تكريم الرائعة نادية لطفى فى مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته
السادسة والثلاثين وهى الشخصية السينمائية المصرية الوحيدة التى
يتم تكريمها هذا العام وأن تكون صورتها هى المتصدرة لواجهة
المهرجان «البوستر».. ما هو إلا فهم حقيقى لمن هى نادية لطفى.
هى التى أثرت السينما بروائع وكلاسيكيات روايات الأدب المصرى
لعظماء مثل نجيب محفوظ الذى تحمل الجائزة «الهرم الذهبى الشرفى»
اسمه المحفور فى تاريخ مصر.
لدى يقين بأن المعانى الحقيقية للحياة تُضاف إلى رصيدنا الإنسانى
بحجم اكتشافاتنا للبشر فيها واكتشافنا لذواتنا من خلالهم أيضاً. لم
نكن نتوقع مثلاً أن حوارنا مع فنانة نحترمها ونقدرها ونعى جيداً
مكانتها ومنزلتها الإنسانية والفنية والوطنية مثل الرائعة
الاستثنائية نادية لطفى سيترك تأثيرا إيجابيا علينا لهذه الدرجة،
كنا نعرف جيداً أن الحوار معها سيشكل اختلافا نابعا من اختلافها
كإنسانة من طراز خاص، وكان الحظ حليفنا أن يمتد بنا الحوار لساعات
طويلة كنا- نحن الثلاثة - على استعداد لمواصلتها.
هل تعرف معنى أن يمتلك الإنسان روحاً ممتلئة وثرية ومعطاءة؟
هل ستدرك وصفنا لها عندما نقول إن وعيها ثرى لدرجة الإدهاش
ووجدانها متدفق لدرجة الدفء؟
قضينا ساعات رائعة معها فى الحوار.. أى حوار هذا؟!
إنه لم يكن حوارا، بل كانت جلسة «فتح قلوب»، إثارة عقل وفكر, كانت
انفتاحا على عوالم كثيرة، ومتناثرة ومتداخلة، كانت جلسة ودية لدرجة
الحميمية - أو هكذا شعرنا بها، جلسة أضافت لنا الكثير ليس عن نادية
لطفى فحسب, كونها فنانة خاصة أثرت السينما المصرية بأفلام ترقى إلى
مستوى العالمية جسدت فيها أروع الشخصيات بمنتهى الاقتدار، لكنها
أضافت إلينا معرفة أخرى لها على مستويات إنسانية وثقافية، وربما
فلسفية أحيانا.
من الصعب نقل الشعور.. ولكن تبقى حقيقة واحدة أن المعنى الجديد لها
قد أضيف بل حُفر فى الذاكرة والقلب.
لهذا كان من الصعب علينا جداً أن نرضى باقتراحها الذى يحمل وجاهة
ومنطقاً يحترمان، وهو أنه فى اليوم التالى للحوار أخبرتنا عن
شعورها بأن: «جلسة الأمس كانت رائعة ولكن لا تعد حوارا مهنيا له
ملامح واضحة، نحن تحدثنا كثيرا - على حد قولها - فى «رءوس
موضوعات»، وكانت تخشى أن تظهر الأفكار كأنها مفتتة، وتضحك قائلة:
«أصل أنا عقلى زى مافيولا المونتاج، شريط الفيلم بيمر عليها صوت
وصورة فى كل تفصيلة فى حياتى».
ما قالته نادية لطفى يجبرك أن تقرأ شخصيتها، الدقة والالتزام
عنوانها، والأهم هو تقديسها واحترامها للكلمة التى تقولها.
تناقشنا لبعض الوقت فى محاولة أن ننقل لها مشاعرنا وآراءنا بأننا
قد نحتاج أحيانا مع بعض البشر أن نكون ضد منهج «الاحتراف» أحيانا،
فعندما نكون فى حضرة شخصية استثنائية لها قيمتها وعندما يكون
كلامها عزيزا بقدر عزتها لنفسها، ومؤثرا على مدار تاريخها، يمكن أن
يتحول المنهج الصحفى المنظم من طرح الأسئلة والإعداد لها والبحث
الدقيق والتحديد الواضح لمحور وموضوع الحوار، إلى تلقائية الهواة
والتحرر من قالب الاحتراف إلى عشوائية «فتح القلوب ولمسها».
وهذا بالفعل ما حدث لنا.. فعندما خرجنا من بيتها الدافئ المشحون
بطاقة الحب وكرم الضيافة وخفة ظلها وسرعة بديهتها أدركنا كم أن هذه
السيدة الرائعة هى واحدة من «المُعينين» على الحياة.
فى جلستنا معها - غير الاعتيادية - تحدثت بتدفق عن معان فى الحياة
وعن قضايا اجتماعية، وعن ذكريات، والمدهش أن هذه الجلسة التى بدأت
بسؤال عفوى، قادته تلك الفنانة المدهشة بقوة ورقة وعفوية كأنها
تُكمل حلقات «البازل»، فمثلا تتحدث بفلسفتها عن الفارق مثلا بين
الرغبة والقدرة ومن ثم تقود الحديث نحو قيمة وفضيلة الاستغناء،
ومنه تستدعى ذكريات حلوة عن علاقتها بوالدها الذى علمها «كيف
تستغنى فأصبحت غنية بكل ما استغنت عنه فى حياتها، ومن الحديث عن
والدها تنطلق بحماس فى حديثها عن أسس التربية وكيف يصنع الآباء
والأمهات علاقتهم بأبنائهم.
هذا هو استرسالها الثرى الذى ننقله بنفس منهج عفويتها.
كان أحد خيوط حديثها عن الرغبة والقدرة ومن هذه المعانى غزلت نادية
لطفى منطقا وتدريبا إنسانيا، شديدى الوجاهة.. قالت: أنا بنى آدم
طبيعى، أشتهى، وأتمنى أحلم وأتجنن.. لكن ماذا لو جننت ورغبت جدا
بالسفر إلى مارينا.. حقى.. أليس كذلك؟
لكن قبل أن أسير فى طريق تحقيق الرغبة أسأل نفسى ثلاثة أسئلة لها
علاقة بالقدرة: هل لديك قدرة مالية؟ قدرة زمنية؟ قدرة صحية؟
لو كانت النتيجة بالإيجاب لسؤالين من ثلاثة.. أسأل: ماذا ستفعلين
لو فاجأتك الظروف بالقدرة الثالثة المفقودة؟
لهذا قمت بتدريب نفسى على التحكم فى رغباتى وفقا لقدراتى، دون أن
أشعر بالأسى أو الضيق.
لأننى ببساطة لو لم تكن لدى قدرة الذهاب إلى مارينا.. فلدى البديل
وهو أن أجلس مع أحد الأصدقاء أو حتى أن ألعب كوتشينة وهذا المنهج
أطبقه على كل ظروف حياتى بما فيها «الأمور المصيرية أو التى تبدو
مصيرية بالنسبة للبعض» بمعنى أننى تدربت جيداً على فكرة
الاستغناء.. لا.. إنها ليست فكرة إنها فضيلة، فالغنى من استغنى،
ولو فعلاً تعلمت أنه لا يوجد كائن قادر على لى ذراعك، حتى أغنى
أغنياء العالم لن يستطيعوا الاعتلاء عليك لأنك ببساطة «مستغنى».
هذه الفضيلة تعلمتها من والدى رحمه الله، فكان دائما له فلسفات
موجزة، وقد غرس فى كثيراً من القيم تسللت إلى حتى وإن كنت لا
أدركها وقتها. ولعل الآباء والأمهات يدركون هذا فى تربيتهم
لأولادهم، يتحدثون معهم دوما عن الفضائل والقيم الإيجابية، وسيأتى
الوقت ليكتشفوا أنهم قاموا بأفضل استثمار، فتلك القيم تصبح أصولا
ثابته فى شخصيات أبنائهم.
وكان هذا هو مبدأ والدى فى التربية: كنت أسمعه دائما يقول: «أنا
بنتى لا يمكن تكذب»، وأنا كنت كأى طفلة صغيرة أكذب أحيانا، ولكنه
ظل واثقا بى وعلى يقين أننى لا يمكن أن أكذب، وقد كبرت قيمة الصدق
معى وأصبح الكذب هو أكثر ما أكرهه فى الحياة، وأصبحت أنا أغبى
الأغبياء فى الكذب.. ببساطة هو زرع الفضيلة ونماها بداخلى حتى ماتت
الرذيلة «الكذب» منذ الصغر.
وماذا عن مهنة التمثيل؟ أليس من خصائصه الكذب؟
بحضورها الذكى وبشغفها التلقائى أجابت الفنانة نادية لطفى التمثيل
هو صدق الكذب!! وكذب الصدق!!
التمثيل ليس مهنة، التمثيل.. «عاطفة»، فيه إحساس غير ملموس صعب
وصفه، التمثيل فيه كل المتناقضات، السمو والأنانية، والتواضع
الشديد والرقة والغضب وممارسة التمثيل تشبه قيادة السيارة، بعد وقت
من الممارسة تمثل بوعى ولكن بتكنيك لاإرادى.. وهذا هو جمال الفن
يعطيك أدوات مشحوذة تنقلك من منطقة شعورية وذهنية ونفسية لأخرى،
فأنا كممثلة أكون داخل الحدث وخارجه، وهذه روعة السينما، فالممثل
يدرك أنه يمثل ويتوحد مع الشخصية، ولكن بوعيه وخبرته - كممثل -
يقول الكلمة ومدرك لصداها لدى الجمهور وهذا بالطبع يختلف من ممثل
لآخر وفق درجة وعيه كممثل و«كبنى آدم».
وتنقلنا الرائعة نادية لطفى بتسلل من أدوات الممثل إلى أدوات
الصحفى، فعلى حد قولها: أدوات الصحفى مثلا هى «الذكاء، القدرة على
الاستعباط» أحيانا، بمعنى القدرة على الالتواء للحصول على معلومة،
أدواته فيها خبث ودهاء بالإضافة إلى قدرة عظيمة على البحث وتجميع
المعلومات.
وتضحك نادية لطفى وهى تقص علينا قصة إحدى الصحفيات التى اتصلت بها
يوما، وسألتها عن إمكانية إجراء حوار معها، قائلة: سألتها.. حوار
عن إيه؟ فأجابت الصحفية: «ح نتكلم عن كل حاجة»
.
وقتها لم أتمالك نفسى من الحدة والغضب عليها، لأنها لم تكن حتى
تمتلك الحس الصحفى لاستدراجى أو فتح شهيتى للمقابلة، هل يوجد «بنى
آدم» يستطيع فى جلسة حوار أن يتحدث فيها عن كل «حاجة».. هذا
عبث!!.. وللأسف هذا النموذج من الصحفيين يتكرر على كثيرا.. فالصحفى
لابد أن يكون لديه علامة استفهام تثير وتحرض فضوله على مقابلة
«المصدر».
للأسف هذا لا يخص الصحفيين فحسب ولكن 90% من الناس «مش عارفين هم
عاوزين إيه بالضبط وبيعملوه ليه»!!
إنها محقة للغاية، فكثير من «البشر» يعيشون دنياهم دون أن يدركوا
ماذا يريدون منها، وماذا يريدون أن ينجزوا فيها، ولماذا؟.. أوقات
تكون «العيشة من فوق الوش» ومن المكالمة التى حكتها لنا.. تسحبنا
تلقائياً معها البديعة «نادية لطفى» حيث منطقة أخرى تستدعى فيها
ذكريات مر عليها أربعون عاما، وتحلل من خلالها أيضاً كيف «أُعدم»
المقال الفنى، عندما أصبح الفن مجرد محطة يثبت فيها الصحفى كفاءته
ليتحول إلى كاتب سياسى، ولهذا فقدنا قيمة «النقد الفنى والمقال
الفنى الجاد الثرى».
وفى هذا السياق تحكى واقعة خاصة جداً من دفتر ذكرياتها مع الكاتب
والقدير كامل الشناوى مسترسلة: منذ صغرى وربما لأننى تربيت فى بيت
جدتى، فكنت معتادة على مصادقة من هم أكبر منى سنا، لهذا جمعتنى
صداقة مع الأستاذ كامل الشناوى، وأتذكر أنه فى عام1963 كنت ذاهبة
لحضور مهرجان برلين، وقتها اقترح على «الشناوى» أن أجرى حوارا مع
الأستاذ جليل البندارى، ويخرجه الأستاذ محمد سالم، وبالفعل تم
إجراء الحوار، وربما لأن الأستاذ كامل الشناوى تتدخل بالإجابة عنى
فى بعض الأسئلة، وبعد أن قرأت الحوار لم أكن سعيدة، لأننى شعرت
وقتها، أننى كفنانة على أن أكون نفسى، بمعنى أن أتعلم كيف أجيب عن
الأسئلة بنفسى، أذاكر جيداً لكى أكون جديرة أن أتحدث مع قامات
كبيرة من الكتاب والصحفيين والأدباء مثل كامل الشناوى، يوسف إدريس،
إحسان عبدالقدوس، وكيف أكون مستعدة بأفكارى وآرائى ووجهة نظرى فيما
أسأل عنه، وأكون مسئولة عن كل ما أعبر عنه، لهذا أصبحت الكلمة
بالنسبة لى مسئولية وقيمة، ومن هنا كانت العلاقة بين الفنان وبين
الصحفى أو الناقد من قبل قائمة على «الاحترام المعرفى»، وعندما
تقلصت هذه العلاقة وأصيبت بالانهيار التدريجى حدث معها انهيار
المقال الفنى.
للأسف الشديد أجد بعض الصحفيين يكتبون كأنهم يعملون موظفين لدى
الفنان، وأجد بعض الفنانين الذين لا يحملون أية وجهات نظر فى الفن
أو الحياة يرضون بأن يكون الصحفى لسان حالهم وهم جهلاء بما يدور
حولهم.
ألم نقل لكم.. كم أن هذه السيدة الاستثنائية لديها قدرة فائقة على
قيادة دفة الحوار بانسيابية ودون تخطيط، ومن هنا كان لحوار «فتح
القلوب» خصوصيته.
من حديثها عن المقال الفنى وتحليلها لعلاقة الاحترام المعرفى بين
الفنان والكاتب، تسبح نادية لطفى نحو شاطئ آخر من ذكرياتها، الذى
رسا بها عند «مجلة صباح الخير».
عن صباح الخير وعلاقتها بعظمائها وموضوعات أخرى فى الفن والأدب
والحياة تحدثت نادية لطفى.. فى العدد القادم!!
• |