بعكس ما أشيع عنه.. عمر الشريف طالب حازم ورياضي ناجح
بحث جديد كشف أن سنوات دراسته في «فيكتوريا كوليدج» جمعته
مع المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد
القاهرة: داليا عاصم
رحل الفنان عمر الشريف تاركا إرثا سينمائيا ضخما وجماهير
عريضة حول العالم من المحبين والمعجبين. شهرته كشاب وسيم ونجم عالمي أعطت
الكثير من محبيه انطباعا بأنه كان شابا مشاغبا أو دنجوانًا، لكن أثناء
البحث في تاريخ المدرسة الإنجليزية «فيكتوريا كوليدج» بالإسكندرية لإعداد
كتاب عنها تم اكتشاف العكس تماما.
كان دنجوان السينما المصرية والعالمية (ميشال ديمتري شلهوب)
المولود في 10 أبريل (نيسان) 1932 كما هو مدون في سجلات المدرسة، طالبا
أنيقا ومهذبا جدا وصارما جدا، وكان من عائلة شامية كاثوليكية، وكان من أكثر
الطلاب احتراما وتفوقا، وكان قائدا لطلبة الكلية كلها وجميع طلابها
Head boy،
وله صلاحيات المدير كي يعاقب ويحاسب الطلاب المشاغبين. وظل طوال سنوات
دراسته بها من أكثر الطلاب تفوقا على المستوى الدراسي وعلى المستوى
الرياضي، بل كان أشهر قائد طلاب في تاريخ المدرسة.
كان عمره 10 سنوات حينما التحق بفيكتوريا كوليدج وكان
بدينا، وكان هذا هو السبب الرئيسي في قرار والدته إلحاقه بالقسم الداخلي
للكلية؛ إذ إنه لم يكن يستجيب لوالدته في تنظيم الوجبات، لذا أدخلته والدته
فيكتوريا كوليدج لنظامها الإنجليزي الصارم ووجبات الغذاء المقننة للطلاب
وصرامتها في التزام الطلاب بممارسة الرياضة مثل الكليات العسكرية حاليا،
لذا فقد ميشال وزنه بسرعة. ويقول عمر الشريف: «والدتي كانت تعاقبني إن لم
أحصل على الترتيب الأول بعلقة ساخنة، لم تكن تقبل مني إلا أن أكون ممتازا
في كل شيء».
وكان الشريف يتقن الفرنسية اللغة الدارجة في الشارع المصري
آنذاك، وكان يتحدث بها مع والدته في المنزل، لكنه كان يذكر دوما فضل
فيكتوريا كوليدج عليه قائلا: «بالفعل تحسنت صحتي النفسية والبدنية، كما
أنني أتقنت اللغة الإنجليزية، ولولا ذلك لما سنحت لي فرصة المشاركة في فيلم
(لورانس العرب)، ولما عرفت العالمية».
وكان من تقاليد المدرسة الإنجليزية الصارمة كتابة تقارير عن
كل طالب لإبراز مدى تقدمه الدراسي ونقاط قوته وضعفه وأهم مواهبه التي ينبغي
تنميتها. وفي أحد تقارير المدرسة كتب أن (ميشال شلهوب) طالب جاد وموهوب وله
مستقبل باهر في التمثيل المسرحي، وهو رياضي متميز وبارع في كرة القدم
والكريكيت.
تفوق عمر الشريف في رياضة الكريكيت الإنجليزية وكرة القدم،
وكان اليوم الرياضيSports
day
في فيكتوريا يعني مباراة شائقة سيكون بطلها ميشال شلهوب الذي كان محل إعجاب
من المعلمين والطلاب.
انضم عمر الشريف إلى فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية في أواخر
ثلاثينات القرن العشرين، وتصادف أنه في ذاك الوقت كان يدرس بها أيضا الفنان
الراحل أحمد رمزي والمخرجون الراحلون يوسف شاهين وشادي عبد السلام وتوفيق
صالح. وجمع بينهم مسرح الكلية «بيرلي هول» وتفجرت مواهبهم على أيدي
المعلمين الإنجليز، حيث كانوا يقدمون مسرحيات شكسبير وأوسكار وايلد
وغيرهما. وفي ذاك الوقت توطدت علاقته مع يوسف شاهين وأحمد رمزي.
لكن افترق الثلاثي وقت الحرب العالمية الثانية، حيث اشتدت
الغارات الجوية على الإسكندرية، فقررت المدرسة نقل طلاب القسم الداخلي إلى
القاهرة. وبالفعل انتقل أحمد رمزي وعمر الشريف مع عدد من طلاب القسم
الداخلي إلى القاهرة، وظل يوسف شاهين في الإسكندرية. فقد قام مستر رييد
مدير المدرسة الإنجليزي الصارم باتخاذ قرار نقل طلاب القسم الداخلي للقاهرة
خوفا على حياتهم من الغارات الجوية والأجواء غير الآمنة في الإسكندرية، وقد
انتقلت فيكتوريا لتحل محل المدارس الإيطالية بشبرا، حيث كان كل ما هو
إيطالي تحت سيطرة الإنجليز.
وحافظ الشريف على تفوقه الدراسي في فرع فيكتوريا القاهرة،
وهناك كان شديد الصرامة مع الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد المفكر الكبير
فيما بعد، حتى إنه كتب عنه في مذكراته وعن مضايقاته له ورغبة الطلاب في
الخروج عن سيطرة عمر الشريف.
فقد انضم إدوارد سعيد لفيكتوريا القاهرة عام 1950، ويصفه
سعيد: «مع الوقت صار حضور شلهوب أليفا على نحو مزعج، وقد اشتهر ببراعته
الأسلوبية وبتفننه وابتكاره في اضطهاد الصبية الأصغر سنًا».
ومن القصص الإنسانية عن عمر الشريف في سنواته الدراسية أنه
كان شديد التواضع محبا للناس، ورغم أن المدرسة كانت لعلية القوم من
المقيمين في مصر من 55 جنسية، فإنه كان يلعب الكريكيت مع نجار المدرسة عبد
المنعم إبراهيم عبد المتعال، ذلك الرجل البسيط الذي ظل محتفظا بصوره مع عمر
الشريف ويوسف شاهين وأحمد رمزي وفاجأهم بصورهم أثناء زياراتهم للمدرسة.
زار عمر الشريف مدرسته أكثر من مرة وكان انطباع الجميع من
طلاب ومدرسين أنه كان في قمة التواضع، وكان يضحك على ذكريات الطفولة كلما
مر على فصله أو القسم الداخلي الذي كان يقيم فيه، وكانت زيارته لا بد أن
تتضمن جلسة طويلة في مسرح المدرسة، وكان يتفقد كل شبر فيه بداية من غرفة
الملابس وغرفة الماكياج وكواليسه.
كان عمر الشريف في زياراته للإسكندرية التي نشأ فيها، حريصا
على عادة التجول بمفرده، وكان شديد الود مع معجبيه يرحب بهم ويحييهم
كأصدقائه أو جيرانه، بعكس ما يشاع عنه.
ويذكر رجل الأعمال السكندري سمير فهمي العلايلي (83 سنة)
زميل غرفة للشريف أنه «كان قمة في الأدب والأخلاق ولاعبا ماهرا، ولأنه كان
طالبا بالقسم الداخلي فقد تم نقله مع باقي الطلاب إلى القاهرة أثناء الحرب
العالمية الثانية، وهناك تزامل مع إدوارد سعيد».
بينما يتذكر رجل الأعمال اليوناني السكندري ميشال ماركو (82
سنة) الفنان الراحل عمر الشريف قائلا: «كان من أشهر من عرفتهم أثناء وجودي
في فيكتوريا الإسكندرية ميشال شلهوب، وكان طالبا أنيقا جدا وأصله من عائلة
شامية كاثوليكية وليس صحيحا ما كان يشاع عنه بأنه يهودي على الإطلاق، ولما
أسلم وتزوج فاتن حمامة طردت الكنيسة الكاثوليكية والده ووالدته من الكنيسة،
وأتذكر تلك الواقعة جيدا. وكان من أكثر الطلبة احتراما وتفوقا، لم يكن
مشاغبا أو شقيا، بل كان من الأوائل».
أما الأستاذ أسامة جنيد، المدير السابق لفيكتوريا كوليدج،
فيقول: «الفنان الكبير عمر الشريف كان تلميذ والدي، وجاء أكثر من مرة
للكلية وسأل عنه، ورغم أنه جاء وكان في أوج شهرته فإنه كان في غاية التواضع
وكأنه طالب مرة أخرى».
ولا تزال دينا المانسترلي هي وأصدقاؤها وزملاؤها في
فيكتوريا كوليدج، يتبادلون الحكايات والذكريات عبر الهاتف أو عبر «فيسبوك»،
وهي تتذكر جيدا اليوم الذي وقف فيه عمر الشريف النجم الهوليوودي على باب
فصلها، قائلة: «كنت أنصت لمعلمة اللغة الفرنسية حيث كانت تشرح درسا جديدا
ورفضت أن يتم وقف الدرس من أجل الفسحة، وكان كل طلبة الفصل البنين والبنات
سيضحون بأي شيء للخروج لرؤية عمر الشريف نجمهم المحبوب وخريج مدرستهم،
لكنها كانت مصرة على استكمال الدرس. وإذا بعمر الشريف يقف أمام الفصل، فما
كان منها إلا أن ألقت بالطباشير في عرض الفصل وصاحت بغضب شديد وهي تهم
بالخروج من الفصل: (حرااام.. أنا بشر.. كيف لي أن أشرح الدرس وعمر الشريف
في الخارج؟ طز فيكم وطز في المدرسة). ثم خرجت واحتضنت عمر الشريف».
هنا تذكر دينا بحماس شديد: «تبعت فتيات الفصل كله المعلمة
وتم حصار عمر الشريف وسط صيحات وصرخات الفتيات، وكان يوما لا يمكن أن أنساه
ما حييت، وما زالت أتحاكى باليوم الذي رأيت فيه عمر الشريف على باب الفصل،
وما زلت لا أقوى على تصديق الأمر حتى الآن!».
ذكريات مميزة جدا لطلاب فيكتوريا كوليدج بالإسكندرية
والقاهرة التي درس بها عمر الشريف ويوسف شاهين وأحمد رمزي وتوفيق صالح
وشادي عبد السلام.. جمعهم فيها مسرح المدرسة وملاعبها وفصولها.. كما جمعهم
عشقهم للفن.. رحلوا جميعا إلى العالم الآخر لكنهم تركوا تاريخا وأعمالا
مشرفة نفخر بها وستظل محفورة كعلامات في تاريخ السينما المصرية. |