بكى المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو، في المؤتمر الصحافي الذي
عقد بعد عرض فيلمه الأخير «تمبوكتو». حاول أن يشرب من زجاجة الماء
التي على الطاولة أمامه، لكنه تراجع عنها ووضع راحتي يديه على
عينيه وبكى.
كان يشرح الوضع في الجوار. فيلمه ذاك يقع في جمهورية مالي غير
البعيدة، ومثلها مثل دول أخرى في أفريقيا، وخارج أفريقيا، تشهد
انتشار المد الإسلامي المتطرف وارتفاع نبرة التشدد الملازمة له. في
فيلمه هذا، يتقدم أحد مشرفي «الإمارة» المعلنة في عاصمة مقاطعة
تمبوكتو طالبا من امرأة أفريقية محجبة ترتدي الزي الإسلامي الصحيح،
ويأمرها بارتداء القفازات. لكنها بائعة أسماك؛ كيف يمكن لها أن
ترتدي القفازات وتبيع؟
في يوم واحد أنجز مهرجان «كان» السينمائي عروضه العربية الرسمية،
وفي الوقت نفسه، نظرته على وضعين متجانسين في العالمين العربي
والإسلامي. «تمبوكتو» حول المتطرفين الإسلاميين وقد استولوا على
القرار وشؤون الحياة، و«ماء الفضة» حول ما يقع في سوريا من حرب
طاحنة.
بعد ذلك سينصرف المهرجان، تبعا لجدولته، صوب أوجاع العالم الأخرى:
الثقافة المنهارة تحت وطأة العزلة الفردية في فيلم جان - لوك غودار
«وداعا للغة»، وصراع النقابات في بريطانيا حسب البريطاني كن لوتش
في «قاعة جيمي»، وانتشار المخدرات والعنف في لندن اليوم كما عند
فيلم «ثلج في الفردوس» لأندرو هولم، ثم هناك الذكرى المئوية
لانطلاق الحرب العالمية الأولى سنة 1914، ومن الوسط الأوروبي الذي
يشهد الأحداث العاصفة اليوم، في «جسور ساراييفو»، حيث غودار أحد 13
مخرجا التأم حول هذا المشروع.
*
صوت معتدل
ليست أفلاما كثيرة العدد ولا هي غالبة، إذ إن السائد لا يزال
الحكايات الفردية والمشاكل الشخصية التي عادة ما تكون انعكاسا
لأوضاع أعم، لكنها (سينمائيا على الأقل) تبقى تحت مظلة الهم الفردي
في معظم الأحيان.
الرابط بين فيلم «تمبوكتو» لسيساكو و«ماء الفضة» للسوريين أسامة
محمد ووئام سيماف بدرخان لا يمكن نكرانه؛ في الأول حديث عن بيئة
صحراوية مقهورة، وفي الثاني بيئة مدنية وقعت تحت أقدام ديكتاتورية
النظام وفاشية الحكم. في الأول هناك بلدة، وفي الثاني هناك مدينة
حمص، ومن خلال حمص، كل سوريا ماثلة.
«تمبوكتو»
يبدأ بغزال يركض هربا من سيارة يعتليها مسلحون يطلقون عليه النار
وينتظرون أن ينهكه الركض فيقع. بعد ذلك هناك ذلك الغربي معصوب
العينين الذي يساق إلى قلب منطقة المسلحين. يبادرك الشعور هنا
بأننا قد نرى صراعا بين الشرق والغرب، أو أن هذا الرجل الفرنسي
الذي جرى جلبه إلى المكان على أهبة أن يموت فيه. لكن الأحداث تتركه
تماما (إلى نحو ربع ساعة قبل نهاية الفيلم) لتحكي فصلا موازيا؛
هناك قرية تتبع البلدة نسمع أن سكانها هجروها لكننا لا نرى منها
سوى خيمة واحدة يعيش فيها رجل من الطوارق وزوجته وابنته. عندما
يهرع ابن جاره الراحل باكيا، كون مواطن أفريقي قتل واحدة من
البقرات (عندما داست شبكته المنصوبة لصيد السمك من النهر الكبير)
يقرر أن يواجهه. مشادة تقع. الأفريقي يسقط قتيلا. ها هو الزوج في
عهدة الإدارة الحكم المحلي بانتظار صدور الحكم بإعدامه. إنه لا
يخشى الموت، لكنه يخشى وجه ابنته التي لن يراها. يخاف على مستقبلها
وعلى مستقبل زوجته من بعد رحيله.
هذا هو الإطار العام للحكاية التي لا يسردها المخرج سيساكو كما
وردت هنا، بل ينتقل ما بينها وبين تصوير التعليمات الجديدة التي
أصدرتها الإمارة الحاكمة. إلى جانب، ذلك المشهد الصغير حول بائعة
السمك، هناك فصلان حول عزف الموسيقى داخل البيوت الذي بات ممنوعا.
في الفصل الأول يتبين أن الغناء إسلامي، فيُسمح به، وفي الثاني
عاطفي، فيُقاد الساهرون والعازفون إلى حيث يجري تنفيذ حكم الجلد
والرجم عليهم.
هناك صوت معتدل يسعى المخرج لتقديمه ليكون مواجها يبث نوعا من
التوازن المطلوب، وهو صوت أحد الشيوخ الذي يندد، قبل مشاهد الرجم
والجلد، بأحكام صدرت من دون ضرورة الشورى، بل تبعا لأوامر فردية،
حيث يتدخل لمنع تزويج فتاة رغما عنها لرجل لا تعرفه. لكن المشهدين
الرئيسين اللذين يظهر فيهما صوت العقل لا يؤديان إلى أكثر من
التذكير بأن الإسلام الحنيف ليس على صورة ما يرتكبه التطرف. وهو
تذكير في محله رغم أنه درامي لا يلعب دورا مؤثرا، فعلى مقربة هناك
مجموعة «بوكو حرام» التي تجاوزت أي خط اعتدال، بل أي موقف متطرف
سابق وأخذت تتصرف على نحو يخرق كل القوانين الإنسانية. هذا في بال
المشاهدين الغربيين وهم يتابعون أحداث «تمبوكتو».
*
سلبيات
لكن «تمبوكتو» ليس فيلما جيدا للأسف. هناك مشاهد جيدة فيه. في
الواقع، ربع الساعة الأول من الفيلم، يعد بتحفة صغيرة، وصولا إلى
ذلك المشهد الذي يلعب فيه الفتيان لعبة كرة قدم من دون كرة قدم
(ممنوعة)، فإذا بهم يمثلون اللعب في مشهد يعلو فوق باقي مستويات
العمل التعبيرية، وعلى أنغام غناء وموسيقى مناسبين.
تنظيم السرد في عملية تتابع متطورة البناء مشكلة سيساكو الأولى.
النقلات من وإلى الأحداث هي أقرب لأن تكون نقلات بين فيلمين
مختلفين.
فأحداث الطوارقي وعائلته لا تتجه صوب ما يقع في البلدة، وأحداث
البلدة (من حيثيات سيطرتها على القرار) لا تتوجه صوب الجانب الآخر
من الفيلم. حين يقع التلاقي يقع بعد عثرات درامية واضحة. إنه فيلم
رسالة، والرسالة تأخذ العناية الأكبر في فيلم كان يستحق معالجة
كلية أفضل.
مشكلة أخرى عند المخرج الموريتاني تتعلق بعدم سعيه لاستكمال المشهد
الذي يكوّنه بالتفاصيل الضرورية: لماذا رحل أبناء الضاحية
الصحراوية؟ ما الذي أبقى الطوارقي في المكان دون سواه؟ ولماذا يرعى
الصبي عشرات الأبقار (يختلف العدد من مشهد لآخر) فوق الرمال
الخاوية من النباتات؟
ربما هي الميزانية المحدودة التي قد تكون منعته من إنشاء بلدة
كاملة، لكن هذا سبب، وليس عذرا، لا يمكن تطويعه.
من ناحية أخرى، هناك شخصية لامرأة أفريقية تحمل ديكا على كتفها.
تضحك بلا مبرر، وتبدو كما لو أنها تستوعب أكثر مما تفصح عنه. شخصية
يمكن عدّها مجنونة، لكنها في الواقع مأخوذة من سينما السبعينات
عندما كان منتشرا في السينمات المغاربية تقديم «مجنون القرية»
و«أبله القرية»، ذكرا كان أم أنثى.
أما ذلك الفرنسي، فنراه مرة أخرى وأخيرة وهو يرقص شيئا مما يمكن
وصفه بالباليه (لست متأكدا). من هو؟ وما هو؟ أمران لا إجابة عنهما.
لا يحار المرء كثيرا في موقع الرسالة من الفيلم. إنها في القلب.
وبكاء المخرج في المؤتمر سبقه بكاؤه من خلال الفيلم على حال لم يعد
بالإمكان وصفها بالكلمات، ربما ليس هنا على أي حال.
*
معاناة بلا رتوش
الأمور عند المخرج السوري أسامة محمد مختلفة. إنها أكثر وضوحا. قبل
أكثر من ثلاثة أعوام انطلق الشعب السوري في درعا وحماه وحمس
وانطلياس وسواها بمظاهرة كان يجب أن تواجه بالورود عوض الرصاص. لكن
النظام اختار الحل العنيف، والفيلم يواكب ما حدث، وينضح من خلاله
بمشاهد بالغة العنف ومثيرة للكآبة المطلقة. لا يستطيع إلا أن يكون
ملتصقا بالواقع كما يعرضه، وإلا لكان فيلما آخر.
«ماء
الفضة» فيلم تسجيلي يبدأ بعبارة تقول إن الفيلم مؤلف من ألوف الصور
التي التقطها ألوف الأشخاص، و«أنا»، بلسان المخرج الذي سبق له أن
قدم فيلمه الروائي الطويل الأول «صندوق الدنيا» في هذا المهرجان
قبل سنوات طويلة، ثم غاب عن الإخراج، ولو أنه شارك في كتابة
السيناريوهات لبضع أفلام سورية روائية خلال السنوات العشر الأخيرة
ومن بينها أفلام عبد اللطيف عبد الحميد.
أسامة محمد مخرج علوي المذهب، لكن ذلك لم يمنعه من أن يعارض النظام
وهو يتحدث (صوتا فقط) معلقا على وضعه، إذ ترك سوريا في عام 2011
إلى باريس، وشعر بأنه خان وطنه حين فعل ذلك، ثم أخذ يرتب لعودته،
لكنه ترتيب ذهني لا أكثر «ليلا أريد أن أعود. في صباح اليوم التالي
أذهب وأشتري (مايكروسوفت)».
يوفر المخرج في نحو نصف ساعة أولى كثيرا من المشاهد التسجيلية حول
كيف ولماذا انطلقت الثورة وكيف ووجهت. نرى عنف رجال النظام الدموي
والإهانات غير الإنسانية التي يتلقاها من أُلقِي القبض عليهم.
إنسان يُعامل هكذا في الاعتقال ناتج عن أنه كان يعامل هكذا، ولو
على نحو غير ملموس أو مرئي، حين كان خارج الاعتقال. لا يمكن القول:
«حين كان حرا»، لأن الحرية هي ما ناضل الشعب من أجله، ولو كانت
موجودة لما كانت ثورته.
في جزء ثان (وكل جزء مقسوم إلى فصول، وكل فصل بعنوان مختلف) نتابع
رابطا صوتيا بين المخرج وفتاة كردية اسمها سيماف. هو في باريس
يتابع بقلق، وهي في حمص تعيش الحال المزري الذي ألمّ بها
وبالحمصيين جميعا.
إنها من يطلب منها المخرج لاحقا أن يصنع مما تسلمه من مواد مصورة
(منها أو من سواها) فيلما تسجيليا يحمل المعاناة، من دون رتوش وبلا
قصة أو بطولات.. لتتكم الجدران المكتومة والمباني المحترقة
والأجساد المرمية في الشوارع والقطط التي احترقت وهامت، والمعذبون
الذين فتك بهم لمجرد خروجهم مطالبين بالحرية («بدك حرية.. آه؟»)
يقول أحد الضباط، وهو يواصل ضرب أحد المواطنين على ظهره.
لكن إذا ما كان الفيلم، وعلى نحو طبيعي، بلا قصة، فإنه ليس بلا
تعليق يحاول أن يلعب دورا فلسفيا وثقافيا. وضع المخرجان عبارات من
نوع «أنظر إلى البيت والبيت ينظر لي» و«تتنفسني الحياة» و«هل أنا
هنا أو أنا هناك؟».. القليل من ذلك نافع، لكن ما استُخدم منه هنا
كثير، وفي أحيان متوالية ينفصل عما يود المرء سماعه. يمنع الفيلم
من تحليله للواقع وينصرف لبلورة تلك الوجدانيات التي مكانها فيلم
آخر.
في إحدى محطاته يحاول «ماء الفضة» أن يعكس معادلة متوازنة؛ تشكو
الفتاة في واحدة من مراسلاتها من جور المتطرفين الذين استولوا على
المدينة وتتساءل، على نحو مفهوم، ما إذا كانت الثورة دخلت نفقا
طويلا يبعدها عما انطلقت من أجله. لكن هذه المشاهد قصيرة لا تخدش
رسالة الفيلم الأصلية، ولو أنها تزيد من بعد المسافة بين الفيلم
وأي تحليل سياسي ممكن. تبقيه، بكلمات أخرى، في نطاق التعبير الذاتي
بعيدا عن السياسة، وهذا مبرر بدوره.
أهم ما في هذه المحاولة لا يمكن أن يكون حواره وجمل تعليقاته، بل
الشكل الذي صاغ فيه المخرجان عملهما. إنه صادق، ولذلك هو مفجع.
بصريا ممعن وبصرياته منظمة بفن تجريبي، وأحيانا بفن متأثر من أسلوب
غودار في الخلط بين الصور والكلمات.
حين انتهى الفيلم لم يصفق له كثيرون. كيف تصفق لفيلم مأسوي؟ إعجابا
به أم إعجابا بالمأساة؟ لكن الجميع، على أي حال، خرج وقد شملته
الكآبة. ها نحن في حضرة فيلم عن وضع آخر لم يعد قابلا للوصف.
*
أخبار وهوامش
*
الصحافة السينمائية في «كان» وقفت إلى جانب المنتج هارفي واينستاين
حول مسألة فيلم «غريس أوف موناكو».
في الأول قامت مجلتا «فاراياتي» و«ذا هوليوود ريبورتر» بتقديم
قراءة نقدية سلبية للفيلم قبل عرضه. في اليوم الثاني، انضمت مجلة
«سكرين» متسائلة ما إذا كان بإمكان واينستاين فعل شيء «حيال فيلم
بمثل هذا المستوى».
*
الأمير عظيم حاجي بولكيا، ابن ملك بروني، وصل إلى «كان» وفي خططه
الإشراف على قيام شركته المؤسسة حديثا في لندن (اسمها داريل برينس
برودكشنز) بإنتاج أول فيلم لها تحت عنوان «أنت لست أنت». في الوقت
ذاته، يواجه موقف والده الذي اشترى واحدا من أكبر فنادق لوس أنجليس
(ذا بفرلي هيلز هوتيل)، بعدما أشيع أن السلطان معادٍ للمثليين، مما
أثار ضده حملة شعبية معارضة واعتصامات أمام الفندق.
*
أصداء وفاة المخرج السويدي من أصل عربي مالك بنجلول تركت أثرا
حزينا هنا كون الشاب الراحل أقدم على الانتحار نتيجة شعوره
بالكآبة، حسب تصريح شقيقه، رغم إنجازه أوسكار أفضل فيلم تسجيلي
العام الماضي، |