التناقض بين الطبقات، الصراع الاجتماعي، مسؤولية الفرد الأخلاقية
عن أفعاله، هل من الممكن ردع المخطيء باتاحة فرصة له للتراجع عما
يفعله والإحساس بالإثم والخجل من نفسه، أو فقط بإنزال العقاب به
كما ينبغي وكما يقر القانون؟ ما هي حدود الحب ومتى يتحول إلى رغبة
في التملك ترتبط أيضا بالإحساس بنوع ما من "الألوهية"، بالتمكن من
الأشياء، كيف يمكن أن نعدل نظرتنا للحياة لنجعلها أقل غلوا في
الطموح، وأكثر قربا من الواقع؟
كل هذه التساؤلات، تنساب خلال الفيلم التركي البديع "نوم الشتاء"
للمخرج نوري بيلج جيلان المشارك في مسابقة مهرجان كان السابعة
والستين المقامة حاليا. والفيلم هو الثامن في مسيرة عمل جيلان،
الذي سبق سبق أن صنع سمعةجيدة بأفلامه السابقة، وحصل على جائزة
لجنة التحكيم الكبرى عن فيلمه السابق "حدث ذات مرة في الأناضول" في
دورة 2011.
شخصيا كنت أرى نوعا من الافتعال والتصنع في الأفلام الثلاثة
السابقة لجيلان أفلاما عظيمة من جهة اللغة السينمائية أو الأسلوب،
وخصوصا أن أجواء ها كانت تدور في أجواء تعتبر تقليديا، "واقعية"
تماما. فيلمه السابق مثلا كان تحقيقا في جريمة قتل، ولاشك أنه كان
يكشف فيه عن الكثير من الجوانب التي ترتبط بفلسفة المخرج ورؤيته
للحياة وللعلاقات بين البشر، لكن ما جعل الفيلم يفتقد للإقناع في
رأيي، أنه يضع الكثير من التفلسف على ألسنة مجموعة من الرجال (محقق
وضاباط شرطة وطبيب شرعي..الخ يبحثون عن جثة قتيل في منطقة معزولة)
بحيث تبدو أكبر من شخصياتهم بل ولا تتسق مع طبيعة عملهم المحدد
الذي جاءوا من أجله. وكان الفيلم يخرج من موضوعه الرئيسي ليدخلنا
في متاهات أخرى كما نرى مثلا في رواية المحقق للطبيب عندما يروي له
كيف تنبأت امرأة بموت زوجها مباشرة بعد ان أنجبت طفلا، وهو ما حدث
فعلا فقد مات الزوج بنوبة قلبية. وتمتد المناقشة بين الرجلين طويلا
طويلا حول هذه الحادثة، فالطبيب يريد ان يتأكد من اجراء تشريح
للجثة لكن المحقق يقول له إن الموت كان طبيعيا وبالتالي لم يستدع
إجراء تشريح، ويعود الطبيب ليفترض أن الرجل أحدث الأزمة القلبية
لنفسه بنفسه عن طريق تعاطي عقاقير معينة، أي أن موته كان انتحارا.
وهكذا.. صراع ذهني بين عقليتين مختلفتين في منطقهما ورؤيتهما
للأشياء. وهذا الصراع يمتد إلى فيلم جيلان الجديد "موت الشتاء"
ولكن بشكل أكثر تكثيفا وتحددا، بحيث أنه لا يخرج أبدا عن محور
الفيلم وشخصيته الرئيسية، وهذه هي الميزة التي تجعلنا نقول إن "نوم
الشتاء" أفضل من الأفلام الثلاثة السابقة للمخرج نفسه حتى لو كانت
قد حصلت على عدد كبير من الحوائز هنا وهناك.
دراما عائلية
"نوم الشتاء" نوع من الدراما العائلية- التشيكوفية بنفس وجودي
معاصر، نحن في قرية جبلية معزولة تماما من منطقة أناضوليا الشهيرة،
مميزة بتضاريسها البديعة.. بيوتها مدفونة في الصخر، صارمة في
مظهرها لكنها دافئة ومسترخية في جوفها، في الداخل. بطلنا هو
"أيودين"، رجل في بداية الخمسينات من عمره، ثري يمتلك مجموعة من
المنازل في تلك المنطقة، وفندقا سياحيا يطلق عليه "فندق عطيل"،
لكنه أيضا ممثل كف عن التمثيل وكاتب يكتب عمودا صحفيا أسبوعيا
لجريدة محلية. وأيودين يعيش مع زوجته "نهال" وشقيقته "نسلا" في
الفندق نفسه، الذي يستقبل نزلاء من الأجانب الباحثين عن المتعة
والمعرفة في أناضوليا، يقوم على خدمته مساعده المخلص هدايت.
الحياة تبدو مستقرة، هادئة من الخارج. لكن حجرا يلقيه صبي فيكسر
زجاج نافذة سيارة أيودين، يقلب الدنيا فلا تعود حياته كما كانت من
قبل. الصبي الذي يلقي بالحجر ينتمي لأسرة فقيرة تستأجر بيتا من
البيوت المملوكة لأيودين لكنها عجزت منذ فترة عن دفع الإيجار بسبب
قلة الدخل الذي يعتمد على شخص واحد فقط هو شيخ المسجد الشاب (عم
الصبي). ونعرف أن والد الصبي، إسماعيل خرج لتوه من السجن بعد أن
قاوم السلطات التي جاءت لطرده من المنزل واستولوا على مقتنياته
البسيطة ومنها جهاز التليفزيون.
هناك اذن دافع لدى الصبي، لكن أيودين لا يرغب في إنزال العقاب به،
فهو فقط يطالب والده بنهره عن تكرار الفعلة تجنبا لما يمكن أن ينتج
عنها (كادت السيارة تنقلب وتقتل أيودين ومساعده). لكن الأمر يتطور،
فيصر العم على اصطحاب الصبي لتقديم اعتذار واضح ومباشر الى أيودين،
بل وتقبيل يده، لكن أيودين (الليبرالي المنفتح) يرفض فكرة تقبيل
يده قائلا ان والده كان يرفض أن يقبل أحد يده. ومع اصرار الشيخ يمد
أيودين يده لكن الصبي يغمى عليه بعد ان يكون قد أصيب بحمى جراء قطع
طريق طويل مع عمه، من حيث يقطنون الى الفندق، في مناخ تتساقط فيه
الثلوج.
أيودين لا يعتبر نفسه مسؤولا عن حالة التدهور المعيشي التي وصلت
إليها أسرة اسماعيل (يقيم مع ابنه وشقيقه وزوجته وأمه العجوز)، فهو
لم يكن يعلم بمصادرة مقتنيات الأسرة، ولا بالاعتداء المهين على
اسماعيل من جانب رجال استعادة الديون والشرطة، وهو يتحجج بأنه يسند
مثل هذه القضايا الى محاميه ومساعديه، وهم يفعلون ما يرونه صحيحا
في إطار القانون، ولم يتكلم مرات ومرات مع الأسرة المتأخرة عن دفع
الايجار قبل أن يترك الأمر للمحامين لاتخاذ الاجراءات الضرورية من
وجهة نظره. لقد أصبحت الأسرة مهددة بالطرد، وأمامها مهلة محدودة
للجلاء عن المنزل، لكن هذا أمر لا يشغل بال أيودين، فليست هذه
مشكلته.
من هذه المشكلة أو الحادثة (حادثة القاء الحجر) تتعقد علاقة أيودين
بشقيقته التي تنتقد ما يكتبه من مقالات بل وترفض وجهة نظره، وتدافع
عن فكرة ضرورة اتاحة الفرصة للمخطيء أو حتى المجرم، لكي يعود عن
ارتكاب الخطأ. ويصل الحوار بينهما الى نقطة فاصلة عندما يصرخ هو في
وجهها قائلا إنه طبقا لهذا المنطق نفسه كان يجب أن ينتظر اليهود أن
يعود هتلر عن خطته الرامية الى التخلص منهم!!
تنكشف شخصية أيودين تدريجيا من خلال علاقته بزوجته الشابة الجميلة
(في عشرينيات من عمرها) التي تشعر بالملل من حياتها الرخوة
المستكينة، شأنها شأن الشقيقة التي تجد في النوم (نوم الشتاء)
وسيلة للهرب من تلك الحياة الرتيبة التي تنقطع فيها الصلة بالدنيا
وبالعالم. الزوجة الشابة نهال بدأت منذ فترة العمل الخيري لجمع
تبرعات لبناء مدرسة للأطفال في قرية قريبة، وأصبحت أيضا تعقد
اجتماعات للجمعية التي تنتمي اليها في الفندق أو الجناج المخصص
لاقامة الأسرة في ذلك المركب السياحي الصغير، الأمر الذي يثير غيرة
أيودين ورفضه وتوبيخه واعتراضه على سلوكها فتواجهه بأنانيته وغروره
ورغبته في التحكم في مصائر الآخرين ونكرانه عليها استقلاليتها، بل
وتهدده أيضا بطلب الطلاق.
"هكذا خلق الله الدنيا"
أيودين لا يبدو شخصا شريرا بل يبدو منطقه معقولا في الكثير مما
يردده ويفعله، بل ويبدو أيضا كريما وشهما متسامحا (مع الطفل خصوصا)
فالفيلم لا يلجأ إلى التنميط ولا إلى الادانة بل يترك الشخصية على
طبيعتها أمام المتفرج، بما لها وما عليها.. نعم هو ثري وإبن
لطبقته، وهو دائما ما يبرر ذلك بأنه "هكذا خلق الله الدنيا، ولو
كان يريد لجعل الناس جميعا متساوين.. تماما مثل الطبيعة نفسها"-
كما يقول. لكنه من ناحية أخرى، يشعر بمسؤوليته عن تلك الزوجة
الشابة التي يعاملها طول الوقت كما لو كان يعامل طفلة، كما لو كانت
إبنته، فهو يدري مصلحتها أكثر منها. هذا النوع من "الأبوية" ربما
يكون جزءا من تكوين أيودين وإحساسه بالقوة نتيجة وضعه الاجتماعي،
وربما تكون شقيقته "نيسلا" أيضا مخطئة في تصوراتها عن علاقة الفكر
بالواقع، لكن الفيلم لا يدين ولا يتخذ موقفا محددا، بقدر ما يطرح
التساؤلات عن طبيعة المسؤولية الأخلاقية وحدودها، وكيف نحكم على
الأشياء، وهل الآخرون جميعا هم "الجحيم" كما كان يقول سارتر، أم أن
الجحيم نحن نصنعه ونصبح بالتالي مسؤولين ولو جزئيا عنه.
الممثل العملاق أيوك بيلجنر Haluk
Bilginer،
الذي يقوم بدور أيودين، يؤدي الشخصية بنوع من الاستعراض.. استعراض
القوة في الأداء واستخدام العبارات الفخيمة التي تكثف شخصية ممثل
مسرحي سابق (يرغب في التفرغ الآن لتأليف كتاب عن "تاريخ المسرح
التركي").. إنه يقتبس من شكسبير حينا، ويتلاعب بالألفاظ حينا آخر،
ويكشف في النهاية عن إحساس بالإرهاق من المقارعة والنزال، حينما
يغلب الحب على الصراع. وهو يتحرك في المكان بسيطرة كاملة أمام
الكاميرا في مشاهد طويلة ممتدة (يبلغ زمن الفيلم ثلاث ساعات و16
دقيقة).
ويعتمد الفيلم على الأداء التمثيلي من مجموعة الممثلين جميعا (ميليزا
زوسن في دور نهال الزوجة، وهي نجمة تليفزيونية كبيرة في تركيا،
والممثلة المخضرمة ديميت أكباج في دور الشقيقة، وايبرك بكشان في
دور هدايت) كما يعتمد أسلوب الاخراج على اللقطات الطويلة،
والانتقال المميز بين الداخل والخارج مع تكثيف بارع لسطوة المكان:
الثلوج التي تغطي الجبال، الطرق الوعرة، السماء الملبدة، البيوت
التي نحتت في الصخر والتي تخفي وراءها ما لا نعلمه.. الضوء الداخلي
الطبيعي في مصادره الذي يضفي غموضا خاصا على تضاريس المكان مع
اظهار جمال التنسيق والديكورات وتوزيع الاكسسوارات.
ربما يعاني الفيلم من طول الحوارات في بعض المشاهد، لكن جزءا كبيرا
من متعة الاحساس بهذا الفيلم يكمن في ذلك الحوار الذهني الذي يظهر
ايضا الجوانب الانسانية في الشخصيات.
"نوم الشتاء" دراما رصينة ونموذج لسينما العقل في أفضل حالاتها،
وهو يضع المتفرج أمام الكثير من الأفكار والتساؤلات، بدلا من أن
يجيب عنها، بل يترك للمتفرج محاولة التوصل بنفسه الى الاجابات..
إذا كان سيمكنه ذلك بالطبع! |