حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم   

85th Academy Awards

هل كُشفتْ أسرارٌ للمخرجة وهل استُخدم الفيلم للدعاية؟

«٣٠ دقيقة بعد منتصف الليل» لبيغولو والجدل حول علاقة هوليوود بالبنتاغون

نديم جرجورة

لا تنتهي تداعيات الفيلم الجديد لكاثرين بيغولو (مواليد 27 تشرين الثاني 1951 في «سان كارلوس» في كاليفورنيا). منذ إعلانها بدء تنفيذ مشروعها هذا، المعنون بـ«ثلاثون دقيقة بعد منتصف الليل»، لاحقتها اتّهامات وحملات، ازدادت حدّتها لحظة اغتيال أسامة بن لادن في الثاني من أيار 2011. هذا فرض تبديلاً على المشروع. إطلاق عرضه التجاري الأميركي في 19 كانون الأول 2012، أشعل نوعاً من حريق «لن يلتهم أحداً»، كما علّق معنيون بالفيلم. الاتهامات طالت وزارة الدفاع الأميركية الـ«بنتاغون». طالت «وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية». الوكالة نفسها هاجمت الفيلم بسبب مشاهد اعتبرتها «مُهينة» بحقّها. مشاهد مرتبطة بعمليات تعذيب نفّذها عملاء استخباراتيون بحقّ إرهابيين.

في حوار منشور في المجلة الفرنسية الأسبوعية «لو نوفيل أوبسرفاتور» (17 كانون الثاني 2013)، قالت كاثرين بيغولو إنها لم تتلقّ أية مساعدة من أجهزة الدولة الأميركية: «وزارة الدفاع لم تعط رأيها في السيناريو. لو أننا (السنياريست مارك بووال وهي) استجدينا هذا التعاون، لحصلنا على معلومات أكثر من دون أدنى شكّ. بووال، بصفته صحافياً، جمع معلومات كثيرة بجهده الشخصي. ثم اتّخذ قراراً ممتازاً، تمثّل بالعمل انطلاقاً مما حصل عليه فقط». أضافت أنهما ارتكزا على شهادات مسؤولين كبار شاركوا في مهمة اغتيال بن لادن: «كان مستحيلاً سرد ملاحقة دامت 10 أعوام في عمل مدّته 150 دقيقة. وجدنا أنفسنا أمام 370 ساعة تصوير، ما جعلنا نعمل طويلاً وكثيراً في غرفة المونتاج. هذا فيلم روائي لا وثائقي». 

لكن الفيلم أعاد طرح سؤال العلاقة بين هوليوود وأجهزة الدولة الأميركية، السياسية والعسكرية والأمنية. في تقرير لمكتب «وكالة الصحافة الفرنسية» في واشنطن منشور في 21 كانون الثاني 2013، فإن المساعدة (!) التي قدّمتها إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما لفريق الفيلم، أثارت مجدّداً «الجدل حول التاريخ الطويل للعلاقات بين الـ«بنتاغون» وهوليوود، التي يُشتبه في أنها تؤدّي دوراً ترويجياً للجيش الأميركي». أضاف التقرير ان وزارة الدفاع الأميركية، «في سعيها إلى الدعاية عن أبرز إنجاز حقّقته الإدارة الحالية، تواجه اتهامات من جمهوريين بأنها كشفت بعض أسرار الدولة للمخرجة بيغولو، في حين أن جمهوريين عديدين اتّهموا الـ«بنتاغون» باستخدام هوليوود وسيلة للدعاية». غير أن فيل ستراب، رئيس الخلية المكلّفة بمهمّة تنظيم العلاقات مع صناعة السينما في وزارة الدفاع، أكّد أن الفيلم لم يحظ بتعاون من الوزارة، باستثناء لقاء استمرّ 45 دقيقة فقط بين المخرجة وكاتب السيناريو ومسؤول المهمّات الخاصة في الـ«بنتاغون» مايكل فيكرز، من أجل تقديم «عرض عام». أوضح ستراب للوكالة نفسها أن الوزارة تطلب من المخرج إرسال السيناريو و«ما يتوقّعه منا»، مشيراً إلى أنه غالباً ما يأخذ الدعم «شكلاً تقنياً لإضفاء صدقية على شخصية عسكرية أو عمل عسكري، وأيضاً لاستصدار إذن بالدخول إلى منشآت عسكرية، أو لاستخدام دبابات أو طائرات أو سفن ستظهر في الفيلم». لكن، لكلّ شيء ثمنه. فالمعدّات كلّها التي تُستخدم تكون مستأجرة، كما أن الـ«بنتاغون» يشترط، خصوصاً، منحه حقّ الاطلاع على السيناريو. ويبرّر فينس أوغلفي، مساعد ستراب، ذلك بالقول: «نريد أن يؤدّي الممثلون أدوار العسكريين بالشكل الذي نريد لهم أن يتصرّفوا فيه». ومن غير الوارد إطلاقاً أن يتعاون الـ«بنتاغون» مع فيلم يُظهر مدرِّباً عسكرياً عنيفاً، كما حصل في فيلم «سترة معدنية كاملة» (1987) لستانلي كيوبريك، أو يُبرز جندياً متهوّراً كما حصل في فيلم «ذي هيرت لوكر» (2008) لبيغولو نفسها، الذي حصد ست جوائز «أوسكار» في الدورة الـ82 في العام 2010، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج (عن فرقة نزع الألغام في العراق أثناء الاحتلال الأميركي).

السفير اللبنانية في

24/01/2013

 

"جانجو طليقاً"..

تحرير العبيد على طريقة تارانتينو!

محمود عبد الشكور 

فى كل فيلم جديد يخرجه كونتين تارانتينو، يمكنك أن تلاحظ ببساطة أمرين: استيعاب وهضم للنوع أو الأنواع التى يقدم من خلالها حكايته، وقدرته على الإضافة سواء من حيث الأفكار المطروحة، أو الشكل الذى يحمل تلك الأفكار.

فيلم  "django unchained" ليس استثناء من هذه القاعدة، من حيث النوع نحن أمام إعادة إحياء مدهشة لأفلام الويسترن، ولكن بعد أن يأخذها تارانتينو الى آفاق واسعة مختلفة، مأساة العبيد الأفارقة هى محور الفيلم، ليست المسافة واسعة جداً، مع ذلك، من حيث المضمون، لأن العلاقة بين القانون والعدالة هى أصلاً إحدى الموضوعات الأساسية فى عالم سينما الويسترن الذى طالما جعلنا نتعلق بمشاهدة الأفلام الأمريكية.

اللافت فى المعالجة هنا أن موضوع تحرير العبيد يطرح هنا بشكل ثورى إن جاز التعبير، سؤال الفيلم هو: لماذا لم يقم العبيد الأفارقة بثورة رغم القهر والذل وانتهاك الكرامة؟، لماذا انتظروا حرباً أهلية تحررهم؟، لماذا لم يركبوا الخيول ويقتلوا تجار الرقيق ولو حتى من باب المحاولة؟ يمكن أن تعتبر فيلم "جانجو طليقاً" هو التعبير السينمائى العنيف عن تحقيق مالم يتحقق بالفعل، تارانتيو قرر تحرير العبيد بالقوة، وعلى عينك يا تاجر الرقيق.

من حيث الشكل، يستفيد الفيلم من كل كليشيهات وموتيفات أفلام الويسترن الأمريكية أو الإيطالية (الإسباجيتى)، يضعها فى خلاّط ثم يخرجها عملاّ جديداً ومبتكراً، يأخذ من السينما ليعيد إليها العطاء فيلماً اصيلاً ومختلفاً، ولولا ملاحظات أساسية على ربع الساعة الأخيرة من الفيلم، لكنا أمام عمل استثنائى وخارق.

اللعبة الثلاثية

يعتمد تارانتينو على الرسم البارع لشخصياته، ثم إدارة لعبة درامية فيما بينها، مع استغلال كل إمكانيات النوع السينمائى حتى النخاع، فى "جانجو طليقاً" ثلاث شخصيات محورية، وشخصيتان مؤثرتان فى الخلفية، الزمان عام 1858، قبل عامين من الحرب الأهلية الأمريكية، والمكان ولايات تتاجر فى العبيد من تكساس الى ميسيسيبى، والصراع محوره تطبيق القانون الضيق، والعدالة الواسعة.

الشخصيات الثلاث هم: طبيب الأسنان المعتزل الألمانى كينج شولتز (كريستوفر والتز)، الذى تحوّل الى مهنة أكثر ربحاً، صائد جوائز يتابع الخارجين على القانون، يقتلهم ليحصل على مكافأة العدالة الأمريكية، رجل يبيع الجثث من أجل المال تماماً مثل تجار الرقيق، ولكنه فى النهاية محسوب على رجال القانون.

الطرف الثانى هو جانجو العبد الإفريقى (جيمى فوكس)، لا نعرف شيئاً عن تاريخه السابق، ولكنه الآن يمتلك فرصة لكى يكون حرّاً، الطبيب صائد الخارجين على القانون سيلجأ إليه لأنه يعرف ثلاثة أشرار من المطلوبين موتى أو أحياء، سيصبح مساعداً لصائد الجوائز، فى مقابل بعض الدولارات، مع الحصول فى النهاية على حريته.

الشخصية الثالثة هى تاجر العبيد الثرى كالفن كاندى (ليوناردو دى كابريو)، النموذج الفج لتجارة الأجساد، وانتهاك البشر، هو لا يخرق القانون الذى كان  يسمح بتجارة العبيد، والذى يقنن إجراءات بيع البشر فى صورة وثائق وعقود مكتوبة، ولكنه ينتهك فكرة العدالة بمعناها المطلق، العدالة التى تمنع الإنسان من انتهاك حقوق الإنسان، او فلنقل إن هذا ما ينبغى أن يكون.

أما الشخصيتان المؤثرتان للغاية رغم أنهما فى الخلفية قليلاً فهما: برومهيلدا (كيرى واشنجتون)، وهى زوجة جانجو التى تم بيعها فى  ميسيسيبى، ومع ذلك لم ينسها أبداً، وهى التى ستدفعه الى مواصلة العمل مع الطبيب شولتز، يريد أن يستردها، ولذلك يجمع النقود من مهنة صيد الجوائز، وينتظر مساعدة الطبيب الماكر فى تنفيذ هذه المهمة.

ولدينا ستيفن (صامويل جاكسون)، خادم كاندى الأسود العجوز، الذى يبدو أكثر قسوة من البيض على الزنوج، النموذج الفجّ لما تفعله العبودية من تشويه للإنسان بحيث يتحوّل الضحية الى جلاد أكثر شراسة من الجلاّد نفسه، إنقلاب داخلى جدير بالدراسة والتأمل.

بعد أن يبنى تارانتينو شخصياته مثل بنّاء مخترف، يصبح من البساطة الممتنعة توصيل الجسور بينها على هذا النحو البديع: يستعين الطبيب صائد الجوائز بالعبد جانجو للتعرف على ثلاثة أشقاء خارجين عن القانون، يقوم الطبيب بشراء جانجو لهذه المهمة، بعد إنجازها يقوم بتحريره، ولأن العبد يريد أيضاً استعادة زوجته برومهيلدا التى بيعت إثر محاولتهما الفاشلة للهرب من المزرعة التى يعملان بها، فإن جانجو يوافق على العمل طوال الشتاء مع شولتز فى صيد الخارجين عن القانون، يكتشفان أن برومهيلدا عند تاجر العبيد الشرس كالفن كاندى، يحاولان التحايل من أجل استردادها، يكتشف ستيفن العجوز الاسود اللعبة، يبداً الانتقام ثم الإنتقام المضاد، ثورة دموية فردية صغيرة يقودها جانجو بعد تحريره.

براعة السيناريو ليست فقط فى تحديد ملامح الشخصيات، ولا فى اللمسة الساخرة التى تكاد تشغل النصف الأول من الفيلم، ولكن فى طريقة مدّ الجسور بين الشخصيات وبين الأفكار فى نفس الوقت، صائد الجثث والجوائز فى مقابل تاجر الرقيق، الألمانى الأوربى فى مقابل الأمريكى، العبد الثائر فى مقابل العبد المتواطئ، القدرة على تطبيق القانون بصيد الخارجين عنه فى حوادث السرقة والخطف والسطو، والفشل فى تطبيق العدالة بانتشار تجارة الرقيقة وتقنينها، حكاية الحب بين جانجو وبرومهيلدا فى مقابل علاقة الكراهية بين ستيفن وكل زنوج العالم، ثم الثورة الشاملة التى يقترحها تارانتينو: أيها العبيد، ثوروا واقتلوا البيض، يحدث ذلك أولاً عندما يقوم جانجو باصطياد الأشرار البيض، باسم القانون، وكمساعد للطبيب شولتز، ثم عندما يقوم بتصفية عائلة كاندى كلها باسم العدالة بمعناها العام.

انتقام جانجو

لا تفلت الفكرتان أبداً من تارانتينو: القانون والعدالة، وفى قلب الحكاية تفاصيل لا تنسى: جلد العبيد وتعذيبهم وترك الكلاب لتنهش أجسادهم أحياء، ربط حكاية حب جانجو بأسطورة سيجفريد وبرومهيلدا الألمانية، سيجفريد سيقتل التنين وسيتجاوز دائرة النار لإنقاذ جبيبته برومهيلدا، وهو ما سيحققه جانجو فعلياً على الشاشة ولكن بصورة أخرى، ركوب العبد الحصان مما يثير دهشة وذهول البيض، الزنوج لايركبون الخيول، وعندما يركبوها تتغيّرحياتهم، هذا هو المعنى الواضح.

فى مشهد هام من الفيلم، يكتشف كاندى، الذى يتلذذ بمشاهدة العبيد وهم يصارعون بعضهم البعض حتى الموت على طريقة الرومان، أن الثنائى شولتز وجانجو قررا خداعه، جاءا فى هيئة تجار للعبيد، أوهماه بشراء عبد مقابل مبلغ ضخم يصل الى 12 ألفاً من الدولارات، بينما هما  يريدان شراء برومهيلدا.

يُخرج كاندى جمجمة صغيرة يقول إنها للعجوز بن، خادمه وخادم أجداده، الذى لم يفكر أبداً فى الثورة على الذل والخنوع، يفسّر كاندى ذلك بأن ثلاث نقاط محفورة فى جمجمته تثبت أن الجنس الأسود أكثر قابلية للخنوع من البيض، النقاط الثلاث تتحول فى جماجم البيض الى مناطق للإبداع كما يقول، ستكون هذه الملاحظة أحد أسباب تتابعات العنف الدموى فى ربع الساعة الأخير من الفيلم، بما يكاد يذكرنا على نحوما بالتتابعات الدموية فى نهاية فيلم "سائق التاكسى": كبتٌ ثم انفجار.

لم تكن مشكلة هذه الدقائق الأخيرة فى تغليب خيار العنف الدموى لإقرار العدالة بمعناها الواسع، من الواضح أن البناء بأكمله، ومشاهد العنف ضد العبيد، مصممة لكى تصل بالمتفرج الى هذا الحل الذى يقترحه تارانتينو حتى على مستوى حكايته وشخصياتها المحدودة، كان واضحاً ايضاً أن صيد الخارجين على القانون سيؤدى بالضرورة الى صيد الخارجين على العدالة حتى لو كانوا ملتزمين بالقانون الجائر، كان مفهوماً تماماً أن الخاص سيتحول فى النهاية الى عام، وأن البراعة فى استخدام المسدس ستقود حتماً الى الوصول الى  تفجير الديناميت.

المشكلة فى رأيى أن هذه النقلة العنيفة، لم تجد لحظتها المناسبة، كان كاندى قد كتب عقود الصفقة لبيع برومهيلدا مقابل 12 ألفاً من الدولارات، رغم أن ثمنها هو 500 دولار، كانت لعبة الذكاء قد انتهت فعلياً لصالحه، أراد فقط مصافحة شولتز، ولكن الأخير قتله بالرصاص، فانفجرت المجزرة داخل القصر.

بدلاً من أن يتم قتل العبد جانجو مرتكب المجزرة، يتم إرساله للعمل فى أحد المناجم (!!)، فينجح من جديد فى تحرير نفسه، ويقوم باستكمال المجزرة من جديد بمزيج من الرصاص والديناميت، قانون جانجو هو العنف بالعنف، والدم بالدم، والبادى أظلم.

لم يفلح تارانتينو فى التمهيد الأخير لهذه المجزرة، زادت الجرعة والصنعة قليلاً، أرجو ألا تنسى أن الطبيب شولتز لا يستخدم مسدسه أبداً قبل عقله، وهو واسع الحيلة بدرجة تجعل رد فعله العنيف على مصافحة كاندى غريباً للغاية، بالتأكيد سيفكر فى قتل شولتز، ولكن ليس بهذه الطريقة السريعة، لاحظ أيضاً أن الذين يتركون الكلاب لكى تنهش لحم عبد وهو حى لمجرد أنه فشل فى المصارعة، لن يتركوا على الإطلاق أول عبد يرتكب مذبحة جماعية ضد البيض لكى يعانى من الأشغال الشاقة فى شركة للمناجم، ولن يتركوا حبيبته على قيد الحياة، وهى سبب العداء بين كاندى  من ناحية، وشولتز وجانجو من ناحية أخرى.

انفصل هذا الجزء فى تقديرى عن جسد الفيلم المتماسك، الذى يبدو بالفعل مثل سبيكة من المعادن المختلطة، ولكن الفكرة وصلت بمنتهى القوة: لن يحصل لك أحد على حقك، الخنوع قد يمنع موت الجسد، ولكنه لا يمنع موت الروح، لا معنى للقانون إن لم يكن يحقق العدالة، فى الحقيقة، لم يتم تحرير العبيد إلا بالقوة، بالحرب الأهلية التى ستطحن أمريكا بعد عامين من أحداث الفيلم.

تندمج فى الفيلم روافد شتى من التأثرات البصرية، يمكنك أن تعتبر "جانجو طليقاً" عموماً تحية شاملة لعالم الويسترن الذى تتلاشى فيه المسافات بين القوة والقانون والعدالة، بين قانون الفرد وقانون المجتمع، وهى فكرة محورية ايضاً فى عالم تارانتينو، وفى أفلامه البعيدة عن الويسترن، كل عناصر موتيفات أفلام الغرب موجودة: العمدة والماريشال والبار والمسدسات والخيول والعبيد والسادة والمال والنساء، ولكن بعد أن اندمجت فى إطار سينما تحرير العبيد، على شريط الصوت لا تتوقف الأغنيات التى تكاد تحوّل الحكاية الى أسطورة، استخدام الزووم فى لقطات متعددة ينقلنا الى استخدامات مشابهة فى أفلام الويسترن الإيطالى، المشاهد الطويلة التى يتم بناؤها على مهل ملمح آخر من ملامح التأثر بأفلام الويسترن الإسباجيتى، من أروع أمثلتها المشهد الإفتتاحى، ومشهد قتل شولتز لعمدة مدينة، سنعرف فيما بعد أنه خارج على القانون،  تارانتينو يعتمد عموماً فى أفلامه على بناء المشاهد الطويلة المتقنة.

مشاهد العنف الأخيرة أقرب فى تأثراتها بمشاهد أفلام العصابات والمافيا، وليس أفلام الويسترن، الحقيقة أن شخصية كاندى، وحياته، وأعماله، وقصره، لا تفترق كثيراً عن أى شخصية رجل عصابات يتاجر فى أى شئ، روح السخرية المعروفة عن تارانتينو منحت الفيلم حيوية فائقة، البيض الذين يتشاكسون لأن الأكياس الى تخفى وجوههم لا تمنحهم فرصة للرؤية، خزينة المال التى يمتلكها  شولتزعلى شكل ضرس عملاق، الرجل الذى يخلع الضروس أصبح يخلع الأشرار.

يقدّم الممثلون عادة أدواراً استثنائية تحت قيادة تارانتينو، الجميع كانوا مميّزين فى "جانجو طليقاً"، ربما لا يلاحظ البعض صعوبة دور جيمى فوكس الذى بدا صامتاً تقريباً فى الربع الأخير من الفيلم، كان يحافظ على تعبيرات معقدة على وجهه دون أن ينطق بكلمة، أدهشنى صامويل جاكسون بدوره الغريب، ذلك الزنجى الذى يكره جنسه ويحتقرهم، الممثل الكبير قدّم الشخصية بلمسات بارعة تجمع بين القسوة والسخرية، ليوناردو ديكابريو كان مناسباً ومميزاً فى دور يجمع بين الرقة والأناقة الظاهرية، والقسوة المتوحشة فى الداخل.

على أن كريستوفر والتز، المشخصاتى الفذ، اكتسح الجميع بأدائه الواثق والهادئ، الشخصية أيضاً شديدة التركيب، رجل له طبيعة عملية، ولكنه أيضاً يمتلك رؤية ووجهة نظر عن القانون والعدالة، شديد الذكاء والسخرية، أوربا القديمة التى تحاول ترويض أمريكا الطائشة، لا يمكن ألا يتطرق اليك هذا المعنى حتى لو لم يقصده تارانتينو، السياق يقول ذلك، والمشخصاتى الفذ يقوله بذكائه وبراعته وبقدرته على العمل لتنظيم الفوضى، الحقيقة إن مقتل هذه الشخصية قبل النهاية، حرم الفيلم من نهاية أكثر عمقاً وذكاء.

فى الأسطورة الألمانية، نجح سيجفريد فى تحرير برومهيلدا رغم النار والتنين، وفى أسطورة ترانتينو، نجح جانجو فى تحرير برومهيلدا رغم العبودية والذل، فى الحالتين لم تتم مواجهة القوة إلا بالقوة المضادة، فى الواقع لا يوجد التنين، وفى الواقع لم يقم عبد أسود بتصفية عشرات البيض مثل عصابات شيكاغو، ولكن سينما تارتنتينو تعيد تركيب الحياة من جديد، وتصنع لها نهايات وشخصيات كالأساطير.

تارانتينو قادر دوماً على تحويل العادى الى خارق، قادر على وضع النبيذ الجديد فى أوان عتيقة، وقادر أيضاً على الربط بين التنين والخيول التى ركبها الزنوج، فلم ينزلوا عنها حتى اليوم.

"جانجو طليقا" واللعب بقواعد السينما التارانتينية

أحمد شوقي 

تقول إحدى النصائح الطريفة التي توجه لدارسي فن كتابة السيناريو "الحوار أداة خادعة قادرة على إفساد عملك، فلا تكتب حوارا مطولا إلا لو كان اسمك هو كوينتن تارانتينو!". أذكر العبارة السابقة ليس إقرارا بصحتها، فمن حق كل كاتب بالطبع أن يستخدم حواره الذي قد يكون أفضل من تارانتينو ذاته، وليس توضيحا للمكانة التي وصل لها المخرج الأمريكي المثير للجدل، فهي معروفة لمعظم محبي السينما. ولكني أذكرها كمدخل للحديث عن آليات التعامل النقدي مع أفلام تارانتينو ومع غيره ممن يمتلكون تلك الصفة النادرة المسماة بالموهبة الاستثنائية، وهي نفس الآليات التي وجدت نفسي تلقائيا استخدمها مع فيلم تارانتينو الجديد "جانجو طليقا" أو "Django Unchained". 

فالقواعد ـ أي قواعد ـ يتم وضعها من أجل أن تستخدم في أداء الفعل في أفضل صوره، وذلك عبر تنبيهات تستخدم في تفادي الأخطاء التي وقع فيها الغير من قبل، وتوضيح الوصفات التي أثبتت نجاحها من قبل حتى يتم توظيفها مجددا. فعندما يحذر مدرسي السيناريو من الإفراط في الحوار فذلك نابع من مئات السيناريوهات التي أفسدها طول الحوار، وعندما يتعامل الناقد مع عمل بقسوة فهذا سببه الإيمان بأنه كان في الإمكان أفضل مما كان.  

أما عند التعامل مع صانع أفلام يمتلك بصمته الخاصة التي تمكنه من خلق تجارب لا تشبه إلا غيرها، عندها يكون محاولة فرض الوصاية ومحاكمة المبدع بحدود أضيق من خياله أمر ظالم بكل المقاييس. "جانجو طليقا" هو أحد هذه الأعمال التي لا تشبه إلا نفسها، أو لنكن أكثر دقة هو أحد الأعمال التي لا تشبه إلا صاحبها. فهو فيلم تارانتيني الهوية لا يمكن أن يقدمه سوى مؤلفه ومخرجه ولا يجب أن يتم التعامل معه إلا بقواعد السينما الترانتينية.  

إعادة خلق وليس تقليد

أبرز سمات سينما كوينتن تارانتينو هي الإخلاص الشديد لنوعيات الأفلام التي يحبها المخرج. فبينما يخجل معظم صناع الأفلام الكبار من تصنيفهم كمخرجي نوعية Genre ويفضلون أن تكون أعمالهم عصية على التصنيف، فإن تارانتينو لا يخجل في كل مرة من تقديم عمل ينتمي شكليا لأحد أنواع الأفلام التي يحبها، ولكنه انتماء يستلهم فقط الشكل العام لهذه النوعية من الأفلام ولا يمكن أن يدرج تحت عنوانها بشكل كامل. ففيلم "Kill Bill" مثلا كان إهداءا لسينما الكاراتيه وصل لارتداء البطلة لنفس الحلة الصفراء التي اشتهر بها نجم أفلام الكاراتيه الأشهر بروس لي، لكنه امتلك بناءه السردي والفكري الخاص المختلف تماما عن كل أفلام النوعية. 

بالمثل يشبه فيلم "جانجو طليقا" شكليا أفلام الويسترن سباجيتي التي ظلت تحقق نجاحات ضخمة حتى بدأت شعبيتها في الانحسار تدريجيا لتصبح من النوعيات المهمشة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ففي فيلم تارانتينو ستجد كل العناصر الخارجية: قبعات ومسدسات متدلية من الأحزمة ومبارزات يربح فيها الأسرع وشريف الشرطة معدوم الحيلة أمام البطل واسع الذكاء والقدرات، وحتى أشكال العناوين وطبيعة الموسيقى المستخدمة. ولكن النظرة الأكثر عمقا للبناء الدرامي الخاص بالفيلم تكشف بسهولة أن الفيلم يتشابه شكليا فقط مع نوعية الويسترن من باب الإهداء، ولكنه لا ينتمي فعليا إلا لسينما صانعه الذي يعيد خلق النوعية المندثرة بطريقته الخاصة. 

خصوصية البناء

والبناء الدرامي لدى تارانتينو يعلى بشدة من قيمة المشهد الواحد في دفع الحكاية. فلا يتردد المخرج المؤلف في بدء فيلمه بمشهد طويل يمتد لقرابة الربع ساعة، يعتمد فيه على توظيف ديناميكية حواره المشبع بالتوتر الداخلي الذي صار ـ كما أوضحت ـ مضربا للمثل، ومعها الميزانسين المعد بعناية والأداء التمثيلي الهائل للممثل النمساوي كريستوفر فالتز، ليخلق بهذه العناصر حالة جذب يصعب أن يفلت المشاهد منها. المشهد يحطم مجددا قاعدة أخرى يتشدق بها المنظّرون حول تناسب الملل طرديا مع طول المشهد باستثناء المشاهد التأملية، فلا المشهد الافتتاحي ولا غيره من مشاهد الفيلم يمكن وصفها بالشعرية أو التأمل، بل هي على العكس مشاهد حركة صرفة، ولكنها صورة أخرى لقدرة الموهبة على تحطيم القواعد. 

المشهد إذا وحدة لا يستهان بها في بناء الفيلم، وهو ما يتأكد إذا ما تم حصر عدد مشاهد الفيلم الممتد لأكثر من 165 دقيقة فستكون في الأغلب أقل من عدد مشاهد أي فيلم حركة آخر يتسول الإثارة لتسعين دقيقة فينجح حينا ويفشل أحيانا. ومع توالي المشاهد تتراكم الشحنات وتتضح الشخصيات لتجد نفسك تلقائيا متورطا في المغامرة المثيرة التي يخوضها العبد جانجو (جيمي فوكس) مع طبيب الأسنان صائد الجوائز (كريستوفر فالتز) من أجل استعادة زوجة جانجو من منزل الثري المهووس بمصارعة العبيد (ليوناردو دي كابريو). 

إدانة دموية وعيب دائم

يتخد الفيلم موقفا عدائيا واضحا من فكرة الرق والتفرقة العنصرية، موقف يصل لدراجة التطرف في اعتباره كل من شارك في هذه الفترة ولو بالسكوت عن الحق مدانا بشكل أو بآخر بما يستوجب العقاب. والعقاب عند تارانتينو ليس عقابا نفسيا أو ضمنيا، ولكنه عقاب مادي صرف يجعلك تشاهد الشخصيات المدانة وهي تتمزق برصاصات الأبطال فتسيل دماءها وتتناثر أشلاءها. لا سيما إذا ما كان المتورط في تحويل حياة العبيد جحيما هو أحد بني جنسهم كشخصية الخادم الأسود التي يجسدها صامويل جاكسون ببراعة، والتي يتلذذ جانجو في مشهد النهاية الدامي بالانتقام فيه من كل من اشتروا سعادتهم مقابل عذاب الآلاف في نير العبودية، وهو موقف لا يختلف كثيرا عما فعله المخرج في فيلمه السابق "Inglorious Bastards" بتغيير دفة التاريخ لينتقم من الزعيم النازي هتلر بطريقته الخاصة. 

تلك الدموية المفرطة يراها البعض عيبا أخلاقيا في أفلام تارانتينو وأراها مجرد سمة أسلوبية نابعة من نوعيات الأفلام التي لم يخجل يوما في الإعلان عن حبه لها وتأثره بها. ولكن إذا ما أردنا الحديث عن العيب الحقيقي المزمن في سينما تارانتينو فهو أن القيمة النهائية للفيلم ككل لا توازي دائما حاصل جمع قيمة كل مشهد على حدة. فالتميز في صياغة وصناعة كل مشهد تحوله لوحدة متكاملة مشبعة بالدراما الداخلية والمشاعر، لكن الفيلم بأكمله لا يمتلك نفس القدرة على إثارة التساؤلات داخلك، ويكتفي بجمع هذه الوحدات في جسم واحد يهدف قبل كل شيء لإمتاع المشاهد، وهو بالطبع هدف نبيل مالم يتاجر صانع الفيلم بأكثر من ذلك، وهو مالا يفعله مخرجنا أبدا. 

تارانتينو إذا واصل في "جانجوطليقا" تقديم السينما الخاصة به والتي تميزه عن أي صانع أفلام في العالم. السينما التي يستغل فيها المخرج المؤلف مواهبه للحد الأقصى ويكرم بها نوعيات الأفلام التي يحبها ويمتع بها جمهوره بأعمال لا تشبه إلا نفسها، ليفرض بذلك قواعده الخاصة على كل من يحاول تحليل أفلامه. 

عين على السينما في

24/01/2013

 

 

رشحت ناومي واتس عنه لجائزتي «أوسكار» و«غولدن غلوب»

طوفان من العواطف في الفيلم الإسباني - الإنجليزي «المستحيل The Impossible»

الوسط - محرر فضاءات  

يسرد فيلم الدراما «المستحيل The Impossible»، محنة حقيقية عاشتها عائلة أسبانية فيما كانت تسترخي في منتجع على أحد الشواطئ التايلاندية، لتهاجمها كارثة التسونامي التي اجتاحت المحيط الهندي في 26 ديسمبر/كانون الأول 2004.

يتناول الفيلم، وهو من إنتاج العام 2012، تفاصيل مؤلمة لما مرت به العائلة بعد إن اجتاحت مياه البحر المنتجع الذي تسكن فيه. العمق الذي يسرد به الفيلم تلك التفاصيل قد يجعل أمر المشاهدة صعباً لبعض المتفرجين، وربما مستحيلاً للبعض الآخر.

الفيلم ذو الإنتاج الأسباني هو من إخراج الأسباني خوان أنطونيو بايونا الذي قدم مسبقاً فيلم «دار الأيتام The Orphanage»، لكن لأسباب تتعلق بشباك التذاكر تم تحويل شخصيات الفيلم الناطق بالإنجليزية من أسبانية إلى بريطانية.

تلعب ناومي واتس دور طبيبة تدعى ماريا، فيما يلعب ايوان ماكغريغور دور رجل أعمال يدعى هنري. يسافر الإثنان في عطلة إلى تايلند مع أبنائهما الثلاثة.

كاتب السيناريو ومخرج الأفلام الأسباني سيرجيو سانشيز كان هو من تولى عملية تحويل القصة من أسبانية إلى بريطانية. وبالرغم من أن الفيلم حظي بإعجاب النقاد الذين أشادوا بإخراج الفيلم وبأداء ممثليه، على الأخص ناومي واتس التي رشحت لجائزة الأوسكار لأفضل ممثلة، وجائزة الغولدن غلوب لأفضل ممثلة في فيلم درامي. على الرغم من ذلك فإن عملية تحويل القصة من أسبانية إلى بريطانية لم تكن موفقة إلى درجة كبيرة، بعض النقاد يرون أن سيناريو الفيلم وحواراته بدت كأنها تتكون من تركيبات لغوية خرقاء وبعضها خاطئ، ما جعل كثير من حوارات الفيلم تبدو مصطنعة وزائفة. كذلك انتقد البعض موسيقى الفيلم المبالغ فيها وبعض اللقطات التي تم التلاعب بها. بالإضافة إلى ذلك انتقد بعض النقاد الفيلم لأنه فعل ما تفعله معظم أفلام هوليوود حين أعطى الأولوية لتصوير الكارثة وقدمها على تصوير تفاصيل المحنة التي مرت بها العائلة.

مع ذلك، فقد نجح المخرج في تصوير ضخامة التسونامي وبدت المشاهد التي صورت الطوفان مؤثرة ومرعبة بشكل مذهل. لكن هذا النجاح لا يحسب للمخرج؛ إذ إن أفلام هوليوود الرائجة تصور كوارث مماثلة بشكل دائم، منها فيلم «Hereafter الآخرة»، الذي أخرجه كلينت ايستوود في العام 2010، والذي صور تسونامي المحيط الهندي بشكل لا يقل تأثيراً. عدا عن ذلك فإن عملية تزييف المشاهد وتركيبها باستخدام برامج الكمبيوتر أصبح أمراً في غاية السهولة.

على رغم ذلك فإنه من النادر تصويراً لفظاعة الدمار وبشاعته كما هو في فيلم «المستحيل»، كما إنه من النادر أن يتم تصوير جسم الإنسان وهو يبدو ثقيلاً جداً ومرهقاً كما فعل مخرج هذا الفيلم.

تم تصوير معظم مشاهد الفيلم في فندق دُمر جراء كارثة التسونامي، عندما ضربته موجة من الماء. لم يقدم بايونا في الفيلم محاولات هروب خارقة أو بطولات غير ممكنة قام بها أبطال فيلمه لكنه أتاح للكاميرا فرصة لتطيل تصوير الإصابات، والقذارة الضارة التي تراكمت في المنطقة المنكوبة، ولأن تسرد بتفصيل محنة المشي عندما تكون نازفاً وضعيفاً.

ما تمكن الفيلم من نقله بشكل ممتاز هو الجهد الهائل في القيام بأي فعل، أو بالسفر، أو التواصل، أو حتى في الحصول على المساعدات الطبية، حين تكون المرافق الحديثة التي نراهن عليها لتوفير كل ذلك بعيدة عنا تماماً، كما بدا تسلق شجرة صغيرة أمراً صعباً جداً لماريا.

الممثلان ماكغريغور وواتس قدما دوريهما بشكل متقن ورائع، وربما قدما الأداء الأفضل لهما على الإطلاق، واتس استطاعت أن تصور الآلام التي شعرت بها الطبيبة ماريا وخوفها ورغبتها في النجاة حتى شدة الإرهاق الذي شعرت به تمكنت واتس من إيصاله للمشاهد.

لكن الأداء الذي لفت الأنظار في هذا الفيلم كان أداء الصبي توم هولاند البالغ من العمر 16 عاماً، وهو هنا يظهر نجماً في أول أدواره على الإطلاق. يلعب توم دور لوكاس الابن الأكبر للزوجين، والذي يقدم الدور الأكثر حيوية وأهمية في الفيلم، حين تجبره جراح والدته الخطيرة على أن يصبح والداً لها.

أداء توم المذهل والتعبيرات التي ملئت وجهه المليء بالجراح حولا دور لوكاس من مجرد دور لصبي كان يفترض أن يصور على أنه قديس، إلى صبي يمتلئ عزيمة وصلابة، تمكن من أن يبقي طوفان العواطف، التي يمتلئ بها الفيلم، قائماً.

الوسط البحرينية في

26/01/2013

 

البؤساء..

فيلم ملحمي عن الحُب والثورة وأشياءً أخرى

كتبهدعاء رجب  

"بس دا فيلم غنائي" هكذا بدأ موظف التذاكر في السينما حديثه معنا، بعد أن طلبنا منه تذكرتين لفيلم البؤساء "Les Miserables"، سألته إذا ما كان قد واجه مشاكل مع مشاهدي الفيلم من قبل، تدفعه للحرص على تبليغ كل زائر للسينما بأن الفيلم غنائي، رغم وجود مُلصق كبير على بوستر الفيلم بالسينما مكتوب عليه "فيلم موسيقي"، قال أن عدد من الجمهور قد خرج قبل انتهاء الفيلم، وأحياناً بعد بدايته بقليل مستائين ومتفاجئين "ان الفيلم طلع غنائي !"، حسناً، أحب أن أقول لهؤلاء، لقد "فوتّم" على أنفسكم  متعة لا نهائية، لذا نقدم تعازينا.

حقيقةً لا أعرف إذا كان من الأفضل أن اعد الفيلم ضمن قائمة أفلامي لعام 2012، كونه من إنتاج العام الماضي، فاصفه ربما بأفضل أفلام ذاك العام، أو أعده ضمن قائمة 2013، لأنني شاهدته فيها، فاعتبره وقتها خير مبُشر بعام سينمائي جديد، وفي كلا الحالتين لن أبخل أو أبالغ إذا وصفت الفيلم بالملحمي، الذي سيبقي على ما اعتقد علامة سينمائية راقية ورائعة تصل حد الكمال.

تناول المُخرج توم هوبر في تحفته السينمائية الجديدة، الرواية الشهيرة للروائي العظيم فيكتور هوجو البؤساء، والتي تحكي عن السجين جان فالجان، الذي امضى 19 عاماً في السجن بعد سرقته لرغيف خبز، وبعد إطلاق سراحه بشكل مشروط يضطر هو لخرق هذا الإطلاق، ليبدأ حياة جديدة في ظل مُطاردة مستمرة من قبل المُفتش جافير. الرواية سبق وتم تناولها في أكثر من عمل فني على مر التاريخ السينمائي، لعل أهمها على المستوى العربي فيلم البؤساء الذي قام ببطولته النجم فريد شوقي، أما على المستوى العالمي فكانت أبرز هذه الأقتباسات فيلم "Les Misérables" الذي تم إنتاجه عام 1998 للنجم ليام نيسون، وهو ما يجعل الأمر أكثر صعوبة على هوبر في اقتباسه للرواية، فمن المُقلق لأى مُخرج مهما بلغت درجة عبقريته أن يتناول عمل اُستهلك تماماً على المستوى الدرامي، وحتى بالنسبة للقاريء الذي يُقدس الكتاب المقروء فأنه ينتظر حتماً شيئاً جديداً مُبهراً، يجعله يُفضل ما يراه عن ما قرأه أو على الأقل يحبه بنفس القدر، وهو ما أزعم أن هوبر قد استطاع فعله في فيلمه الجديد، حيث قدم الرواية الدرامية الكئيبة في أغلب الأحيان، بشكل جديد، لم يسبقه إليه أحد على شاشة السينما على الأقل _ سبق وتم تقديم الرواية بشكل موسيقى في عدد من المسرحيات_ فقدم هوبر رواية هوجو في قالب غنائي موسيقى، قد تشعر معه وأنت جالس في قاعة السينما إنك تُشاهد أحد عروض الأوبرا أو برودواي، يُعزز هذا الشعور لديك مشهد الافتتاحية الذي يُغني فيه المجاميع أغنيه "Look Down"، ومشهد الختام الذي أحيا فيه هوبر أبطاله وهم يغنون "Do You Hear the People Sing" للجمهور، وكأنهم أبطال عرض مسرحي انتهي لتوه ووقف أبطاله يحيون المُشاهدين، وإغراقاً في الإقناع لجأ هوبر لتسجيل أغاني الفيلم بشكل مُباشر أثناء التصوير، وذلك على عكس المُعتاد، حيث يتم عادةً تسجيل الصوت في أحد الاستديوهات ثم يتم تركيبه على الصورة، لكن هوبر هُنا فضل أن يتم تسجيل الصوت أثناء التصوير من أجل إقناع أكثر.

الغرور

مثله هنا المُفتش جافير، وهو القانون، القانون بتعتنه وروحه الخاوية، القانون بكل صلفه وغروره، القانون الذي يفترض فيه المواطن، أي مواطن، تحقيق العدالة، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، إلا أن قانون جافير اعمي لا يرى سوى ما يُحب أن يراه، لا يسمع سوى صلابة رأيه وتحجره، يقتنع بفكرة واحدة ويظل متمسكاً بها حتى النهاية، حتى إذا كلفه هذا حياته.

الثورة 

الموت، دائماً يلعب الموت لعبته بدناءة، تنتظر منه شيئاً، تجدهُ يفاجأك بعكسها، تنتظر منه أن يُعاقب الشر، فيسرق الحسن، أن يُطارد الجبان، فيقف في مواجهة الشجاع، يقطف دائماً ورد الجناين ولا يبالي، لكن على ما يبدو فأن ورد الجناين لا يبالي بالموت أيضاً، يقف في مواجهته بصدر مفتوح، يبتسم كالمجذوب، ويتحدى كالفارس. وعلى أكتاف هؤلاء تقوم الثورات وتنتصر في النهاية، وحتى إذا لم تصل للمرفأ الأخير، فأنك حتماً ستتعلم من جافروش الفرق بين أن تُطالب بـالفتات، وأن تعرف حقك وتقتلعه بيديك، فـجافروش ومن مثله هم وقود الثورة، والجذوة التي لا تخفت.

ربما يكون أصعب ما واجه هوبر، هو اختيار أبطال فيلمه، فبجانب الأداء كان يتحتم وجود حد أدنى من المؤهلات الصوتية التي تفرضها عليه متطالبات الشخصية، والمؤكد أن هوبر قد أفلح في اختيار الممثلين، هيو جاكمان في دور جان فالجان كما لم تراه من قبل، أما راسل كرو فقد قدم شخصية المفتش جافير ببراعة كبيرة، الشخصية ظهرت طول الوقت تتحكم تتسلط، وتستبد، لكنها لم تخل من لحظات ضعف قليلة، كانت كفيلة لأن تُظهر عظمة أداء كرو للشخصية، حيث كان من السهل الانزلاق مع جفاء الشخصية، لكن هذه اللحظات الانسانية القليلة التي أظهرها عندما وضع نيشانه على جسد جافروش أو عندما اعترف أنه كان واحد من هؤلاء المساجين قديماً، أو في مشهد الختام لأدائه بالفيلم، كلها كانت بها لحظات ضعف لم تكسب تعاطف المشاهد صحيح، لكنها أنزلته ولو قليلاً من تركيبة المادية إلى التركيبة الإنسانية، وآن هاثاواي، تخطف الأنفاس بمشاهدها القليلة، تماماً كما وصفها هوبر في حديث له قبل عرض الفيلم.

الثلاثي أماندا سيفريد، سامانثا باركز وايدي ريدماين، قدموا أداء جيد جداً، بالأخص سامانثا باركز، والثنائي هيلينا بونهام كارتروساشا بارون كوهين، اللمحة الكوميدية الوحيدة في الفيلم، كانت مشاهدهم في الحانة عظيمة، وأدئهما أعظم.

مشاهد المُطاردات والمواجهة بين فالجان وجافير، هي المفُضلة لديّ، بجانب المشاهد التي يواجه فيها فالجان نفسه بعد سرقته للفضيات، وبعد أن يعلم أن شخصاً أخر تم القبض عليه بدلاً منه، جافير أيضاً كان له مشهدين تجدهُ فيها في مواجهة مع نفسه، وظف فيها هوبر حركة الكاميرا لتوحي أو تدل بشكل كبير على كبرياء الرجل وغروره، ثم مشاهد الثورة التي لا محال ستُذكرك بثورتنا، ليس فقط في الشكل، لكن في تخلى البعض عنك بدافع الخوف، ستجدها في مشاهد الدماء والنساء تحاول إخفاء معالمه، ستجدها في الشباب الذي أمن بثورته، وستجدها حتماً في قشعرات قليلة تُذكرك بشهدائك.  

أن تسمع تهدج أنفاس من يحيطون بك في قاعة العرض، أن تجد أناملك تتراقص مع كل نغمة، أن تخرج من دار العرض مُنتصر الروح، كلها فؤائد لا تفوتوا الفرصة على أنفسكم لمعايشتها، فالأفلام العظيمة لا تتكرر كل يوم.

موقع "السينما" في

26/01/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)