كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

هند رستم .. الجسد المكتفي بذاته

بقلم: شريف صالح

عن رحيل ملكة الإغراء في السينما

هند رستم

   
 
 
 
 
 
 

تمر هذه الأيام الذكرى الرابعة للفنانة هند رستم التي رحلت في الثامن من أغسطس 2011 عن ثمانين عامًا تقريبًا. فهل نستطيع أن نعيد قراءة مشوارها الفني في ضوء جسدها؟

إن الجسد ليس حضورًا بيولوجيًا محايدًا وإنما هو دائمًا جسد ثقافي محمل بالإشارات والعلامات الجديرة بالقراءة والتأمل. ولعل أول سؤال يطرح نفسه: كيف تشكلت هوية جسد هند رستم؟

في حي محرم بك في الإسكندرية المدينة الكوزموبوليتانية التي عاش فيها المتمصرون من ذوي الأصول التركية والطليانية واليونانية والأرمينية، ولدت هند حسين مراد رستم، لأب من أصول تركية، عمل في الشرطة حتى وصل إلى رتبة لواء. وتلقت هند تعليمها في مدارس سان فانسان دي بول.

فنحن إذن أمام جسد في جيناته الكبرياء التركي، أرستقراطي النشأة والثقافة، جسد أشقر لا يخلو من امتلاء، أي نصف شرقي نصف غربي. جسد كوزموبوليتاني مثل مدينتها.

في أحد حوارتها تشير هند إلى أن أول سؤال وجهه إليها المخرج عز الدين ذو الفقار ـ أحد مكتشفيها: هل أنت أجنبية؟ كانت فتاة دون الثامنة عشرة، تملك جسدًا ربما يفوق سنها، ويتميز بمواصفات جمال لا تتمتع بها المصريات عادة. فمن الواضح أن مواصفاتها الأوروبية المثالية هي التي لفتت انتباه عز الدين ذو الفقار من بين بقية الفتيات الطامحات للعمل في السينما، وكان آنذاك يعمل مساعدًا للمخرج محمد عبد الجواد الذي أسند إليها دور كومبارس لا يزيد عن إلقاء جملتين في فيلم "زهور وأشواك" عام 1947.

إذن كان الجسد الأشقر، المميز والمهجن والمختلف، هو جواز مرورها إلى شاشة السينما. وهو نفسه كان السبب في حصولها ـ لاحقًا ـ على لقب "مارلين مونرو الشرق". وإن كانت في رأي أكثر جمالًا في مواصفاتها وملامحها من مارلين التي تفوقها في الجاذبية وخفة الظل.

موهبة متعثرة

لا توجد إشارة في موقف عز الدين ذو الفقار إلى أداء تمثيلي ولا اختبار معين، وكأن الكاميرا لا تحتاج أكثر من جمال وجهها ورشاقة قوامها. ومن المؤكد أنها لم تكن الشقراء الوحيدة التي عرفتها السينما المصرية، لكنها على الأقل هي الأشهر، وربما تكون الشقراء الوحيدة التي صنعت تاريخًا فنيًا يعتد به.

لكن الجمال الخام لن يكون كافيًا في مهنة حساسة ومعقدة مثل السينما، وهو ما يفسر لنا كيف أن مطربة وممثلة مثل شادية التي تنتمي إلى نفس عمرها تقريبًا والتي ظهرت معها كمغنية في الفيلم ذاته "زهور وأشواك" سرعان ما أصبحت بطلة تمثيلًا وغناء في فيلمها الثاني "العقل في أجازة" بعد أشهر قليلة، وفي العام التالي لعبت شادية بطولة "الروح والجسد" بينما ظهرت هند في مشهدين فقط.

وهكذا أصبحنا أمام نجمة حلت سريعًا محل ليلى مراد وأثبتت جدارتها لتمتعها بثلاثة عناصر مهمة: الموهبة الغنائية والبراعة في التمثيل وخفة الظل. مقابل الظهور الخافت والخجول جدًا لهند رستم التي تفتقر تقريبًا لهذه العناصر الثلاثة.

وأفضل ما يلخص تعثر بدايتها، إن لم نقل محدودية موهبتها، أنها ظهرت عام 1949 بعد عامين من التمثيل والظهور في أكثر من خمسة أفلام أنها رضيت أن تلعب دور كومبارس صامت في "غزل البنات" أحد أشهر أفلام السينما المصرية، مجرد فتاة جميلة تظهر كديكور في أغنية "اتمخطري يا خيل" إلى جانب خمس فتيات مجهولات كن على الأحصنة حول بطلة الفيلم ليلى مراد.

وحتى بعد مرور عشر سنوات على عملها في السينما، التقت مرة أخرى مع شادية في فيلم "أنت حبيبي" ليوسف شاهين، الذي يلخص كل شيء، هند في دور ثان أمام شادية المتوهجة تمثيلًا وغناء، وفي أغنية "زينة" الشهيرة لا تقارن موهبة هند المتواضعة في الرقص بموهبة شادية في الغناء.

الثقة في الجسد

وإن لم تكن البداية واعدة لكن من الواضح أن هند رستم كانت تثق تمامًا في جسدها وأن كاميرا السينما حتمًا سوف تنتبه إليها، ولن تظل إلى الأبد مثل عشرات الشقراوات اللواتي كن يظهرن في بارات الأفلام والتابلوهات الاستعراضية.

ومع ثورة يوليو التي غيرّت اتجاهات السينما المصرية وجاءت بمطربيها ومخرجيها، علت أسهم هند. والمفارقة هنا أن الثورة التي كانت تنظر بعين الارتياب للمتمصرين إلا أن هند رستم تضاعفت حظوظها وشاركت في "رد قلبي" أكثر الأفلام تعبيرًا عن العهد الجديد. وخلال عقدي الخمسينيات والسستينيات انفتح لها الباب الملكي للتعاون مع مخرجين كبار مثل صلاح أبو سيف في "بين السماء والأرض" و يوسف شاهين في "بابا أمين" و"باب الحديد" وأحمد بدرخان في "سيد درويش"، وفطين عبد الوهاب في "إشاعة حب".

لكن يكفي النظر إلى عناوين معظم أفلامها: جحيم الغيرة، اعترافات زوجة، حب في الظلام، بنات الليل، بنات حواء، الجسد، توحة، فطومة، قبلني في الظلام، حب في حب، نساء وذئاب، ملكة الليل، هو والنساء، مدرستي الحسناء، والجبان والحب. كي ندرك غلبة الطابع التجاري، والاستغلال المتكرر لجسدها.

ولأن المخرجين والمنتجين راهنوا مثلما راهنت هي، على هذا الجسد الذي لا يستطيع تجاوز عمره الافتراضي على الشاشة، كان من الطبيعي أن تكون هند رستم أول نجمة في جيلها تعلن اعتزالها وهي دون الخمسين من عمرها، وعاشت أكثر من ثلاثين عامًا بصفة "فنانة معتزلة"، فالأعمال التي قد تسند إليها في تلك السن سوف تتطلب منها ما هو أكثر من جسد لم يعد جميلًا. بل هي ذكرت أنها أعلنت عن رغبتها في الاعتزال عندما تبلغ "الأربعين" سن النضج لأي ممثل. وهي بالفعل توقفت أربع سنوات قبل أن تعود وتقدم آخر أفلامها "حياتي عذاب" 1979

لقد فضلت أن تحتفظ بحضور جسدها الأيقوني كرمز للجمال والإغراء، في عيون جمهورها. أي أن جسدها فرض عليها معادلاته دائمًا في اختيار أدوارها مثلما فرض عليها قرار الاعتزال.

هي لا تتصور نفسها في دور أم أو جدة، أو بطلة مسلسل ديني باللغة العربية الفصحى.. وليس لديها أي تجربة مسرحية تثبت موهبتها التمثيلية، بل إنها اعترفت أنها عام 1950 في بداياتها تقريبًا شاركت في مسرحية وحيدة بعنوان "أوديب" كانت تعتمد على التمثيل باللغة العامية فضحك الجمهور وسخر منها ، ووصل الأمر بالبعض أن قذف ما في يده على المسرح فقررت بعد هذا العرض ألا تقوم بأي بطولات مسرحية.

وكان هذا الموقف مؤشرًا أن حضورها كممثلة على الشاشة سوف ينتهي مع نهاية العصر الذهبي لجسدها. وهذا ما حدث.

تلوين وتطويع

على مستوى آخر، وامتدادًا لثقتها في جسدها، سعت هند إلى تطويعه والتلوين من خلاله، وليس من خلال موهبة التمثيل المحدودة نسبيًا، بمعنى أنها حاولت أن تقدم جسدها في كل حالات الأنثى، تعيد اكتشافها مهما صغر حجم الدور، فهي الفتاة الأرستقراطية، والمعلمة، والفتاة الشعبية، والمرأة اللعوب، والعشيقة، والراقصة، والخائنة، والأرملة.. تنويعات لا حصر لها لتجليات الجسد، أكثر منها للدور. بمعنى أنها لن تقدم رقصًا يفوق ما تقدمه تحية كاريوكا وسامية جمال.. ولن تجسد أفضل أداء ممكن للفتاة بنت الطبقة الوسطى أفضل من فاتن حمامة.. ولا الفتاة الشعبية أفضل من سعاد حسني.. لكنها في كل أحوالها ستقدم أداء "مقبولًا" يشفع له جسد حاصل على الامتياز. ففي "باب الحديد" جسدت "هنومة" أشهر أدوارها، ولولا براعة يوسف شاهين ما كنا لنصدق أنها فتاة شعبية تبيع "الكولا" في القطار، وتصبح في الوقت ذاته الفاكهة المحرمة لعيون ركابه الغرباء.

عائق ملكة الإغراء

لقد كان الجسد رأسمالها السينمائي، لكنه في الوقت نفسه كان العائق أمام تعميق وتطوير تجربتها التمثيلية، فهي تراهن عليه قبل أي شيء آخر. وإن عجزت عن التحرر من طبيعته الأرستقراطية الكوزموبوليتانية.

فكان يبدو أنها تبذل جهودًا مضاعفة لتبثت جدارتها بلقبها الآخر "ملكة الإغراء".. ورغم ما يقال عن إغرائها "النظيف" و"غير المبتذل".. إلا أن الإغراء ذاته يتطلب أحياًنا حركات وغمزات وتعبيرات ـ مبتذلة ربما ـ وخفة ظل، ومسحة غموض، وشيئًا وحشيًا.

لكن إغرائها "النظيف" لم يكن قرارًا واعيًا بقدر ما هو تعبير عن جسدها المقيد بأطره الثقافية.. بطبيعة تعليمها وجيناتها التركية وعلاقتها مع أبيها الضابط الكبير.

فلا أظن أنها تميزت في تلوينات الإغراء مثل مثل ناهد شريف بوعيها الشعبي المبتذل أحيانًا وجسدها المصري الخمري، ومثل شويكار بمعجمها اللغوي وتأرجحها بين الشعبي والأرستقراطي، ولا ميرفت أمين بمسحة الغموض في حضورها الجسدي الموارب.

كان جسدها بمثابة قالب رائع التكوين لكنه بحاجة إلى عيب بسيط.. نقص مغوٍ. فنزعتها الأرستقراطية أبقته جسدًا متعاليًا لا يتدنى لإثارة الجمهور، ولا يملك مساحات غامضة ولا حركات همجية. جسد مترفع، صريح، وفاتر. صحيح هو "أيقونة" عن جدارة، لكنه أيقونة جميلة في ذاتها، مكتفية في ذاتها، ولا ترغب صاحبته في أن تضيف إليه شيئًا، وإن فعلت تبدو إضافتها متكلفة ومرتبكة. فهي "ملكة الإغراء" ربما، لكنه الإغراء السطحي، إغراء التابلوه الجميل الخالي من أي تعقيدات أو توابل.

دمية المخرجين

تقريبًا عملت هند رستم مع كل المخرجين، فكان تتألق مع الأسماء الكبيرة المعروفة، أو يتم استثمار جسدها في تجارب تجارية نوعًا مع مخرجين لم يتركوا بصمة تذكر. بمعنى أنها "دمية" مخرج تتشكل حسب ما يصنعه هو. وهي هنا تختلف عن ممثلة من جيلها مثل فاتن حمامة التي لا تقبل العمل مع أي مخرج.

واللافت أن هند رستم شاركت في جميع الأفلام السياسية والاجتماعية والغنائية والكوميدية، لكن هذا التنوع لم يكن تعبيرًا عن حجم موهبة كبيرة بقدر ما كان معبرًا عن أقصى توظيف ممكن لجسدها.

لهذا السبب، وعلى عكس ما يحدث مع النجمات الأخريات، فمثلا شادية وصلت إلى البطولة واستمرت بطلة، نلاحظ أن لهند مسيرة مزدوجة ومتذبذبة، فهي تظهر أحيانًا كبطلة رئيسية وأحيانًا أخرى أقرب إلى السنيد للبطل، وضيف الشرف، وربما كومبارس بعد بطولة. ولنتذكر مثلا مساحة أدوراها في أفلام إسماعيل يس مثل "ابن حميدو" و"إسماعيل يس في مستشفى المجانين" ليست أكثر من فتاة حلوة ـ أو في "إشاعة حب" أمام عمر الشريف وسعاد حسني، وفي هذا الفيلم تحديدًا لا توظف جسدها المشتهى فقط بل وشخصيتها الحقيقية ك "فنانة إغراء" يشتهيها الرجال.

حتى في أفلامها المتأخرة نسبيًا والتي يفترض أنها جاءت بعد نضج وشهرة مثل "الزوج العازب" و"كلمة شرف" وكليهما أمام فريد شوقي، نجد أنفسنا أمام بطلة تتراجع لا شعوريًا عن البطولة.

أمام بطولة متذبذبة لا تحافظ على مكان الصدارة، وممثلة لا تملك الذكاء الكافي لاستثمار نجاحها وشهرتها، وتدرك واعية أو غير واعية، أن حضور جسدها يفوق حضور موهبتها. فلا غرابة أن تظهر في أدوار كان بإمكان أي ممثلة أخرى أن تؤديها.

ومن بين كل المخرجين الذين قدمت معهم نحو ثمانين فيلمًا، كان حسن الإمام الأكثر إيمانًا بجسدها، منذ أن تعاون معها في "الملاك الظالم" عام 1954 ثم أخرج لها "بنات الليل" الذي كتب من أجلها، وتقريبًا شكل ثنائيًا معها في حوالي عشرة أفلام أهمها "الراهبة" و"شفيقة القبطية" وإن كان من الصعب أن نتصور شفيقة القبطية في جمال هند رستم، أو أن يكون رقص هند رستم في عبقرية رقص شفيقة.

خارج الكادر

يتسق هذا التحليل لجسد هند رستم على الشاشة، مع طبيعة جسدها في الواقع أو "خارج الكادر" فهي ظهرت ككومبارس في فيلم "خيال امرأة" للمخرج حسن رضا عام 1948 ثم منحها الرجل مساحة لا بأس بها في فيلمه التالي "العقل زينة" عام 1950، وبالطبع انتبه حسن إلى جمالها منذ اللحظة الأولى، فتزوجها وأثمر هذا الزواج ابنتها الوحيدة "بسنت". ومن المؤكد أنها رأت في زواجها حلًا مثاليًا يحقق لها حلم الاستقرار والأمومة وفي الوقت نفسه وبصفته مخرجا يكبرها بعشر سنوات سيكون أبًا روحيًا لها.

ورغم فشل الزيجة، لكنها وعلى عكس نجمات هذا الزمن لم تخض تجارب وغراميات ولا زيجات فاشلة، بل سعت إلى زيجة ثانية وأخيرة من طبيب النساء المعروف محمد فياض وكانت زيجة مستقرة حتى وفاته قبلها بنحو عشر سنوات، ولم تثمر أطفالًا. أي أن التحفظ الذي مارسه جسدها على الشاشة، مارسه أيضًا في الواقع.

تحليل مشهد

وختامًا سنحاول أن نقدم تحليلًا عمليًا لأحد أشهر المشاهد والرقصات التي قدمتها هند رستم خلال مشوارها، وذلك في فيلم "صراع في النيل" لعاطف سالم.

الأغنية كتبها مرسي جميل عزيز، بروح تمزج ما بين أناشيد "الفواعلية" والغربة والتصوف ويكفي أن نقرأ : "يا مسافر بين ضلمة ونور.. يا مبحر ومعدي جسور"!

ولحنها محمد الموجي، فلم يتعامل معها كأغنية إيقاعية خفيفة، بل وظف الآلات الشرقية باقتدار منها "الناي"، ليشع الدفء والشجن أكثر من الإيقاع الراقص، كما فتح مساحة للمطرب لإبراز قدراته، بمصاحبة كورال رجالي خشن أضفى مصداقية وقيمة تعبيرية تضاف إلى اللحن وأجوائه الدرامية، وكأننا بالفعل أمام أغنية عفوية لعمال وبحارة.

بصرياً تبدأ الأغنية التي مدتها حوالي خمس دقائق، بلقطة بعيدة ل "المركب" يتهادى في النيل، مع الاستهلال الموسيقى، قبل أن يظهر محمد قنديل في لقطة متوسطة وهو يعزف على الناي، في ملابس البحارة.

حضوره في مقدمة الكادر يؤسس لكونه "بطل الأغنية" رغم أن دوره هامشي جداً في الفيلم نفسه. بعدها وعن طريق القطع الموازي والذي لا يخلو من دلالة درامية، يرينا المخرج عاطف سالم بطل الفيلم رشدي أباظة وهو يخرج من "الخُن" ثم يختفي ثانية، بعدها تظهر هند رستم من "خن" آخر مجاور، وفقاً لمقولة "إن غاب القط العب يا فأر".

تصعد بليونة إلى سطح المركب، بوصفها بطلة "الأغنية/الفيلم". وأهم ما يميز خروجها، تلك الطريقة الأفعوانية الملتوية في إبراز جسدها، فهي أولاً تطل برأسها ثم بقية جسدها، وطيلة الأغنية ستظل الكاميرا مشغولة باستعراض مفاتنها، مع التركيز على رجليها وخلخالها، في لمحة فيتشية واضحة!

يصعب وصف أدائها بأنه "رقص"، فهو أقرب إلى التمايل والخفة والدلع، وحركتها تكاد أن تكون بطيئة Slow motion ومثلما يبدو جسدها غريباً على الرقص، فهو أيضاً "لا منتمي" إلى إرث "غازية الموالد" ـ الدور الذي تجسده في الفيلم ـ على مستوى التكوين والملامح والماكياج وتسريحة الشعر، وحتى الفستان الذي ترتديه.

فبنظرة من بعيد، سيبدو جلياً أن رقصها، وحضورها الجسدي، لا علاقة لهما بأجواء "المركب" ولا طبيعة الأغنية، ولا الشخصية التي تؤديها، بل هي أقرب إلى "فوتوشوب" حركي جميل مقحم على الأغنية أدائياً وبصرياً.

إن جمالها الحاضر هو جمالها المكتفي بذاته ـ كما أشرنا ـ أيقونة مارلين مونرو الشرق التي لا علاقة لها بأداء درامي أو تعبيري. مع ملاحظة أن الجسد عندما يحضر في أغنية، لا يحضر بحيزه المكاني فحسب، بل يجلب معه تاريخه أيضاً، فجسد هند رستم لا يمثل "غوازي الموالد" ولا الفتيات الشعبيات، بل يمثل الأرستقراطية المصرية المهجنة، بشعرها الأشقر وبياضها وتكوينها.

هذا أمر لا يعيبها، بقدر ما يشير إلى أنها لا تستطيع أن تنفصل عن تكوين جسدها وتاريخه الثقافي، كفتاة أرستقراطية، وهو ما كان يعوقها في كثير من أعمالها.

وهنا في أغنية "هونها"، لم يهتم الموجي كثيراً بالإيقاع الصاخب والراقص لمقام البياتي، رغم إمكانية ذلك، ربما لإدراكه أن موهبتها في الرقص لن تسعفها، أو لرغبته النرجسية كملحن في الحفاظ على دفء وشجن الأغنية، كعمل مسموع، خالد بذاته، بمعزل عن رقصها المؤقت.

وبينما انشغلت الكاميرا بقراءة جسدها، فإنها قد تجاهلت الحضور الجسدي لبطل الأغنية الذي كان يختفي أحياناً وراءها، أو يظهر بصوته فقط.

وإذا كانت هي نموذج للأنوثة البورجوازية المصرية، فإن قنديل على النقيض منها يفتقر لأدنى مقومات الوسامة، بسمرته وبدانته، ويعبر جسدياً عن انتمائه الشعبي.

إذاً نحن لسنا أمام تناقض صارخ بين النموذج الجسدي للراقصة والنموذج الغنائي للمطرب.. بين فضاء المركب وطبيعة الرقصة.. بين مواصفات جسدها وطبيعة الدور الذي تلعبه. بل هو أيضًا تناقض مضمر بين طبقتين من طبقات المجتمع المصري. وإن كان الاثنان يشتركان في ضعف موهبة التمثيل، عوضته هند بجمالها، وعوضه قنديل بجمال صوته.

ولا ننسى مفارقة مهمة أسسها المخرج عاطف سالم، فهو لم يقدم الأغنية ككتلة منفصلة على عادة معظم الأفلام الغنائية، بل وظفها درامياً، فاللقطات التي ظهرت فيها هند وغريمها رشدي أباظة، وحبيبها الولهان عمر الشريف، كانت تقول لنا معنى درامياً، موازياً للمعنى الترويحي للأغنية ذاتها.

ثم إن هناك مفارقة أخرى بين كل ما كان يدور على المركب من دراما وغناء ورقص، وبين حركة الريح ومياه النيل، حيث يندفع المركب "عروس النيل" شيئاً فشيئاً إلى أن يصطدم بضفة النهر، فنسمع ونرى في نهاية الأغنية ارتطام الأواني وتكسر الفخار وسقوط "الغازية" والجميع على الأرض.

هل تلك المفارقات، هي التي شكلت جمال الأغنية، صوفيتها وحسيتها، عذوبتها ودراميتها؟ ربما.. لكن ثمة تناقض أخير، جدير بالانتباه، فالكاميرا على المستوى البصري كانت مشغولة بجسد هند رستم وحركتها، بينما صوت قنديل برقته وشجنه وعذوبته، كان ينتشر ويتغلل في فضاء المركب والنيل، ويحيط بفضاء المتفرج ذاته، بما يملكه الصوت عموماً من قدرة على الانتشار والإحاطة بنا من كل جانب.

وفي هذه المواجهة تحديداً ينتصر طغيان وانتشار الصوت الجميل على طغيان الجسد الجميل.

 

المشهد المصرية في

19.08.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004