مهرجان كان :
"يومان وليلة" للاخوين داردن درس في التضامن
الإنساني
صفاء الصالح/ بي بي سي ـ كان
درس في التضامن الإنساني وفي جماليات البساطة والإيجاز المقدمة ضمن
نهج واقعي مميز، هو ما قدمه المخرجان البلجيكيان الأخوان داردن (لوك
وجان بيير) في فيلمهما الجديد "يومان وليلة" ضمن المسابقة الكبرى
لمهرجان كان السينمائي الدولي في دورته الـ67
.
حظي الفيلم باحتفاء نقدي كبير، جعله في مقدمة الأفلام المرشحة
للفوز بسعفة المهرجان الذهبية، وإذا ما فاز الفيلم سيحقق المخرجان
البلجيكيان سابقة في تاريخ المهرجان في الفوز بسعفته الذهبية لثلاث
مرات.
وسبق أن حصل الأخوان على هذه الجائزة مرتين، الأولى عام 1999 عن
فيلمهما "روزيتا" والثانية عام 2005 عن فيلمهما "الطفل".
وفي "يومان وليلة" يواصل الأخوان داردن نهجهما في تفكيك آليات
الاستلاب في المجتمع الرأسمالي المعاصر، وتصوير أزمة الانسان
البسيط المسحوق وسط ثقافة السوق والاستهلاك الطاغية.
ويُطرح في الفيلم فكرة التضامن الإنساني مقابل ثقافة التنافس
الضارية وعلاقات الإنتاج في السوق التي تفرض قوانينها اللاإنسانية
والمتناقضة مع الفطرة والنزوع البدهي نحو الخير والتضامن الانساني.
ويقدم المخرجان نشيدا احتفائيا بقيمة التضامن، وتبدو خلاصة فيلمهما
على قدر كبير من التفاؤل والايجابية، عندما تنتصر بطلته لقيمة
التضامن حتى لو انتهى الأمر بها إلى خسارة قضيتها الشخصية.
حكايات متداخلة
وكعادتهما، يختار المخرجان شخصية في أزمة انسانية، وهي هنا ساندرا
(الممثلة ماريون كوتيار) المهددة بفقدان عملها، والمنهارة نفسيا من
جراء هذه الأزمة، والخوف من المستقبل على عائلتها البسيطة المكونة
من زوجها العامل في أحد المطاعم وطفليها.
لقد عمدت إدارة المعمل الذي تعمل فيه إلى وضع خيار ابعادها عن
العمل كمقابل لمنح زملائها في العمل مكافأة 1000 يورو لكل واحد
منهم، وطلبت منهم التصويت على ذلك، فإذا صوتوا لعودتها يخسرون هذه
المكافأة.
وتهدف إدارة المعمل، في حقيقة الأمر، إلى تقليل عدد العاملين
وتوزيع عبء عمل من يخرج منهم على الآخرين، وهذه المكافأة كانت
الطعم الذي عليهم ابتلاعه.
وتنجح إحدى زميلاتها في إقناعها بطلب إعادة التصويت لأن الإدارة
ضغطت على العاملين. وأمام هذا الخيار، بات على ساندرا أن تقضي عطلة
نهاية الأسبوع في طواف على منازل زملائها في العمل لحثهم على
التصويت لصالحها.
وتشكل أزمة البطلة وهذه الرحلة حكاية إطارية في سيناريو محكم تتكشف
فيه حكايات وحبكات ثانوية تصور واقع الطبقة العاملة في بلجيكا.
وتبدأ ساندرا مهمة صعبة في أقناع 9 أشخاص، على الأقل، من بين 16 من
زملائها في التصويت لصالحها، لكل واحد منهم حكايته وظروفه وحاجته
الماسة لمال المكافأة.
وتتباين الاستجابات بين مَن يتهرب من مقابلتها ومَن يتضامن معها
ويوافق على التخلي عن مكافأته لمصلحة التصويت لعودتها، وبين مَن
يصارحها بحاجته إلى المال ومن ثم التصويت ضدها.
الحبكة الدرامية
ويبني المخرجان حبكتهما الدرامية بشكل مشوق حيث يترافق كسب
المصوتين مع رفض الآخرين وما يسببه ذلك للبطلة من إحباط يدفعها في
أكثر من مرة إلى اليأس والاستسلام لقدرها ومحاولة الانتحار بدلا من
تلك التجربة الصعبة في مواجهة الآخرين وما تراه استجداء عطفهم
أحيانا.
وفي طواف البطلة تتوالى حكايات الشخصيات، فلكل شخصية حكاية لكن
الأبرز فيها والأكثر تأثيرا في تطور الحبكة الرئيسية هي حكاية زوجة
مترددة بين تضامنها مع ساندرا وموقف زوجها الذي يطالبها بأخذ
المكافأة.
وتفجر زيارة ساندرا لهما خلافا بين الزوجين، ينتهي بالانفصال بعد
اختيار الزوجة التصويت لصالح ساندرا، التي يصبح التضامن معها سببا
للتحرر من علاقة زوجية فاشلة كانت فها الزوجة طرفا مضطهدا.
كما يشجع انضمام الزوجة إلى صف ساندرا الأخيرة على مواصلة كفاحها
بعد أن يئست وحاولت الانتحار.
وهناك حكاية الأب الذي تفجر زيارتها خلافا بينه وبين ابنه، الذي
يطالب والده بالمال وينتهي به الأمر إلى ضربه، والعامل من أصول
عربية ويتعرض لضغط رب العمل للتصويت ضدها، ثم المهاجر الأفريقي
الذي يعمل عاملا مؤقتا ويهدد تصويته لصالحها بطرده من العمل وفقدان
إقامته.
وسط كل تلك الدوافع والحكايات المأزومة ينسج الأخوان داردن سردهما
الدرامي الذي يصل ذروته مع لحظة التصويت في المصنع التي تنتهي
بتعادل كفة من صوتوا ضد ساندرا ومعها 8 مقابل 8.
وإذ تخرج ساندرا مكتفية بما حصلت عليه من تضامن زملائها وتضحيتهم
من أجلها، رغم خسارتها عملها، تتدخل الإدارة بمكيدة أخرى بعد
اكتشاف قدرتها على التأثير في العمال الآخرين، وكذلك لمعاقبة بعض
من تضامنوا معها، فتقدم لها عرضا بإعادتها إلى العمل يتضمن التخلي
عن العامل الأفريقي المؤقت الذي صوت لها وعدم تجديد عقده، لكن
ساندرا ترفض العرض متمسكة بتجربة التضامن الإنساني التي كانت أعظم
ما خرجت به من محنتها.
واقعية وإيجاز
وفي سياق التقليد الواقعي في السينما، يتميز الأخوان داردن
بحساسيتهما العالية في اكتشاف جماليات اليومي والمألوف وتقديمه ضمن
أسلوب مقتصد في التفاصيل قائما على البساطة والتركيز على التعبير
الإنساني، وخاليا من أي زخارف أو إضافات جمالية قصدية.
ونراهما يركزان على العناصر الواقعية في المشهد السينمائي من مواقع
وإنارة طبيعية فضلا عن الاعتماد على الأصوات الطبيعية، والاقتصاد
جدا في استخدام الموسيقى التصويرية.
ويفضل الأخوان داردن استخدام الكاميرا المحمولة في تصوير مشاهدهما
الواقعية التي يرسمان حركتها ببراعة، وتتحرك كاميرتهما برشاقة في
متابعتها لحركة الشخصية الرئيسة.
وقد بات المصور ألان ماركوين المفضل لديهما لعرض هذا النزوع في
معظم أفلامهما.
ويجد الأخوان بعض جذورهما في تقاليد الواقعية الإيطالية الجديدة
وما قدمته في هذا السياق منذ أربعينيات القرن الماضي حتى أن بعض
النقاد وصف فيلمهما "الصبي ودراجته" بأنه النسخة المعاصرة من فيلم
"سارق الدراجات" للمخرج الايطالي فيتوريو دي سيكا.
واذا كان الاخوان أميل إلى التعامل مع ممثلين غير محترفين في كثير
من أفلامهما السابقة، وينجحان في إدراتهم والحصول على أداء عال
منهم، إلا أنهما في فيلم "يومان وليلة" تعاملا لأول مرة مع الممثلة
الشهيرة كوتيار (الحاصلة على الأوسكار عن أدائها لدور المغنية أديث
بياف في فيلم الحياة الوردية).
وكان خيارا رائعا قدمت فيه كوتيار واحدا من أجمل تجاربها الأدائية
في هذا الانتقال المتواصل بين مشاعر الأمل والإحباط، في دور المرأة
العاملة المأزومة وفي تلك المواجهات الإنسانية الصعبة في لحظات
متوترة أثناء طوافها على منازل زملائها ومواجهة دوافعهم المختلفة.
ويجعلها هذا الأداء الرائع في مقدمة المتنافسين للفوز بجائزة أفضل
ممثلة في دورة مهرجان كان السينمائي هذا العام.
مهرجان كان:
مخرج فيلم الفنان يقدم ميلودراما عن الحرب المنسية
في الشيشان
صفاء الصالح/ بي بي سي ـ كان
بعد تجربته الناجحة في فيلم "الفنان" التي حصد عليها جوائز عديدة
(من بينها 5 جوائز أوسكار و 6 جوائز سيزار)، يعيد المخرج الفرنسي
ميشيل هازانافيسيوس تجربة الاعتماد على أفلام سابقة لبناء أجوائه
السينمائية في فيلمه الجديد "البحث" المشارك ضمن المسابقة الكبرى
لمهرجان كان السينمائي هذا العام.
وإذا كان فيلم الفنان اعتمد بالأساس على أجواء الأفلام الصامته
التي أعاد استلهامها بنجاج كبير، فإنه في "بحث" يعود إلى فيلم شهير
للمخرج فريد زينمان بالعنوان نفسه يؤدي فيه مونتغمري كليفت دور
عسكري أمريكي يعثر على طفل يهودي تشيكي فقد والداه في معسكرات
الاعتقال وينجح بعد بحث مضن في جمعه مع أمه.
وقد حصل هذا الفيلم المنتج عام 1948 على جائزة أوسكار أفضل سيناريو
أصلي للكاتبين ريتشارد شفيزر وديفيد ويتشسلر، فضلا عن جائزة أوسكار
خاصة للطفل ايفان جاندل الذي أدى دور الطفل التشيكي في الفيلم.
وينقل هازانافيسيوس حكاية فيلم زينمان إلى أجواء الحرب الروسية في
الشيشان عام 1999، التي يراها حربا منسية شهدت جرائم حرب ضد
الانسانية لم يولها المجتمع الدولي الاهتمام، حيث كانت الدول
الغربية منشغلة بمديح الرئيس الروسي يلتسين بوصفه صديق الغرب وتشيد
بدوره في القضاء على الانقلابيين الذين يحاولون العودة إلى شكل
الحكم السوفيياتي ومناخ الحرب الباردة.
إعادة بناء الوثيقة
يبدأ هازانافيسيوس فيلمه ببداية موفقة مع حركة سريعة لكاميرا
محمولة وشريط صوت لشخص يعلق على ما يصوره، ليقدم وثيقة عن مجزرة
تجري في أجواء الحرب في قرية شيشانية حيث يقوم جنود روس بقتل عائلة
شيشانية (اب وام) بدم بارد، أمام ابنتهما (رايسا)، ويتمكن ابنهما
الصغير (حاجي) البالغ من العمر 9 سنوات من الاختباء ثم انقاذ اخيه
الرضيع والهرب به بعد ذهاب الجنود الروس.
وبدا اختيار المخرج للشيشانية زهرة دويشفيلي موفقا جدا بملامحها
العادية غير الجميلة ووجهها الحزين والمعبر، كما هي الحال مع
اختيار الطفل الشيشاني عبد الحليم مارماتسوييف لأداء دورحاجي، مع
حضوره المحبوب بوجه الممتلئ ووجنتيه المدورتين ونظرة الدهشة
والتساؤل الدائمة في عينية، فضلا عن موهبته الفطرية في التمثيل.
على أنه لا يشبه الطفل في فيلم زينمان الذي أشرنا اليه.
ونتابع رحلة الطفل حاجي وسط النازحين من القرى الشيشانية المدمرة،
حيث يقوم بترك اخاه الرضيع أمام بيت عائلة شيشانية ويواصل رحلة
الخروج حيث تقوم عائلة نازحة بالتقاطة من الطريق وحمله معها إلى
معسكرات اللجوء، حيث يظل صامتا غير قادر على النطق بعد صدمته
المروعة بمقتل عائلته.
وهنا يتوزع السرد في الفيلم على ثلاثة محاور، قصة الطفل حاجي
وبقائه مشردا حتى لقائه بممثلة حقوق الإنسان، والثاني اخته رايسا
وبحثها عنه وعن اخيها الرضيع، والثالث أجواء الحرب وصناعة مكائن
القتل، ممثلة بالجنود الروس عبر قصة كوليا الشاب الروسي الذي يساق
الى الحرب، ويجمع المخرج هذه المحاور الثلاثة المتوازية في نهاية
فيلمه.
في محور حاجي نتابع ايصال العائلة الطفل إلى ملجأ لليتامى من
النازحين تديرة سيدة أمريكية في الصليب الأحمرتدعى هيلين (الممثلة
أنيت بينينغ)، تحاول استجوابه وايوائه في الملجأ لكنه يهرب منها
عندما يرى الجنود الروس ويظل مشردا في المدينة حتى تلتقي به كارول
(الممثلة بيرينيس بيجو) ممثلة لجنة حقوق الإنسان التابعة للاتحاد
الأوروبي، التي تقوم باطعامه ومن ثم أخذه معها الى شقتها.
ويفشل هازانافيسيوس في إدارة هذا المحور الذي يمثل خط السرد
الرئيسي لديه، وتقديم مشاهد مقنعة ومؤثرة للعلاقة بين الطفل
وكارول. فكارول تمطر الطفل بسيل من عباراتها الفرنسية وكأنه
يفهمها، ويفتعل مشهد اهدائه لقلادة عنق لها تعبيرا عن امتنانه لها،
يتكشف لاحقا انه سرقها من نازحة اخرى.
وتظل قضية تعلم اللغة وايجاد لغة مشتركة للتفاهم بينهما، وكذلك
ايجاد المبررات لإنطاق الطفل كي يسرد مشاعره وحكايته بعد الصدمة
المريرة التي مر بها، هي الحاجز الذي لم يستطع هازانافيسيوس تجاوزه
وايجاد حلول مؤثرة له.
وتحضرني هنا مقارنة مع معالجة رائعة قدمها المخرج الإيراني بهرام
بيضائي في فيلمه "بشو"، لقضية مشابهة عندما تنشأ علاقة بين قروية
في شمال ايران وطفل عربستاني قتل والداه في القصف أثناء الحرب
العراقية الإيرانية وهرب في شاحنة إلى شمال ايران.
وكان من أنجح مشاهد فيلمه الخطاب الذي ينفجر به الطفل بالعربية بعد
صمت طويل مع مشهد النار الذي بدا كمؤثر عاطفي أعاده إلى مشهد
احتراق امه في القصف.
أما لحظة النطق في فيلم "بحث"، فبدت مفتعلة وغير مقنعة، حيث يأتي
الطفل حاجي إلى كارول في مقر عملها، ليدلي لها بشهادته كأحد
النازحين، ونحن نعرف أنه يعيش معها في شقتها.
وإذا كان فيلم زينمان، هو (خميرة) قصة الصبي، فأن هازانافيسيوس
يلجأ هذه المرة إلى أجواء فيلم المخرج القدير ستانلي كوبريك "فل
ميتل جاكيت" (سترة معدنية واقية) ليستلهمها في متابعة خط الشاب
الروسي كوليا (يؤدي دوره الممثل مكسيم أميليانوف) المولع بالموسيقى
والذي تقبض عليه الشرطة اثناء تدخينه لسيجارة مخدرة، وتخيره بين
السجن أو الخدمة بالجيش، فيختار الثانية ليواجه جحيما من الاهانات
والعنف وآليات تحويله إلى وحش بشري وألة للقتل في معسكر التدريب.
ثم يبدأ عمله مع نقل جثث القتلى من الجنود، وينتهي مقاتلا في
الجبهة في الشيشان، ونعرف من خلاله اجواء الحرب هناك، كما نعرف
لاحقا انه هو من كان يصور الفيديو الذي وثق جريمة قتل العائلة
الشيشانية، بكاميرة فيديو سرقها من جثة احد الجنود الروس القتلى في
المعركة.
وبدا الفيلم في هذا المحور أقرب إلى افلام البروبجاندا الحربية، في
نظرته الأحادية وتصويره للجنود الروس وكأنهم مجرد آلات قتل وحشية
بلا رحمة، بل ويسرقون حتى جثث رفاقهم القتلى.
ويلم هازانافيسيوس محاور سرده في النهاية، عندما تصل رايسا باحثة
عن اخيها المفقود، لتعمل في ملجأ الصليب الأحمر مع الاطفال
اليتامى، الذي تزوره كارول بين الحين والاخر، لكنها لا تعرف أن
أخاها يعيش معها.
وفي مشهد ميلودرامي يعتمد على المصادفات للحصول على التشويق تأتي
كارول إلى الملجأ لكي تأخذ أوراق لتبنيها لحاجي ،في الوقت الذي
تكون فيه رايسا يأست من العثور عليه وقررت العودة إلى قريتها،
وعندما ترى هيلين مسؤولة الصليب الأحمر حاجي تسارع باخذه وكارين
إلى محطة القطار للحاق برايسا، لكنهم يكتشفوا ان القطار قد غادر
للتو، وهنا تحدث مصادفة أخرى في أن يروا رايسا على رصيف المحطة
الآخر بعد قيام الأطفال الذين يحبونها بتعطيل سفرها وهكذا تجتمع
أخيرا مع اخيها حاجي وسط مناخ ميلودرامي جارف.
فخ الميلودراما
فخ الميلودراما إذن هو ما افشل سعي المخرج هازانافيسيوس لصنع فيلم
ملحمي عن حرب منسية في العالم، وعن عمليات إنقاذ الأطفال بوصفهم
الضحايا الأساسيين للحروب في مثل هذه المناطق المنكوبة.
وإذا كان هازانافيسيوس بدأ فيلمه بداية سينمائية قوية، عبر ذلك
الايقاع السريع والمتوتر للكاميرا المحمولة في إعادة بناء مشهد
بصبغة وثائقية، فضلا عما شكلته هذه البداية من مدخل مميز لسرد
حكايته، إلا أنه أفلت سيطرته على محاور السرد لدية وانشغل بتفاصيل
هامشية أو سقط في مشاهد ميلودرامية مفتعلة إحيانا.
وسيطر نهج، يستند كليا على الإثارة العاطفية، على تعامل المخرج مع
موضوعه، كما بدت شخصياته نمطية احادية الجانب، على الرغم من المناخ
الملحمي الذي يحيط بها.
وانسحبت هذه النمطية على أداء الشخصيات، كما هو الحال مع الممثلة
بيرينيس بيجو (زوجة المخرج) التي سحرتنا بخفتها وعذوبة أدائها في
فيلم الفنان الذي حصدت عليه سيزار أفضل ممثلة، لكنها هنا بدت
مرتبكة وعاجزة عن اكتشاف عمق الشخصية، وظلت عند حدود الاستجابات
الميلودرامية أو الخطابات المباشرة عن المساعدات الإنسانية وجهود
الإغاثة وانتهاكات حقوق الانسان، وكذلك الحال مع الممثلة أنيت
بيننغ في دور هيلين مسؤولة الصليب الاحمر.
والاستثناء في جودة التمثيل جاء من الاشخاص غير المحترفين الذين تم
اختيارهم لأداء أدوار الفيلم بعد اختبارات لاناس عاديين، كما هو
الحال مع زهرة دويشفيلي في دور رايسا والطفل عبد الحليم
مارماتسوييف.
وبصريا، نجح مدير التصوير غيوم شيفمان في تقديم مشاهد غنية في
بنائها الملحمي وفي تصويرها لأجواء الحرب أو طوابير النازحين فيها،
مستثمرا جماليات المشهد الطبيعي في مواقع تصوير الفيلم في جورجيا
قرب جبال القوقاز.
"البحث"،
فيلم ضاع في فخ النمطية والميلودراما وكثرة الاستعارات مع نماذج
سينمائية راسخة شكلت أساس عمل المخرج، لكنها ظلت حاضرة بقوة
للمقارنة لأن المخرج لم يستطع هضمها وتمثلها في شكل فني جديد، وذاك
التمثل في استعارة أجواء السينما الصامتة كان الوصفة السحرية
لنجاحه في فيلم الفنان، بيد أنها بدت غير صالحة لفيلم ملحمي عن
الحرب وضحاياها ونازحيها. |