفات لحماية حق المبدع وليس رقيباً على أعماله، ويكفي المبدع الرقابة
المجتمعية بمعنى أننا ومنذ فترة طويلة نرى ونسمع عن «اللى ميعجبوش فيلم
يرفع قضية ضد صناعه» وهذا بتنا نشاهده كثيراً، وعن نفسي عانيت منه.
·
في مشوارك السينمائي الحافل تعاونت مع أجيال في السينما المصرية بدءاً من
جيل شادية وسعاد حسني، وحتى جيل شريهان وداليا البحيري.. ما الذي تغيّر في
مواصفات النجمة من جيل لآخر ؟
-
بدأت مشواري مع عمالقة في كافة أفرع الفن، جيل كان يخلص في عمله ويحرص على
تقديمه في أفضل صورة للمشاهد بخلاف الجيل الجديد، فمثلاً سعاد حسني النجمة
الموهوبة التي لا تقارن بأحد كانت تنام وتستيقظ وسيناريو العمل بين
أحضانها، وكذلك النجمة نادية لطفي، وكنت أرى شريهان مشروع سعاد حسني
القادم، لكنها لم تستطع الوصول لمكانتها للأسف رغم امتلاكها موهبة فنية
جيدة، وعندما قدمت معي فيلم «ميت فل» كان العمل كوميدياً ويتطلب خفة ظل
ولمحت في عيونها الحزن. قلت لها «أنت حزينة ليه الفيلم كوميدي» وفي اليوم
التالي جاءت إلى الأستوديو وهي «شاربة الشخصية»، أما داليا البحيري فلم
تنضج فنياً حتى الآن.
·
وماذا عن النجم عادل إمام الذي قدمت معه فيلم «الأفوكاتو»؟ ويحيى الفخراني
الذي قام ببطولة فيلمك المتميز «للحب قصة أخيرة»؟ ويسرا وليلى علوي وإلهام
شاهين وشريهان كممثلين وقفوا خلف كاميرا رأفت الميهي؟
-
بالطبع عادل إمام، في المقدمة لأنه رشيق وذكي ولديه تنوع في أعماله
و«مبيحصرش» نفسه في عمل واحد، أما يحيى الفخراني فكنت أطلق عليه شارلستون
مصر، لكن «تخنه» أضره، وهذا لا ينفي أنه فنان شديد الموهبة، ويقدم تجارب
متميزة في الدراما. شريهان الأكثر موهبة من يسرا وليلى علوي وإلهام شاهين،
بس للأسف هي التي «قضت على نفسها»، ولكن عندما أسمع عنها أو أشاهدها أقول
لنفسي كان الله في عونها تحملت الكثير أيضاً.
·
رغم اكتشافك للعديد من المواهب وتقديم نجوم ونجمات في أفلام غير تقليدية
إلا أن معظمهم تجاهلك في مرضك؟ وقامت النجمة ليلى علوي بالاعتذار لك على
تقصيرها في حقك في أحد البرامج. كيف تشعر تجاه عدم وفاء تلاميذك من
الفنانين؟
-
ولا واحد من تلاميذي الفنانين بيسألوا عني، ولست أشكو عدم سؤالهم، وأيضاً
لا أعتب عليهم، أما اعتذار ليلى (يصمت للحظة): «وماله يمكن افتكرتني لما
عرفت أن إلهام شاهين جاءت لزيارتي» أما تلاميذي بأستوديو جلال فعلى اتصال
بي دائماً للاطمئنان على حالتي الصحية. وأكثر من يهتم هي الفنانة نادية
لطفي التي تربطني بها صداقة قديمة ممتدة منذ تصوير فيلم «المومياء» لشادي
عبد السلام، والتي لا تتوقف عن متابعة حالتي والاتصال يومياً بطاقم
التمريض، خصوصاً أنها لا تستطيع أن تأتي لزيارتي بسب عدم قدرتها على المشي
لوقت طويل، ويكفي أنها هي التي كانت وراء إصدار قرار علاجي على نفقة وزارة
الدفاع، ولم تتوقف حتى اطمأنت على حالتي، وهي سيدة يعتمد عليها وصديقة
مخلصة، وكان يحز في نفسي تجاهل الدولة لي ولمشواري الفني، والكثير من
النجوم والذين لم يفكر بعضهم حتى في رفع سماعة الهاتف للسؤال عليّ، ومؤخراً
قام بزيارتي الكاتب وحيد حامد، والمخرج محمد يس، والفنانة إلهام شاهين،
إضافة إلى تلاميذي من الأكاديمية التعليمية.
·
مشوارك شديد التنوُّع والثراء، ولكن بصراحة أقرب أفلامك إليك بعيداً عن
مقولة كلهم أبنائي؟
-
أفضل أفلامي هي التي تعاونت فيها مع أستاذي المخرج الكبير الراحل كمال
الشيخ، ومنها «غروب وشروق» و«على من نطلق الرصاص»، أبدعنا معاً، وأيضاً
فيلم «الأفوكاتو» وفيلم «للحب قصة أخيرة» اعتبرهما من أجمل أفلامي كمخرج
وكاتب.
·
لم تعرف في حياتك سوى حب السينما، والتي تعني في جزء منها الحلم. هل لايزال
الميهي قادراً على الحلم رغم محنة المرض؟
- (يصمت
للحظات) لا أستطيع أن أعيش بدون حلم، رغم كل ما أعانيه وأمنياتي مُتعدّدة،
لكن الحلم الذي أتمنى من روحي أن يتحول إلى حقيقة ولو لبعض الوقت، أن أتحرك
على قدميّ مرة أخرى وأعود لممارسة عملي الإخراج السينمائي، لأن الكاميرا
«وحشتني»، وحالياً لا أستطع فعل شيء غير أني «أنام وأستيقظ»، لكن هذه إرادة
الله وأنا راضٍ بها.
·
في فيلمك «على من نطلق الرصاص» ناقشت الفساد السياسي، وكان ذلك في عصر
الرئيس السادات. بعد مرور كل هذه السنوات على الفيلم من ترى يستحق إطلاق
الرصاص عليه؟!
-
نطلقه أيضاً على الفساد الذي سيطر وترعرع في المجتمعات من الماضي وحتى
الآن، وأرى أنه من العيب أن يستمر. ويجب على مختلف الفئات أن تتكاتف لأجل
مصلحة الوطن، والتي يجب أن تكون فوق المصالح الشخصية، لأن أولويات هذه
المرحلة تتمثل في القضاء على الفساد، وهذا يدفعني أن أقول «إحنا في إيه ولا
في إيه»... |