منذ خمسين عاما.. دخل هذا الضيف الجديد إلى بيتنا.. واستقر فيه..
ولم يبرحه حتى الآن.. وأصبح فردا من
العائلة نجلس حوله ونستمع له.. وعيوننا مصوبة
إليه نشاهد العجب.. ونزهو بوجوده بين الجيران والأصدقاء.. فى
بيتنا تليفزيون!
مازلت أذكر أول يوم له فى بيتنا.. ووالدى يدخل من باب المنزل ومن خلفه
شخص
يحمل علبة كرتون كبيرة.. بدأ يفض غلافها.. ليطل منها جهاز تليفزيون جديد
اشتراه
بالتقسيط.. أعدت له والدتى مكانا لائقا يتوسط صالة المنزل.. وبدأ العامل
الفنى يقوم
بتوصيلات الأسلاك مع الإيريال الهوائى الذى تم تركيبه على سطح المنزل.. ثم
ضغط على
زرار التشغيل.. فانطلقت الصور على شاشة التليفزيون وسط صيحات الفرح والدهشة
من كل
الذين حضروا هذه اللحظة الباهرة.
لحظة ميلاد الإرسال التليفزيونى المصرى..
21
يوليو 1960. هدية ثورة يوليو للجمهور المصرى فى عيدها الثامن.. حدث
مهم كان له
دوى واسع المدى فى المجتمع.. كما كان له تأثير قوى فى مشوار حياتى.. كنت
أيامها
أخطو أولى خطواتى الصحفية فى مجلة «صباح الخير».. مع رصيد سابق من عشقى
للسينما..
فاكتملت متعتى بين السينما والتليفزيون..
متعة الصورة المتحركة مع الفن الذى ينقلك
إلى عالم سحرى من الخيال.. وعالم من الواقع الذى لا تعرفه.. قد
يكون قد قرأت عنه،
لكن لم تر صورته الحقيقية.. وهكذا اكتمل الواقعان أمامى، وبدأت أكتب
ملاحظاتى فى «صباح الخير» عما يعرضه التليفزيون تحت
عنوان «من مقاعد المتفرجين» حتى التقيت
بالإعلامى الكبير سعد لبيب مدير عام التليفزيون الذى فاجأنى
بقوله: «نريد أن نستفيد
من ملاحظاتك بشكل عملى.. لماذا لا تشارك فى إعداد برنامج تليفزيونى يحمل
رؤيتك
وأفكارك التى تنادى بها»، وتحمست للتجربة.. واقترحت برنامجا بعنوان «تحت
الشمس»
يرصد ما يحدث فى المجتمع المصرى.. فى صورة تحقيق تليفزيونى مصور لا يعتمد
على ضيوف
الاستوديو بالكراسى التقليدية ولا يعتمد على حوارات المذيعة من الاستوديو..
وإنما
يتم تنفيذ البرنامج بأكمله من الشارع وبالتصوير السينمائى حيث لم يكن
معروفا وقتها
نظام التصوير بالفيديو - ورحبت المذيعة سلوى حجازى بالفكرة وتحمست للنزول
إلى
الشارع، وتسجيل البرنامج كله سينمائيا، وتحمس المخرج الشاب
عواد مصطفى ومساعده
فيكتور ميخائيل للتنفيذ.. وبدأنا العمل، كنت أقترح موضوعا يناقش قضية يتحدث
عنها
الشارع وتمس حياتنا.. وأرصد كل عناصرها.. ثم ننزل إلى الشارع كفريق عمل يضم
المذيعة
والمخرج ومدير التصوير ومهندس الصوت بعد أن يكون قد حددت بصفتى معد
البرنامج كل
عناصر الموضوع واقتراحات أماكن التصوير ونوعية اللقاءات التى
تجريها المذيعة وأنا
موجود معهم فى كل هذه المراحل.. وننتقل من موقع إلى آخر.. حتى ننجز هذه
المهمة خلال
نهار واحد.. حيث لم يكن متاحا استغلال كاميرات التصوير إلا لفترة محددة لأن
الكاميرات كانت قليلة العدد ومطلوبة لبرامج أخرى.. وبعد نهاية
اليوم من العمل
المكثف يحمل المخرج عواد مصطفى المادة المصورة للتحميض والطبع، ثم نجلس معا
فى غرفة
المونتاج لضبط تسلسل الموضوع بحيث لا تتعدى مدته نصف ساعة وهى مدة عرض
البرنامج على
الشاشة.
وغالبا ما تطول جلستنا فى غرفة المونتاج، من بداية المساء حتى فجر
اليوم التالى، عمل شاق، لكنه لذيذ، مع الصداقات التى تكونت مع فنانى
المونتاج
الساهرين فى الغرف المجاورة ينهون أعمالهم.. ومع نوادر المخرج
عواد الذى ما أن ينهى
مونتاج الحلقة التى ستذاع فى موعدها المحدد حتى يخرج من مبنى التليفزيون
متلهفا
لنسمة هواء الصباح الباكر وزجاجة لبن من الباعة يشربها بسرعة يغسل بها
إنهاك وجوع
وعطش الليل بأكمله، بينما أستقل سيارتى عائدا إلى بيتى لأكتب التعليق الذى
ستقرؤه
المذيعة سلوى حجازى على الفيلم أثناء إذاعته على الهواء فى مساء ذلك اليوم.
ولكن مهمتى لم تنته عند هذا الحد، فقد كنت أحمل معى إلى استوديو
الهواء
أسطوانات الموسيقى التصويرية للبرنامج من مجموعة الأسطوانات التى كانت
توزعها شركات
السينما الأمريكية كدعاية لأفلامها.. أختار مواقع الموسيقى من هذه
الأسطوانات،
وأحيانا أقوم بنفسى بتشغيلها على الهواء.
أيام لا تنسى مع مجموعة رائعة من
زملاء التليفزيون.. ومع بساطة وعذوبة المذيعة سلوى حجازى
وقدرتها الرائعة على
مواصلة العمل دون شكوى.. وحيوية المخرج عواد مصطفى الذى تحمل مسئولية
استمرار هذا
البرنامج بكفاءة عالية، لمدة ثلاثة أعوام، تنقلنا فيها ما بين المصانع
وأحياء
القاهرة المختلفة، ومدن القناة التى كانت تعرضت للتدمير
والتهجير أثناء العدوان
الإسرائيلى الغادر فى حرب 67.
وقد كانت لى تجربة أخرى مع المذيعة سلوى
حجازى عندما قدمنا معا برنامج سهرة أسبوعية تليفزيونية، كنت
أكتبها تحت عنوان «سهرة
الأصدقاء»، تهتم بالنواحى الفنية والثقافية تناقش كل جديد فى هذه المجالات
على
الساحة المصرية، وأذكر أنه فى إحدى حلقات هذا البرنامج كانت تواكب ظهور
أغنية «إنت
عمرى» مفاجأة لقاء أم كلثوم مع الموسيقار محمد عبدالوهاب فيما
سمى وقتها بـ «لقاء
السحاب»، واتصلت بالشاعر الكبير أحمد شفيق كامل لاستضافته فى البرنامج
ليحكى
للجمهور قصة هذه الأغنية، وما دار بينه وبين أم كلثوم.. ووافق الشاعر
الكبير للحضور
فى الاستوديو قبل إذاعة البرنامج على الهواء بنصف ساعة للاتفاق النهائى على
نقط
الحوار الذى ستجريه معه سلوى حجازى.. وجاء فعلا أحمد شفيق كامل
وجلسنا معه وقبل
الإذاعة على الهواء بدقائق اختفى تماما من مبني التليفزيون.. وجريت أبحث
عنه ربما
تاه بين الطرقات المؤدية لاستوديو الهواء، ولكن دون جدوى.. وأسقط فى
أيدينا.. ماذا
نقول لجمهور المشاهدين الذين كانوا ينتظرون هذا اللقاء؟ هل
نلغى الفقرة تماما تحت
أى أعذار ممكن أن تقال؟.. ورفضت سلوى حجازى هذا الحل وأصرت أن تقدم الفقرة
وكأن
الشاعر الكبير موجود معنا، مستعينة بخبرتها الإعلامية وثقافتها كشاعرة أصلا
تكتب
بالفرنسية.. ومرت الفقرة بسلام، لكن تصرف أحمد شفيق كامل
واختفاءه من مبنى
التليفزيون فجأة قبل الظهور على الهواء.. مسألة أثارتنى تماما وظللت أتحين
كل الفرص
للقائه ومعرفة سبب اختفائه يومها.. حتى التقينا به على التليفون.. ليعترف
لى بأنه
حين وضع قدميه فى استوديو الهواء ولاحظ كشافات الإضاءة وميكروفونات التسجيل
وكاميرات التصوير حتى شعر بالرهبة من الموقف ونسى - كما قال لى
- كل كلمة كان يريد
أن يقولها وازدادت ضربات قلبه.. فأسرع بالهرب من
الاستوديو ومن مبني التليفزيون
كله.. وتفهمت موقفه وصدق مشاعره وطبيعته الخاصة فى البعد عن الأضواء.
ومفاجآت الإذاعة على الهواء لا تنتهى.. ولكن كانت المذيعة سلوى حجازى
تجتازها بلباقة وذكاء يشهد بهما الجميع.
حتى كانت المفاجأة المؤلمة بخبر
استشهادها هى والمخرج عواد مصطفى فى حادث الطائرة التى فجرها
صاروخ ملعون فى رحلة
عودتهما من ليبيا بعد انتهاء مهمة عمل هناك، واستقبلت جماهير التليفزيون
والوسط
الإعلامى هذا الحادث البشع بحزن بالغ.. وصدرت «صباح الخير» فى ذلك الأسبوع
تحمل على
غلافها لوحة مرسومة لسلوى حجازى أبدعتها ريشة الفنان الكبير جمال كامل..
وأصر
الأستاذ لويس جريس رئيس تحرير صباح الخير وقتها أن يعاد طبع
هذه اللوحة فى هدية
مستقلة توزع مع العدد التالى من صباح الخير.. ونفدت كل الكميات المطبوعة من
الأسواق
فى رقم قياسى لم تشهده الصحافة المصرية فى ذلك الوقت.
وتجربتى مع
التليفزيون أتاحت لى مجموعة من الصداقات العديدة القائمة على الاحترام
المتبادل
والمشاركة الفعالة فى الارتقاء بفن التليفزيون ودوره الإعلامى الخطير.
عشت
كل تفاصيل طوابق مبنى التليفزيون بكل إداراته التنفيذية والفنية والهندسية..
قيادات.. ومخرجين ومذيعين.. وفنانى التصوير
والمونتاج والديكور.. حتى السعاة وعمال
البوفيه!
كنت أعتبر هذا المبنى قلعة من قلاع الفن يجب أن تظل مضاءة دائما
بكل إبداعات الفكر والفن.. فى خط متواز مع الصحافة المطبوعة.. وكلاهما يكمل
الآخر..
الكلمة مع الصورة.. وإن كانت الصورة أصبحت
تجذب جمهورا أكبر.. ومن هنا بدأت
المنافسة بين ما يقدمه التليفزيون.. وما تقدمه الصحافة.. وأنضجت المنافسة
الكثير من
التجارب الرائعة التى مازال بعضنا يتذكرها سواء فى البرامج الثقافية أو
الاجتماعية
أو فى البدايات الأولى لفن التمثيليات والمسلسلات، وحتي فى
برامج الأطفال!
ومن العلامات المضيئة فى تاريخ التليفزيون فى ذلك الوقت.. نتذكر الدور
البارز الذى قام به كل من عبدالحميد الحديدى - سعد لبيب - سميرة الكيلانى -
تماضر
توفيق - صلاح زكى - عباس أحمد - والمذيعات ليلى رستم وأمانى ناشد وملك
إسماعيل
والمخرجين ميلاد بسادة وإبراهيم عبدالجليل وحسن بشير وسعيد
عبادة ورضا الشافعى «فى
البرامج» ومحمد فاضل وإبراهيم الشقنقيرى ومحمد سالم وعلوية زكى وإنعام محمد
على
ورفعت قلدس «فى التمثيليات».
ومن نجوم الصحافة كانت هناك مشاركة رائعة من
الكاتب أنيس منصور والمبدع حسن فؤاد والكاتب أحمد بهجت ومفيد
فوزى ويوسف فرنسيس
ورسام الكاريكاتير رمسيس وغيرهم من الذين تشهد لهم أعمالهم إذا كانت مازالت
باقية
فى أرشيف التليفزيون..!
وقد شدتنى الصورة التليفزيونية وأصبحت أرقب حركة
الكاميرا خصوصا فى المسلسلات التى كان يخرجها «نور الدمرداش» وأتوقف
بالانبهار أمام
اللقطات المكبرة «الكلوز» التى كان يظهر فيها بعض الممثلين.. الوجه يملأ
الشاشة
كلها بأدق التعبيرات.. وأظل أحلم بأن أكتب للشاشة موضوعا إنسانيا يظهر فيه
الممثلون
بلقطات مكبرة لوجوههم تعكس ما يدور فى أعماقهم. وبدأت تتجمع
أمامى خطوط موضوع
يتناول المرأة العانس فى مواجهة مجتمع يترصد لتصرفاتها ويختلق الاتهامات
ضدها لمجرد
أنها تعيش بلا زواج.. وبلا رجل تستند إليه.
وكانت بداية مسلسل بعنوان
«الآنسة»
رغم أننى لم تكن لى تجربة سابقة فى كتابة السيناريو: غير خزين مشاهداتى
للأفلام السينمائية الأجنبية وتأملاتى فى أسلوب السرد والتتابع السينمائى..
ولكن
التحدى الحقيقى بالنسبة لى لم يكن محاولة كتابة سيناريو فيلم..
وإنما سيناريو مسلسل
من 13 حلقة «وهو عدد الحلقات التى جرى العرف وقتها فى التليفزيون المصرى
ألا يزيد
أو ينقص فى كل مسلسل».
وكان فى ذهنى وأنا أكتب حلقات هذا المسلسل أن تلعب
بطولته الفنانة القديرة سناء جميل التى كنت قد شاهدتها فى تمثيلية
تليفزيونية قصيرة
بعنوان «رنين» من إخراج «حسين كمال» والتى قدمها فى بطولة
منفردة ليس بها أى حوار
مع آخرين وإنما فى مواجهة جهاز تليفون تنتظر مكالمة بينما انفعالاتها
تتعاقب على
ملامح وجهها بين الترقب والحذر والفرح.. وأدت سناء جميل هذا الدور ببراعة
مذهلة
وأصبحت هذه التمثيلية القصيرة من العلامات البارزة فى تاريخ
الفن التليفزيونى..
وأيضا فى تاريخ سناء جميل.
وعلى هذا استقر قرارى أن أضع سيناريو مسلسل
«الآنسة»
أمام سناء جميل لتبدى رأيها.. ولم يمض يوم واحد حتى كانت سناء جميل تبدى
حماسها وموافقتها على بطولة هذا المسلسل.. مما حمسنى أن أتجه لمكتب
عبدالحميد
الحديدى المدير العام بالتليفزيون.. وأن أترك حلقات المسلسل
لسكرتارية مكتبه
للقراءة واتخاذ القرار.. لم ألتق به وجها لوجه ولكنى فوجئت بقراره الفورى
بتنفيذ
هذا المسلسل بدون أى تعديلات أو حذوفات. وتم ترشيح المخرج رفعت قلدس للبدأ
فى ترشيح
باقى الممثلين والاستعداد للتصوير.
وتم ترشيح عمر خورشيد.. وليلى علوى فى
أول ظهور لها على الشاشة.. مع مجموعة أخرى من الممثلين فى
الأدوار الثانوية «أصبحوا
فيما بعد من كبار النجوم).
وعرض المسلسل على الشاشة المصرية. ليحدث ردود
فعل متباينة من الإشادة بجرأة الموضوع الذى يناقش لأول مرة على
الشاشة مأزق المرأة
العانس فى المجتمع.
وعلى الجانب ارتفعت أصوات وكتابات بعض الصحفيين ضد هذا
الموضوع الذى يتنافى مع طبيعة المجتمع المحافظ فى فضح أوجاع المرأة العانس
من نظرات
وتصرفات الذين يعتبرونها فألا سيئا لبناتهم وأنها مسألة ضد
الدين ومشيئة الله الذى
يحدد مصير البشر!!
ورغم هذه الدعاوى المتشددة نجح المسلسل أن يضع قضية «العنوسة» على مائدة النقاش المفتوح بعد أن
كانت عورة يجب إخفاؤها والتكتم عليها.
وهمستنى الفنانة سناء جميل لمواصلة الكتابة لمسلسل آخر تلعب بطولته..
فكان
مسلسل «اغتيال ممثلة» الذى استوحيت موضوعه من الأيام الأخيرة للفنانة فاطمة
رشدى
وحالة البهدلة العمومية التى مرت بها بعد أن كانت نجمة السينما
الأولى وفنانة
المسرح التى لا تبارى.
ثم كان المسلسل الثالث مع سناء جميل بعنوان «الحياة
مرة أخرى» مع الفنان يحيى الفخرانى وهالة فؤاد وسمية الألفى من إخراج سامى
محمد
على.
وإننى أذكر هذه المسلسلات التى كتبتها فى بدايتى الفنية.. تأكيدا
للدور الذى لعبه التليفزيون فى حياتى.. وكيف أنه فتح مداركى لتعلم فن كتابة
السيناريو.
بداية من مسلسلات التليفزيون إلى الأفلام الروائية الطويلة ثم
العودة إلى كتابة مسلسلات التليفزيون بعد أن تحولت السينما إلى ساحة
للتهريج
والإسفاف والتجارة الرخيصة.
ولكن المفاجأة القاسية كانت بعد الأحداث التى
سميت وقتها بثورة التصحيح.. منذ صدور قرار غريب بمنع أكثر من
سبعين شخصا من قيادات
التليفزيون والإذاعة من الدخول إلى مبنى التليفزيون.. وتصفية أعمالهم..
ومسح كل
الشرائط التى ضمت إنتاجهم الفنى فى أكبر مذبحة إعلامية يشهدها تاريخ
التليفزيون..
وقيل وقتها أن سبب هذه الإجراءات التعسفية
هو تطهير مبنى التليفزيون من أعوان مراكز
القوى التى صدرت قرارات باعتقالهم ومحاكمتهم.
مجرد شبهات وافتراءات كانت
نتيجتها تشريد كل هذه الكفاءات التليفزيونية والإذاعية ونقلهم
إلى مواقع عمل ليس
لها أى علاقة بخبرتهم وتاريخهم.. كأن يتم النقل إلى وزارة الزراعة أو
السياحة أو
إلى شركة باتا وفروع المؤسسة الاستهلاكية لبيع الزيت والصابون!!
وفتحت لى
«صباح
الخير» صفحاتها لحملة صحفية استمرت عدة أسابيع نشرت فيها قوائم الذين تم
إبعادهم عن الإذاعة والتليفزيون.. وقوائم الأعمال التليفزيونية المسجلة على
الشرائط
التى تم حرقها وتدميرها وأغلبها لقاءات مع شخصيات دخلت قوائم المنع.. أو
تمثيليات
سجلت لكتاب ومؤلفين غير مرغوب فيهم.. أو أعمال فنية قام بها
ممثلون ومخرجون لا يرحب
بهم النظام القائم.
وكان من نتيجة حملة التشديد هذه.. أن سقط ضحاياها
بالمرض والاكتئاب والاعتزال التام عن الحياة العامة.. أو البحث عن أى وسيلة
للسفر
خارج مصر.. وخسرت الإذاعة والتليفزيون كل هذه الكفاءات والخبرات.. وشاع جو
من
التوجس والشكوك داخل مبنى التليفزيون انعكس بالطبع على مستوى
ما يقدم من برامج
وحوارات.
واستمرت الحملة التى أنشرها فى «صباح الخير» مطالبا بتقديم هؤلاء
للمحاكمة إذا كانوا قد أخطأوا أو عودتهم فورا إلى أعمالهم إذا كانوا أبرياء.
وفوجئت ذات صباح بتليفون يدق فى منزلى.. كان المتحدث من مكتب الدكتور
عبدالقادر حاتم نائب رئيس الوزراء فى ذلك الوقت يطلب منى لقاء الدكتور حاتم
فى
مكتبه بالتليفزيون.
وذهبت فى الموعد المحدد.. ليرحب بى الدكتور حاتم متفحصا
هيئتى قائلا: «إنت لسه شاب صغير ليه تورط نفسك فى الكلام إللى بتكتبه ده فى
«صباح
الخير».. إحنا عارفين إنت بتروح لمين فى مبنى التليفزيون.. «..
ثم أشار بيده إلى
اللوحة المعلقة على الجدار خلفه والمكتوب عليها كلمة «الله» بخط كبير.. ثم
قال «الله وحده هو الذى حمى مصر من الخطر الذى
كان يدبر لها»... ثم تطرق بحديثه عن خطر
الشيوعية وأن هؤلاء الذين أكتب عنهم هم عملاء للشيوعية وكانوا
يريدون تجنيدى معهم!!
وحاولت أن أصحح له هذه المعلومات.. ولكن الأمر كان يبدو قد استقر فى
ذهنه
ولا جدوى من المناقشة.. ويبدو أنه قد أدرك هذا فحول الموضوع إلى استشارتى
فى بعض
الهدايا التى يريد إهداءها لبعض أصدقائه.. باعتبارى فنانا
وأكتب عن الفن والجمال..
فأى من هذه الهدايا أكثر قيمة وجمالا؟!
وشعرت لحظتها بالمصيدة تطبق على
عنقى.. واعتذرت عن إبداء رأيى لأنى لا أفهم فى هذه الهدايا..
وأسرعت بالخروج.. ليتم
عقابى بعد ذلك بإعفائى من منصبى كمدير تحرير «صباح الخير» وكنت وقتها أصغر
مدير
تحرير فى الصحافة.
لكنى تواصلت فى تبنى الدعوة لعودة هؤلاء المغضوب عليهم
من نجوم التليفزيون والإذاعة.. وحملت قضيتهم لكل المسئولين الذين تولوا
قيادة وزارة
الإعلام بعد ذلك.. ومضت السنوات.. القليل منهم عاد.. والأغلبية أدركها
النسيان
والتجاهل.. ومنهم من انتقل إلى رحمة الله يأسا وكمدا.
إننى أشعر بالعرفان
لما قدمه التليفزيون المصرى فى سنوات بعث الروح الوطنية والانتماء الحقيقى
لمصر..
وأتمنى أن يعيد لنا هذه الروح بإبداعات
أبنائه الحاليين من خلال إعادة هيكلة إدارات
هذا المبنى العملاق والاستفادة من كل الطاقات المعطلة والطاقات
الهاربة إلى
تليفزيونات أخرى.
إن سر نجاح التليفزيون فى سنواته الأولى لم يكن لأنه فقط
حدث جديد فى المجتمع.. ولكن لأن العمل كان يتم وقتها على قاعدة من الحب
والإخلاص
والتفوق المهنى والفكرى دون النظر لمحسوبية أو واسطة أو انتماء
حزبى.. وإنما كل
الانتماء لمصر.
وراجعوا ما يقوله أبناء التليفزيون فى ذكرياتهم عن تلك
الفترة.. أو على الأقل أفرجوا عن شرائط التسجيلات الناردة المكدسة فى مكتبة
التليفزيون لتروا بأنفسكم طريق الإصلاح.
صباح الخير المصرية في
20/07/2010 |