كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

عازف منفرد توفي والده وهو صغير فنشأ بعيداً عن منطق السلطة

عمر أميرالاي: الإنسان العادي والنكرات ضحايا السياسات

جو معكرون

عن رحيل شيخ مخرجي سوريا

عمر أميرالاي

   
 
 
 
 
 
 

في أواسط شهر أيار من عام 2006، كان لدي فرصة لقاء المخرج السينمائي عمر أميرالاي خلال زيارة قام بها الى نيويورك. عرض اميرالاي في حوار وجداني وجهة نظره حول الحياة والسينما والموسيقى والوطن السوري. نشرت حينها جزءا صغيرا من هذا الحوار والجزء الآخر بقي في الادراج. نستأذن عائلة عمر اميرالاي ومحبيه، لنشر هذه التحية له.

الصفاء والحزم يتعايشان فيه، متحفظ بانفتاح، ناقد لاذع لكل ما يدور حوله وفيه، الحزن في عيونه راق والحياة عنده بكل تفاصيلها مسألة شخصية. يقارب السينما السورية بحميمية كأنها قبيلة لها دستورها وأدبياتها التي لا تقبل التأويل والانحراف ولا تخضع لإملاءات السلطة أو رغبات الجمهور.

في صباح بارد على ضفاف «السنترال بارك» في مانهاتن، كان الموعد مع عمر اميرالاي، قبل يوم واحد من عودته الى دمشق. يروي بسرور عن ليلته الماضية في كنف موسيقى «البلوز»، ينتقد السينما المصرية ببعدها الاستهلاكي، ويعود بالحديث عن دمشق وعسكرها. تحتار من تسأل فيه، فالحدود بين المعارض والسينمائي عنده تحتاج الى ترسيم.

يعتبر أميرالاي نفسه مشاهداً كسولاً يتابع الاعمال السينمائية بالصدفة، لكنه في المقابل يسعى قدر الامكان الى متابعة المسلسلات الاميركية، البوليسي منها خصوصاً، الرديئة والجيدة على حد سواء. وما يدهشه في هذه التجارب الدرامية توثيقها الواقع الاميركي، بحيث تعكس تنوّع المدينة وناسها. وبهذه الطريقة كوّن صورته الخاصة عن نيويورك، التي زارها للمرة الاولى عام 1992، «صورة نسجتها من خيالي بغض النظر عن مدى صحتها». فهذا المخرج الذي يبحث دائماً عن حقائق الامور، يترك العنان لمخيلته في العلاقة مع المدن.

عن الاحداث السياسية الكبرى التي تأثر بها، يجزم انها حرب 67 وبعدها ثورة الطلاب في باريس عام 1968 حين تشكّلت هويته اليسارية والتزم العمل السينمائي كوسيلة تعبير «على متاريس الحي اللاتيني». ويعترف انه لا يعتقد بمنطق السلطة، «والدي توفي وأنا في سن مبكرة، فنشأت حكماً بغياب مصدر السلطة هذا».

عالمان

يصف العلاقة بين النخب العربية والغربية بأنها علاقة تحكمها طبيعة النظام العالمي، مجتمعات متقدمة تنتج حضارتها ومعرفتها ومجتمعات تابعة أو مستهلكة. فالمثقف الغربي، على حد قول اميرالاي، لا يفهم عدم قدرة المثقف العربي على القيام بدوره الطبيعي في تطوير مجتمعه في ظل قيود النظام العربي. ويعتبر ان هذا التفاوت الجوهري، بين «عالم قاطر وعالم مقطور»، سيبقى على ما هو عليه حتى نقوم بثورتنا الداخلية التي «تطيح حثالتنا الحاكمة» وتفتح قدراتنا الهائلة على العلم والمعرفة. وأعتبر الفن مجالاً مفتوحاً لالغاء الحدود بين المجتمعات لأنه لا يتأثر كثيراً بهذا التفاوت الحضاري باعتباره مخزون تاريخي مشترك في المعرفة والثقافة والفنون، ما يمكّن المبدع العربي من انتاج اعمال تنتمي الى معايير معاصرة بعيداً عن ضوابط الواقع العام وخصوصية المجتمع الذي ينتمي اليه. يقول اميرالاي ان الحداثة عنده كانت أشبه بمعادلة رياضية مجردة ورقمية لوسائل الانتاج وتعميم الخدمات والسدود والمراهنة على الآلة، بينما اليوم الحداثة بالنسبة له هي المراهنة على وعي الانسان وكرامته.

يقول اميرالاي عن السينما السورية بأنها متميّزة في بعض جوانبها عن مستوى تطور المجتمع السوري وهي صنيعة مجموعة من السينمائيين حققت تحصيلها العلمي في اوروبا الشرقية. وبما انه لا يوجد ارث سينمائي سوري، تحررت هذه المجموعة اليسارية الهوى من أي سياق سابق وتمكنت من وضع اسس لحالة سينمائية واعدة، على حد قوله. وساعد في هذا الاطار وجود ادارة غير موالية للنظام الجديد على رأس مؤسسة السينما بين عامي 1970 و1973، فيما كانت الحركة التصحيحية مشغولة في تثبيت أولى خطواتها. وبقيت هذه الادارة متواطئة مع السينمائيين تفتح لهم مجال التعبير بدون رقابة أو شروط في مرحلة وصفها أميرالاي بـ«السائبة»، وكان يجب انتظار نهاية حرب 73 حين تأكد النظام الجديد من استقرار أوضاعه ومن إحكام قبضته على الامن والجيش وصار بإمكانه الالتفات الى ضبط مؤسسات الدولة المدنية، ومن بينها مؤسسة السينما. يعتبر اميرالاي ان هذه الفترة التأسيسية في عمر السينما السورية كان فيها عناصر تنوّع وكانت كافية لوضع هذه الصناعة على سكة العلاقة النقدية مع المجتمع والسلطة. ويرى أميرالاي انه لهذا السبب لم يتجرأ سينمائي سوري واحد، في ارشيف المؤسسة، على خرق هذه القاعدة وانتاج فيلم موال للسلطة «لأننا بكل بساطة نشكّل حالة ضاغطة وإرهابية على مثل هؤلاء».

عيون الناس

وعن انقطاع الربع قرن عن مقاربته الواقع السوري في اعماله، يقول اميرالاي انه كان يفتقد لجهوزية الانكباب على الحالة السورية بسبب ابتعاده عن بلده وبالتالي لم يرغب في إسقاط نفسه بالمظلة على واقع يعني له الكثير فيخطف منه صوراً وانطباعات قبل ان يعود ادراجه خلسة الى باريس. واعتبر خطوة كهذه «مبادرة دخيلة لا تشبهني وتركت الزمن يقرر التوقيت المناسب» لعمل فيلم عن سوريا، وكان هذا في عام 2002 أي بعد عشر سنوات من عودته الى دمشق في بداية التسعينات. وردّاُ على سؤال عن الموضوع السينمائي الذي يتمنى مقاربته، يقول اميرالاي ان حدسه يملي عليه دائماً نوعية القرار وتوقيته، ويروي كيف كان على وشك دخول الكلية الحربية في سوريا ليخدم في قوات المغاوير، لكنه توجه بعدها الى كلية الفنون التشكيلية في دمشق. وقال انه متمهّل في طبعه ولا يتسرّع رغبة بالشهادة أو يتهافت ليكون حاضراً في اللحظة المصيرية، ويضيف بأن المبدع الحكيم هو القادر في لحظة التحولات الخطيرة التي تمر فيها بلاده ان يأخذ مسافة من الاشياء التي تعنيه.

عن اسلوبه السينمائي، يقول اميرالاي انه يحب ان يرى الحدث من عيون الناس العاديين مثل سائق التاكسي أو بقال الحارة، لأن هذه التحوّلات تمسّهم كما تمس النخبة. ويحب ان يرى الاشياء بعد عبور العاصفة، حينها «لكل حادث حديث». ويضيف اميرالاي «أعبد الانسان العادي وأتعاطف مع الناس النكرة، هم دائماً وقود الآخرين وضحايا السياسات». ويستطرد «أشعر بضرورة اعطاء الكلمة لهؤلاء الناس وفضح الطريقة التي ينظر بها الحكام والنخب اليهم»، وبأنه ينجذب الى قدرة هذا الانسان العادي على ابداع الحكايات والقصص اليومية. وردّاً على سؤال حول طبيعة رؤيته السينمائية بعد سبعينيات الثورة وثمانينيات الوجدان وتسعينيات السيرة الذاتية، يجيب اميرالاي انه في مرحلة الشيخوخة السينمائية بقدرتها على النظرة الشمولية والتأمل الفلسفي في علاقة المرء بدنياه وما بعدها.

ويرى أميرالاي انه في المراحل الانتقالية عند المجتمعات تتغيّر الظروف والمعطيات فيما تبقى النخب على حالها. ويدعو بالتالي النخبة السورية الى إعادة النظر بنفسها وواقعها وتجاربها لتقوم هي الاخرى بعملية اعادة تشكيل ذاتها كخيار محتمل لقيادة المجتمع. ويضيف «بما اننا في موقع المقاومة والمعارضة، نحن جزء من هذا النظام الذي ندّعي ادانته، ونحمي في مكان ما آفاته»، بسبب الاخطاء التي ارتكبتها المعارضة وبسبب غياب الحسّ الديموقراطي لديها. ويقول «انطلاقاً من استنتاجي لاسباب مأزق المعارضة في سوريا، أرى ان هذه المعارضة عاجزة عن طرح رؤية بديلة تؤسس لمرحلة قادمة». وعن موقعه في المعارضة السورية يجيب «انا عازف منفرد كالعادة»، وانه اختار ان يضع المثقف في مواجهة ومحاكمة مع ذاته العاجزة عن الخروج من مأزقها.

 

السفير اللبنانية في

10.02.2011

 
 
 
 
 

كان يستعد لإطلاق إغراء تتكلّم

عمر أميرالاي... رحيل مخرج السينما الفُراتيّة

بيروت - محمد الحجيري

رحل المخرج السوري عمر أميرالاي (67 عاماً) في دمشق على أثر جلطة دماغية كما قال البعض، وبدأت الشائعات تحاك حول هذا الرحيل، خصوصاً أنه أتى في يوم الدعوة الى «يوم الغضب في سورية»، الذي كان يوم استنفار للأجهزة الأمنية السورية.

الشائعات حول وفاة أميرالاي بديهية، وهو المشهور بمواقفه السياسية وأفلامه التسجيلية التصويرية الممنوعة في سورية، خصوصاً فيلمه «طوفان في بلاد البعث» الذي كان سبباً في القطيعة مع المؤسسة العامة للسينما، الجهة الوحيدة المنتجة للسينما في سورية. كذلك، كان هذا الفيلم سبباً في إغضاب السلطات السورية عند عرضه على إحدى القنوات التلفزيونية العربية.

كان أميرالاي يصوّر أفلامه بعين المثقّف النقدي، ولا يختار مواضيع عابرة بقدر ما يلحّ على أفكار لها تداعياتها في الوسط الثقافي والسياسي، وهو كان نموذجاً للسينمائي المتدفّق والسيال إبن الهويات المتعددة. قال عن نفسه: «أصلي عثماني من خليط قومي شركسي كردي تركي وعربي، وُلدت في الشام عام 1944 على مرمى حجر من مقام شيخنا الأكبر محيي الدين بن عربي، معطّراً بروحانيته مباركاً باسمه وكنيته، وقد عاهدت نفسي مذ صرت مخرجاً أن أنذر له ذبيحتين على روحه الطاهرة كلما رزقت فيلماً. واليوم في رصيدي نحو 20 فيلماً حققتها على مدى 35 عاماً في ممارستي مهنة السينما، طفولتي في ما بعد أمضيتها في حي الشعلان على بعد خطوات من المقرّ التاريخي لحزب البعث الذي صار اليوم دكاناً لبيع الألبسة الجاهزة، وفي بيت عربي متواضع كان أضخم ما فيه نوافذه العريضة المطلة على الشارع العام الصاخب بالحركة والناس، من خلال تلك النوافذ التي كان أخي الكبير يصلبني وراءها ليشغلني عن المطالبة بأمي الغائبة في الوظيفة تربّيت على الفضول وعلى حب الملاحظة وعلى تشريح الناس والأشياء ورصد تفاصيل الحياة اليومية للحارة والجيران، خصوصاً صاحب صيدلية الانقلاب الذي صرعه استقرار البلاد بعد قيام الحركة التصحيحية، طفولة مسترخية بامتياز أتيح لها الانشغال بالآخرين ومراقبتهم والتفرغ لقصصهم ما يدحض القول المأثور السخيف: «من راقب الناس مات هماً». أما والدي رجل الأمن النزيه الذي قضى نحبه شاباً على طريق دوما عام 1950 وهو يطارد المهرّب الأعور الشهير لورانس الشعلان، فقد أبى - رحمه الله - إلا أن يورثني صفارة الخدمة خاصته وشيئاً آخر أعتز به اليوم أكثر ألا وهو احتقار السلطة وأهلها من الساسة والعسكر من محترفي مهنة الأمر والنهي والتصرف بأحوال البلاد والعباد».

اللافت في سيرة الراحل السينمائية أنه كان يختار في أفلامه المواضيع «المحرمة»، هكذا جاء أول أفلامه «محاولة عن سد الفرات»، و»الدجاج» الذي صوّره عام 1977عن قرية صدد. ذكر أميرالاي عن هذا الفيلم: «لاحظت في صدد هذا التحول العجيب من ضيعة عريقة كانت معروفة بصناعة البسط، إلى دخول نمط رأسمالي صناعي هو تربية الدواجن». وأضاف: «اخترت أن أحكي عن البشر بلغة الحيوان، فذلك نوع من التعبير عن قهر المثقف، وعجزه عن إنطاق الناس». في الثمانينيات، قدم أميرالاي أفلاماً خارج سورية، مثل «مصائب قوم» عن الحرب اللبنانية، وفي مصر صوّر «الحب الموؤود»، و{العدو الحميم» عن المهاجرين العرب في فرنسا، وهذه جميعها من إنتاج التلفزيون الفرنسي. وفي التسعينيات انتقل أميرالاي إلى العمل على مجموعة من البورتريهات عن المسرحي سعد الله ونوس والمستعرب الفرنسي ميشال سورا والسياسي اللبناني رفيق الحريري والزعيمة الباكتسانية بناظير بوتو، وجاءت بمثابة تساؤلات حول المجتمع والحراك السياسي والتاريخي في المنطقة من خلال تصوير الأفراد وحيواتهم.

جهاد إسلامي

كانت لكل فيلم من هذه الأفلام تداعياته، فعندما ذهب أميرالاي لتصوير فيلمه عن بناظير بوتو لم يستطع الوصول إليها، فصوّره عن الطريق المقطوعة الى السيدة الباكستانية. وهو صوّر فيلماً عن صديقه ميشال سورا صاحب كتاب «الدولة المتحوشة» الذي اغتالته عام 1986 جماعة تطلق على نفسها اسم «الجهاد الإسلامي في لبنان».

في فيلم «الرجل ذو النعل الذهبي»، عرض أميرالاي لعلاقة المثقف بصاحب السلطة ورأس المال، تلك العلاقة الإشكالية المعقدة، وأظهر المثقفين مجموعة من المتآمرين يجلسون كالمخابرات في غرفة معتمة. وقد صوَّر أميرالاي العمل مع الراحل رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني السابق، فتابع محاولة صياغة وعي المواطن العربي عن طريق توصيف تلك العلاقة ومحاولة إظهار مَواطن الخلل فيها. وأظهر انتهازية الناس في تعاملهم مع رجل المال، وفي هذا الفيلم كان أميرالاي محايداً وتعرّض لانتقادات شديدة من بعض المقربين لأنه لم يأخذ موقفاً نقدياً من رجل المال، بل اكتشف من خلال تصويره الفيلم أن صورة هذا الرجل ليست كما يراها أهل الثقافة الغارقون بالأوهام والمثاليات وقراءة الكتب، على أن النظرة إلى فيلم أميرالاي عن الحريري انقلبت بعد اغتيال الأخير في 14 فبراير (شباط) 2005، فمنهم من وظّفه أيديولوجياً، ومنهم من اعتبر أن الأغتيال قتل الفيلم معه.

ولعل الذروة في تجربة أميرالاي السينمائية، كانت في فيلم «طوفان في بلاد البعث» الذي ينتمي بحسب النقاد إلى أسلوب «التحريض الدعائي»، الذي يستند إلى وسيلة مضادة للتهكم والسخرية من النظام الحاكم، وهذه الوسيلة مُستمدة من طبيعة النظام وآليته، والقائمة على مبدأ «من فمك أدينك». هذه الرؤية النقدية الحادة التي لا تعرف المهادنة، ولا تقبل التدجين، والترويض الفكريين هي التي جعلت من عمر أميرالاي أحد رواد السينما التسجيلية الهادفة في العالم العربي. وهذا الفيلم «يرصد عملية غسيل أدمغة الأطفال الأبرياء وتلقينهم شعارات البعث» أوضح اميرلاي، وتابع أنه أخرج فيلماً عام 1970 عن سد الفرات، وعندما انهار سد زيزون في سورية خطرت بذهنه تلك التجربة، وقرر أن يزور السد بعد 33 عاماً فوجد بحيرة وراء السد وكل الأوابد الأثرية، والقرى التي يعرفها، وتاريخ سورية القديم أصبح في قاع الغمر. وأضاف: «قررت أن أصور ما تبقى من القرية، وفعلاً صورت في قرية «الماشي»، إذ قدمتُ شخصيتين مختلفتين وهما شيخ العشيرة وهو نائب في البرلمان وشخصية ابن أخيه مدير المدرسة ومسؤول الحزب في القرية، وأكثر من نصف الفيلم يدور حول النظام شبه العسكري الذي يطبّق في المدارس السورية، والذي يخضع فيه الأطفال الأبرياء لعملية غسيل أدمغة، وتلقين شعارات «حزب البعث» إضافة الى نوع من تجريع المعلومات بالقوة والترديد».

في حوار صحافي قال أميرالاي: «لغة الفيلم «فوتوغرافية» فعلاً، لكن المراد منها حث المشاهد على قراءة ما وراء الشفاه والحركة والصوت. فالسوريون فاقدون، للأسف، ملكة النطق والتعبير الحر منذ صادرها منهم الناطقون باسمهم. ويكفي أن يتابع المرء مقابلات التلفزيون السوري مع الناس العاديين، وغير العاديين، ليصعق حيال حجم الدمار الذي لحق بلسان الفرد وبتعبيره، خصوصاً عند الشباب والأطفال». وحين عرضت قناة «العربية» الفيلم في ظروف سياسية متشنّجة، اعتبرت السلطات السورية العرض استفزازاً لها، واتّهم أميرالاي القناة بتعمّد عرض فيلمه «الطوفان» في «توقيت وسياق غير مناسبين»، جعلاه يصطدم بغضب السلطات السورية. فردت «العربية» قائلة إن «المخرج يحاول أن يرمي كرة النار التي سددت في وجهه من السلطات السورية في أي ملعب بعيداً منه، ولا مانع لدينا من أن تكون «العربية» كبش الفداء إذا أسعف ذلك المخرج في الخروج من أزمته».

بريجيت باردو

قبل وفاته، كان أميرالاي يستعد لإخراج فيلمه الجديد «إغراء تتكلم» الذي يتطرق إلى حياة النجمة السينمائية السورية المعتزلة نهاد علاء الدين التي أطلقت عليها صحافة السبعينات لقب «بريجيت باردو الشرق»، وحول مشروعه هذا قال أميرالاي: «بعد صمت طويل واعتزال مندد بمواقف ساسة ومديري الفن والسينما في سورية تجاهها؛ ستخرج إغراء إلى الوجود للحديث عن سيرتها السينمائية التي لن ترضي كثراً. هذه الفنانة النجمة التي انزوت لسنوات من دون تكريم أو اعتراف بدورها في الترويج للسينما السورية، لأن القيمين على شؤون السينما ينظرون إليها كممثلة أفلام تجارية. ومشروعي هو إعادتها بحقيقتها إلى الشاشة، فقد كان لهذه النجمة المفتونة بالفن السابع مشروع قاتلت لأجله لسنوات، وهو مشروع يتعارض مع الأمر الواقع والمفاهيم السائدة، وهي تملك من الجرأة التي تحسد عليها، وهي مثال للمرأة الحرة، وأعتقد أن مَن يتملقون جواريهم ويجلدون زوجاتهم لن يعجبهم هذا الفيلم».

أصرّ أميرالاي على صناعة الفيلم الوثائقي، وفي هذا السياق علّق في حديثه لقناة «الجزيرة»: «الفيلم التسجيلي لم يخذلني على مستوى التعبير ولا على مستوى علاقتي بالواقع، لأنّ الفيلم بالنسبة إلي هو نتاج عَرَضي لعلاقة جديدة أبنيها مع الواقع عند كل مشروع فيلم، والفيلم يأتي كمحصلة لهذه المغامرة الجديدة التي أرمي نفسي فيها في الحياة وفي اكتشاف الناس». حاول المخرج الراحل أن يصنع أفلاماً ووثائق بصرية عن الفترة التي عاصرها وعايشها. وكان مفصلاً مهماً في تاريخ السينما العالمية والعربية، وأدى دوراً مهماً كمثقف بعيداً عن الأنتليجنسيا التي يعيشها كثر من المثقفين والفنانين في العالم العربي. وقال ذات مرة: «أريد أن أعمل سينما فُراتية، سينما متدفّقة جارية غير ساكنة».

في الجانب الآخر، المباشر والعملي، من انحيازه إلى المعارضة الديمقراطية في سورية، كان أميرالاي أحد صانعي «بيان الـ99»، الذي أطلق أولى شرارات «ربيع دمشق»، واعتُقل ومُنع من السفر وصُودر جواز سفره.

سيرة

وُلد أميرالاي في دمشق عام 1944. درس الفن المسرحي في «مسرح الأمم» في باريس عامي 1966 - 1967، ثم انتقل إلى دراسة السينما في معهد IDHEC، ومنه التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنّه انقطع عن الدراسة بسبب أحداث الطلبة عام 1968.

أنجز أميرالاي أول أفلامه بعنوان «محاولة عن سدّ الفرات» عام 1970، ليحقق بعد ذلك أفلاماً عدة، من بينها:

الحياة اليومية في قرية سورية - 1974، الدجاج - 1977، عن ثورة - 1978، مصائب قوم - 1981، رائحة الجنة - 1982، الحب الموؤود - 1983، فيديو على الرمال - 1984، العدوّ الحميم - 1986، سيّدة شيبام 1988، شرقي عدن - 1988، إلى جناب السيّدة رئيسة الوزراء بناظير بوتو - 1990، نور وظلال - 1994، المدرّس - 1995، في يوم من أيّام العنف العادي، مات صديقي ميشيل سورا... - 1996، وهنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء 1997- ، طبق السردين - 1997، الرجل ذو النّعل الذهبي - 1999، الطوفان - 2003.

حل أميرالاي ضيفاً على مهرجانات عربية وعالمية عدة، وفاز بجوائز عالمية كثيرة.

 

الجريدة الكويتية في

09.02.2011

 
 
 
 
 

تُوفي عن 63 عاماً بعد حياة مهنية وثائقية معظمها في باريس

عمر أميرالاي صوّر رفيق الحريري ونادية الجندي ولولا ورثة أسمهان لكان صوّر شريطاً عالمياً عنها

بيروت - من محمد حسن حجازي

صحيح ان سورية حاضرة تلفزيونياً على المستوى العربي اكثر من السينما، وأن مخرجيها للشاشة الصغيرة اشهر من زملائهم في الكبيرة، الا ان السينما التي تتحرك بقوة حيناً ثم تهمد احياناً، مظلومة منذ فترة، ويغيب عنها الاعلام لأن ما يقدم من خلالها ليس لافتاً جداً.

عمر اميرالاي، واحد من الاسماء الكبيرة في عالم الاخراج عمل للشاشتين طوال اكثر من 35 عاماً وتوفي منذ ايام عن 63 عاماً تاركاً فراغاً انسانياً وفنياً، فلطالما ارتبط عمر بصداقات عميقة وواسعة اينما حل، بينما عرف عنه دائماً صراحته ووضوحه وجرأته، وهذه جرّت عليه مواقف وردات فعل لم يكن يهتم بها كلها.

عاش في باريس وعمل في التلفزيون الفرنسي، وكان فاعلاً في تقديم اعمال من الشرق الاوسط وعنه، مثلت ثروة مهنية رائعة، لكنه لم يعرف كيف يتصالح مع احد، بدليل انه قدم اشرطة تنتقد الاجواء السياسية والحزبية في بلده، وعندما اعتبر متجاوزاً المسموح به وضع في الاقامة الجبرية، حيث قيل ان هذا اثر في نفسه ومعنوياته كثيراً، لأنه لم يقتنع بمهنته يوماً الا من خلال ثقته بأن افق الحرية يجب ان يكون مطلقاً حتى يستطيع ان يتنفس سينما.

ثلاث محطات في حياة اميرالاي الجنتلمان الذي لطالما نصح بأن يقف امام الكاميرا مستغلاً وسامته، لكنه ظل وفياً لموهبته كمخرج غير قادر على تحمل فكرة الممثل الوسيم، غير الموجود في اي قاموس فني.

الاولى: شريط وثائقي للتلفزيون الفرنسي عن الراقصات في مصر وقد اعتمد اميرالاي الممثلة نادية الجندي نموذجاً للدلالة على الموضوع وحيثياته.

الثانية: فيلم وثائقي عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعنوان «الرجل ذو النعل الذهبي»، فدخل اميرالاي الى عالم الحريري الخاص متحدثاً عن نمط حياته، عن ثروته، عن كل شيء عنه. وقد اثار الشريط العديد من ردات الفعل التي اعطت للشريط اكثر من معنى بأنه نوع من تلميع صورة الرئيس الحريري، وبأنه دفع مبلغاً مرموقاً لإنجاز مثل هذا العمل، ما استدعى اميرالاي لأن يرد على معظم منتقديه في اكثر من لقاء وافق عليها لكي يقول ما عنده.

الثالثة: مشروع فيلم عن الفنانة الكبيرة اسمهان اشتغل على تحضيره مع زميليه المخرجين محمد ملص، وأسامة محمد، وكان مخططاً له ان يكون عالمياً ومع نجمة اسبانية معروفة جرى الاتصال بها وأبدت موافقتها على تجسيد الشخصية لكن على عادة العديد من الاعمال التي تتناول سيرة شخصيات معروفة وكبيرة، عندما يتدخل الورثة ويضعون شروطاً تعجيزية مانعين او معرقلين اي مشروع.

يغيب اميرالاي، ومعه تنطوي حقبة من سينما مختلفة، يكفي ان صاحبها يعرف معها ومن خلالها حتى دون ان يذكر اسمه في ختام جنريك افلامه، وفي اللقاءات القليلة التي جرت معه شدد الراحل على اهمية اعطاء الحرية الكاملة للمبدعين لكي يقولوا كل ما عندهم وبهذا نفتح الطريق على اعمال لها وزنها ومؤداها، كما اكد اكثر من مرة ان احداً لا يستطيع او يتجرأ او يقول له: افعل كذا، او نريد منك كذا، كان ابن فكرته ونموذجه وسينماه، وعرف كيف يصل الى حيث يريد في اوقات صعبة، وسريعة.

وفي لقاء بادر محدثه: ارجوك لا تخاطبني على اساس انني معارض سياسي او مشاكس سينمائي، انا فقط فنان حر، وهذا يكفي. وهو كان كذلك فعلاً... رحمه الله.</< div>

 

الراي الكيوتية في

11.02.2011

 
 
 
 
 

سلامات يا عمر... ارحل مطمئنّاً

سمير العيطة  

هذه هي تحيّتك المعتادة: سلامات. كانت دوماً ترافقها ابتسامة ساخرة من الدنيا ونظرة فيها من التساؤل والمحبّة ما يكفي كي تشعر محدّثك بأنّك تنتظر منه شيئاً ما.

سلامات يا عمر. لعلّك لا تدري ماذا كان أثر «الحياة اليوميّة في قرية سورية»، فيلمك في أوّل السبعينات الذي شاهدته مع حشد كبير في باريس، حيث كنت أدرس. تساؤلك ومحبّتك فتحا أعيننا على أنّ كلّ شعارات العدالة الاجتماعية للحكم في سوريا حينها كانت فارغة المحتوى، ولا تزال إلى اليوم. أطفالٌ يعلّمهم أساتذة في مدرسة بائسة في منطقة الجزيرة السورية: «أنا أشرب الحليب صباحاً، وآكل بيضةً، وأفرشي أسناني». ولا حليب ولا بيض ولا فراشي أسنان. لا شيء سوى الغبار.

سلامات يا عمر. من كان عليهم أن يتعلّموا لم يتعلّموا شيئاً، ولم يفعلوا شيئاً، وتركوا أهل الجزيرة لما هو حتّى أسوأ. وتركوا الآخرين، الفلاحين والقابعين في أحياء الصفيح ومتخرّجي الجامعات وكلّ الآخرين، أيضاً دون حريّة وحريّات ودون عدالة اجتماعية.

سلامات يا عمر: علّمتنا أنت وزملاؤك أنّه قبل عصر الفضائيات كانت هناك سينما عربيّة. سينما تساؤلها ومحبّتها وصدقها والتزامها بالناس هو «الحبّ الموعود».

سلامات يا عمر. شاهدت كلّ أفلامك. وحيّيت شجاعتك. أنت جزءٌ من وعي جيلنا والأجيال الجديدة التي يأتي يومها اليوم. صدمني بعض أفلامك، ولا سيّما «الرجل ذو النعل الذهبي»، حيث وجدت فيه بعض الانبهار بذاك الرجل، لكنّ رسالتك توضّحت بعد حين: «الناس الآن ينبهرون بهؤلاء، أبناء معجزة النفط والاحتكارات الذين يريدون صنع مستقبلنا بشعارات الماضي وبأموال الحاضر وخطاباته المرونقة، ليمنعوا عنّا رائحة ياسمين الحريّة إلى الأبد». لم يكن «ذو النعل الذهبي» وحيداً، إنّه حالة، وكان لا بدّ من فهمها وإدراكها حتّى يمكن تخطّيها، وتخطّي المرحلة كلّها.

سلامات يا عمر. فجعتنا برحيلك، لكن سترحل مطمئنّاً. لقد شهدت ثورتي تونس ومصر قبل أن ترحل. نعم ثورتان من «رائحة الجنّة»، ولم تكونا انقلاباً آخر. ثورتان تخطّى شبابهما كلّ التردّد، إذ انكسر خوفهم من الرجال «ذوي النعال الذهبيّة» أو البساطير وانبهارهم بهم. نعم، أنت شهدت كم هم واعون وواضحو الرؤية أولئك الشباب في ساحة التحرير، ولا يمكن التلاعب بهم، حتّى أكثر من جيلك وجيلي.

سلامات يا عمر. ارحل مطمئنّاً. فلن تبقى الأمور كما هي في أيّ بلد عربيّ، بما في ذلك بلدك سوريا. لا أقصد خطّه الوطني فأبناؤه سيظلّون أوفياء، إلّا أنّ التساؤل والمساءلة والمحبّة والابتسامة الساخرة قد ازدادت كلّها ثقة، وزال الانبهار والخوف من ذوي النعال الذهبيّة. لا بدّ للأمور أن تتغيّر، لكنّ الكلّ واعون أنّ هناك عدوّاً خارجيّاً يتربّص، ووحدةً وطنية ينبغي المحافظة عليها بالأرواح. والكلّ حموا سوريا بعد الغزو الأميركي للعراق ورفضوا محاولات قلب النظام من الخارج، لكنّ الكلّ يعي أنّ مستقبل سوريا لا يصنعه غير السوريين، والكلّ يتطلّع... إلى الحريات والعدالة الاجتماعيّة.

سلامات يا عمر. وكلّ المحبّة.

* رئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» النشرة العربية

 

الأخبار اللبنانية في

11.02.2011

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004