مخرج "الجنة الآن" الحائز غولدن غلوب يقدم
فيلمه في بيروت
هاني أبو أسعد: حاولت خلق جدل
مثير في الفيلم يبقيه حياً مع مرور الزمن
ريما المسمار
قبل
"الجنة الآن"، كان هاني ابو أسعد مخرجاً فلسطينياً آخر برصيد أفلام صغير
وربما عادي أبرز ما فيه الروائي الطويل "عرس رنا" والوثائقي "فورد
ترانزيت". بعد "الجنة الآن" صار صاحب الغولدن غلوب والمرشح للأوسكار وصاحب
المشاريع الهوليوودية بالجملة (وقع ثلاثة عقود في هوليوود يبدأ تنفيذ اولها
هذا الصيف). ولكن أبو أسعد يريد لشريطه ان يُشاهد بعيداً من الضجيج
الاعلامي و"بهرجة" الجوائز كعمل فني اولاً وأخيراً، يطرح وجهة نظر شخصية
حول موضوع شائك هو العمليات الانتحارية او العمليات "الانسانية" كما يسميها
وان يتمكن من الصمود في وجه امتحان الزمن. ولكن عبثاً يحاول إذ لا مفر من
العودة دائماً الى نقطة الصفر عندما يطغى الموضوع على، او على الاقل يتنافس
مع، الشكل السينمائي. هنا محاولة حوارية مع المخرج للدخول في "فنيّة"
الفيلم وخياراته الدرامية على خلفية خطابه السياسي مع الاشارة الى ان عروضه
في الصالات المحلية تنطلق خلال أيام بتوزيع شركة "برايم بيكتشرز" بعد عرض
صحافي أقيم قبل اسبوعين وعرض افتتاحي في 3 أيار المقبل (كلاهما بالتعاون مع
جمعية بيروت دي سي).
·
ان اختيارك لموضوع الاستشهاديين او الانتحاريين لا أدري ماذا تسميهم انت
هو في حد ذاته خيار مهم لموضوع كبير ومثار جدل وبرغم ذلك لم تطرقه السينما
العربية من قبل. بالنسبة اليك، كيف انطلقت فكرة الفيلم وهل شعرت بمسؤولية
تجاه موضوع غير مطروق؟
ـ الفكرة
بدأت تحديداً من حيث تقولين. اي أنني مثل كثيرين لا أعرف شيئاً عن هذا
الموضوع وخباياه. نحن قريبون روحياً منه ولكننا بعيدون جسدياً. وبالتالي
الفيلم هو اقرب الى عملية بحث في هذا الشأن وبث لأفكاري حوله. في البداية
لم أشعر بتلك المسؤولية التي ذكرتها. كان الشغل منصب على تحويل الواقع الى
فيلم يناقش الأخلاقيات او الجدل القائم بين الاخلاقيات المطلقة والأخلاقيات
التي تخلقها الظروف. كان الفيلم رحلة اكتشاف حقيقية.
·
إلام توصلت من خلال تلك الرحلة؟
ـ فهمت ان
الأمر معقد ومركب وبعيد من التبسيط الاعلامي الذي يصنف تلك العمليات اما
ارهابية واما ثمرة ايمان مطلق. الواقع ان هناك دافعاً عاماً واساسياً هو
الاحتلال وهذا امر معروف سلفاً. ولكن قد تكون هناك دوافع شخصية وكل انسان
معرض للوقوع في شرك العمليات كل بحسب ظروفه. انما الفيلم هدفه الدخول في
الصراع الداخلي للشخصية، صراع الأخلاقيات الأبدي الذي نعثر عليه في
كلاسيكيات الادب مثل "هاملت" والملاحم الادبية وهو تحديداً الصراع الذي
يبقيها حية..
·
لم تسمِ تلك العمليات بعد. هل تصنفها
انتحارية او استشهادية او...؟
ـ هي
عملية انسانية بالدرجة الاولى. فيها البطولة والارهاب والتخبط والتناقض
والايمان والشك...
·
يمكن المشاهد ان يستنتج في نهاية الفيلم موقفك من العمليات "الانسانية" كما
تطلق عليها. ولكنك بدوت منساقاً الى تضمين الفيلم الجدل الكامل اي الموازنة
بين وجهتي النظر "المع" و"الضد". ولهذا نقع في الفيلم على مونولوغات
وحوارات ترد على بعضها. هل قمت بذلك للوصول الى جمهور اوسع لاسيما الأجنبي؟
ـ لم أفكر
في الجمهور. ما في شي اسمو جمهور. انا الجمهور. من يبحث عن الجمهور يصنع
اعلانات. هناك جمهور البيبسي كولا وجمهور كذا وكذا. جمهور الفيلم ليس
ثابتاً لأن الفيلم ليس سلعة. بالنسبة الى وجهتي النظر في الفيلم من
العمليات فمردها انني كنت أحاول خلق جدل مثير بالنسبة الي وتضمين وجهتي
النظر هو ضمان لصمود الفيلم مع الزمن. بعد 20 سنة ستتغير المواقف ولكن
تساوي وجهتي النظر قد يبقي الفيلم مثيراً للجدل.
·
ولكن خيار الموازنة اثر على الخيارات الدرامية. لنأخذ مثلاً شخصية الفتاة "سهى".
دورها صغير وغير مؤثر فعلاً ولكنها مع ذلك تتلو ثلاثة مونولوغات رنانة. اي
ان وجودها موظف فقط لحمل وجهة النظر المناهضة للعمليات الانتحارية.
ـ الدراما
هي دراما "سعيد" وليس "سهى". الأخيرة بالفعل موظفة للمونولوغ. كشخصية
درامية، لا تملك "سخى" عمقاً. ولكن ذلك مقبول في الدراما اي توظيف شخصيات
في خدمة دراما الشخصية الاساسية. ولكنها شخصيات لا يمكن الاستغناء عنها
ايضاً. ولا ننسى ان الجدل موجود ولكنه ليس محسوماً... انه جدل حي لأن قوامه
الصراع الداخلي للشخصيات الذي لا يقدم أجوبة بل يطرح التساؤلات دائماً. ان
هذه القراءة للصراع الداخلي الانساني هو الذي يبقي الحكاية حية ومتجددة مع
الزمن.
·
هناك ترداد لشعارات وجمل مكرورة في سياق الجدل الذي يطرحه الفيلم حول
العمليات الانتحارية يجعلنا نتساءل اذا ما كنت ساخراً ام جاداً فيه.
ـ هناك
وجه ساخر للجدل. أعترف أنني ربما أخطأت في هذه النقطة. كنت أدرك سلفاً ان
الكليشيه في الكلام قد يبدو فظاً وساخراً. ولكنني اخترت أن أبقي عليه لسبب
واحد فقط هو انه بعد 50 سنة ثمة أمور في طبيعة الصراع الفلسطيني الاسرائيلي
لن تكون مفهومة سلفاً. ربما أكون قد أخطأت ولكنني شعرت ان السفينة (الفيلم)
قوية وتتحمل ثقل الفظاظة.
كذلك أريد
ان أشير الى ان فكرة الحوار المتكرر والافكار المعادة هي جزء من يومياتنا
في فلسطين. نحن نكرر النقاش نفسه كل يوم في موضوع العمليات وفي غيرها. بهذا
المعنى، لا يحاول الفيلم ان يقدم تلك التفاصيل كمفاجأة او كاكتشاف وانما
كلعبة يومية عالقون نحن فيها.
·
برغم ذلك يبدو لافتاً التأثير الذي يتركه مونولوغ "سعيد" الأخير على الرغم
من ان ما يقوله سمعناه من قبل. هل ذلك عائد الى قدرة الممثل على اقناعنا
بأن هذا الكلام كأنما يُقال للمرة الاولى؟
ـ هذا
صحيح تماماً. كنا ندرك اننا في هذا المونولوغ لا نقول جديداً واننا سنكرر
اشياء نعرفها وشرحاً مفهوماً. ولكن ذلك كان اساسياً في بناء الشخصية لأنه
يأتي بعد صمتها الطويل. يخرج الكلام من "سعيد" كأنما للمرة الاولى كأنه هو
يسمعه للمرة الاولى، يسمع نفسه ويحكي لنفسه. بالطبع أسهم أداء الممثل في
منح المشهد قوته. ولكنني اود هنا العودة الى فكرة صمود الفيلم مع مرور
الزمن. فهذا أمر الزمن وحده يثبته ولكن كل سينمائي يعمل على ان يترك عمله
بصمة ما وان لا يشيخ مع مرور السنوات. بمعنى آخر، آمل ان تبقى لهذا الفيلم
قيمة حتى عندما تصبح هذه العمليات تاريخاً. وهذا هو برأيي الفارق الاساسي
بين تحقيق فيلم سياسي وآخر فني او هدفه التعبير الفني. السياسة تعبير عن
الآني والمبسط بينما الفن يفضح المركب والمعقد. لذلك لا يمكن لفيلم مبني
على وجهة نظر سياسية فقط ان يعيش لأن الأخيرة متغيرة.
·
هل كتبت المشاهد التي تسبق العملية وفقاً لمعرفتك بتفاصيلها. أقصد اننا
نحاول جاهدين ان نتخيل كيف تتم تلك الأمور من تبليغ الذي سيقوم بالعملية ان
الوقت قد حان وكيف يسجل شهادته وكيف.. وكيف.. لنجدك في الفيلم تقدمها بسكل
بسيط وربما ساخر أحياناً..
ـ هذه
المشاهد كتبتها نتيجة بحث وتجربة ذاتية في آن. خلال الانتفاضة الثانية، عشت
لفترة طويلة في الضفة الغربية وكان لي اتصال مباشر وغير مباشر مع هؤلاء.
هذا بالضبط ما يحدث في الواقع. هناك تفاصيل مثل ذهاب "جمال" الى بيت "سعيد"
لا تحدث في الواقع اي ان من يخبر لا يذهب الى بيت منفذ العملية لأسباب
امنية. ولكنني تعديت على الواقع لصالح الواقعية في الفيلم.
·
تقدم في الفيلم نموذجين في التنظيم. أحدهما "ابو كارم" شخصية مؤثرة وصادقة
و"جمال" الوسيط الذي يبدو خليطاً من الاستغلالي وربما الخبيث..
ـ في كل
تنظيم أدوار مختلفة. "جمال" هو أكثر شخصيات الفيلم المركبة. هو ليس خبيثاً
ولكن ما يقوم به لا يخلو من استغلال. انه شخصية درامية مثيرة. هذا دوره
وواجب عليه تأديته. ولكنه لا يستطيع ان يطور علاقته بالشباب لأنه في
النهاية لن يستطيع ان يرسلهم الى الموت. ومشهد أكل السندويشات خلال تسجيل
"خالد" شهادته ليس ساخراً بل هو تعبير عن الحالة النفسية لـ"جمال". انه
يأكل غضبه ويحاول العثور على وسيلة ليبقى منفصلاً عاطفياً عما يجري. "جمال"
مؤمن بما يقوله ولكن دوره مرعب. فإذا لم يقتل عاطفته ولم يتحلَ بشيء من
العبث لا يستطيع ان يقوم بمهمته. عندما كنا نصور مشهد تثبيت المتفجرات الى
جسدي "سعيد" و"خالد" كدنا نحن فريق التصوير ان نموت هلعاً ونحن ندرك اننا
نمثل. فما بالك بالضالعين فيها في الواقع!
·
كيف قربت شخصية "جمال" من الممثل الذي لعبها؟
ـ اقتنعنا
الممثل وانا ان يكون صادقاً في اداء شخصية "جمال" انطلاقاً من دوره ومهمته.
فهذا رجل مهمته ان ينجّح العملية وعليه ان يقوم بما يلزم لذلك. ولكنه في
النهاية لا يكون سعيداً بل نلمح على وجهه ذلك التردد وان لثوانٍ قليلة.
·
هل عرضت السيناريو على تنظيمات ضالعة في
العمليات الانتحارية؟
ـ نعم حدث
ذلك وبعض من المنتمين الى تلك التنظيمات ممن شاهد الفيلم كان يصيح وسط
العرض "ايه مظبوط هيك منعمل"!
·
ولكنك تعرضت ايضاً لتهديدات كما أشيع...
ـ تعرضت
لتهديدات من جانب فلسطيني ومن الاحتلال الاسرائيلي. موضوع العمليات
الانتحارية شائك والفيلم ينتقد الطرفين الاسرائيلي والفلسطيني. لذلك عندما
يكوك موضوع الفيلم مثار جدل فإن تقديمه من زاوية نظر خاصة سيصطدم بوجهتي
النظر الاساسيتين لطرفي الصراع. ولا ننسى ان لهذا الموضع وجهين فقط لا ثالث
لهما: الوجه الذي يقدمه الاعلام الغربي واسرائيل وهو الوجه الفلسطيني
القبيح والارهابي والوجه الذي يطرحه الجانب الفلسطيني محاولاً تجميل
الصورة. كلا الوجهين ناقص ومبسط.
·
هناك مشهد "سعيد" هائم في الشوارع مزنراً بالمتفجرات. هل تختزل تلك الصورة
برأيك الفلسطيني كمشروع قتيل في كل لحظة؟
ـ انه
اختزال للتناقض المرعب في هذا الجسد الذي يستطيع ان يكون القاتل والمقتول
في آن معاً وان يخاطر بالشعب وفي سبيل الشعب في الوقت عينه. هذا أشبه
بالتحول بالموضوع من المتخيل والنظري الى العملي. اي ان تسليط الضوء على
هذا الموضوع الذي نظن اننا نملك وجهة نظرنا الخاصة عنه لا يلبث ان يربكنا
عندما نراه متجسداً في فيلم لأننا نصبح في مواجهته مباشرةً.
·
هل تقصدت الفصل بين العمليات الانتحارية
والدافع الديني؟ فالشابان ليسا متدينين بالمعنى الكامل للكلمة..
ـ هذا
حقيقي في فلسطين. الدين ليس دافعاً وراء العمليات وما الحديث على الجنة
والملائكة والثواب الا بلسمة للخوف والرعب المرتبطين بالعمليات.
·
في النهاية، يحدث تحول عند كل شخصية في
الاتجاه المعاكس لصورتها الاولى. الامَ استندت في ذلك؟
ـ "سهى"
هي التي أسهمت في تغيير الشخصيتين. لم يكن لدى "خالد" دافع قوي لذلك رأيناه
يعيد التفكير بعيد محادثته معها. اما "سعيد" فإن تقربه منها هي ابنة الشهيد
كان بمثابة اذلال يومي له وتذكير بأن والده كان "عميلاً". لم يكن ممكناً ان
يمحو وصمة العار تلك الا بالقيام بعمل مضاد وهو تفجير نفسه. ولكن كما ذكرت
سابقاً، التحول الذي يحدث للشخصيتين داخلي أقرب الى مسار الشخصيات
الملحمية.
·
المشهد الأخير هو تتويج لذلك التبدل: "سعيد" يزج بـ"خالد" في السيارة ويقفل
الباب عليه ويصيح بالسائق لينطلق. "خالد" يبكي في المقعد الخلفي ولكنه لا
يصارع القدر..
ـ هذه
صورة استوحيتها من الواقع من قصة حقيقية وقعت قبل سنوات قليلة حيث كان شاب
متوجهاً الى تنفيذ عملية يكتشف ان الفتاة التي الى جانبه في السيارة مزنرة
ايضاً بالمتفجرات. يرفض عندها تنفيذ العملية معها معتبراً ان دور المرأة
خلق الحياة ووظيفة الرجل ان يقتل اذا اقتضى الأمر ليحمي. وعندما وصلا الى
الهدف، ذهب هو في الاتجاه المعاكس تاركاً اياها لتقوم بالعملية وحدها.
ولكنها في تلك اللحظة انهارت فاتصلت بالسائق ليعود اليها ولكنه حاول
اقناعها بأنها على بعد خطوات من الجنة ولما لم تقتنع قال لها ان الوضع
الامني لا يسمح له بالعودة ثم قال لها ان "البوسترات" أصبحت جاهزة ولا
تستطيع التراجع الآن! عندها لجأت الى الشاب الذي اقنع السائق بالعودة
واوهمه بأنه غير رأيه ايضاً. ولما وصلت السيارة وضعها في المقعد الخلفي
وانطلقت بها ليبقى هو وينفذ العملية!
·
كيف كانت ردود الفعل في الغرب على الفيلم
لاسيما انه نال جائزة الكرة الذهب وكان على قاب قوسين من الاوسكار؟
ـ أنا
رافض التعامل مع الموضوع بهذا الشكل. بالنهاية تكوين رأي بالفيلم يستند الى
تجربة شخصية وتفاعل آني مع الفيلم. لا يوجد رد فعل عام هناك ردود فعل
مختلفة ومتناقضة لأن الفيلم يتيح الفرصة لمشاهده ليفكر بالموضوع ولا يدفع
به في اتجاه واحد. بهذا المعنى، كان هناك جزءاً في اوروبا واميركا حارب
الفيلم ووصفه بالبروباغندا التبريرية للعمليات الارهابية بسبب تعاطفه مع
الشخصية الاساسية. ولكني اعتبر ذلك الرأي نابعاً من فريق تابع لسياسة معينة
من مصلحته الا يصدر شيء حضاري من الشعب الفلسطيني. الفيلم مهما كان هو
الوجه الجميل للحضارة لأ للحضارة وجوه قبيحة كالدبابات.
بالنسبة
الى الجوائز، فاز الفيلم بها لأن عمل فني بالدرجة الاولى. وظيفة السينما
برأيي ان تقدم للمشاهد ما هو بعيد عنه وربما رافض له. السينما إغناء
للتجربة الانسانية من مكان آمن.
·
لا وجود للموسيقى في الفيلم الا عندما تستمع
اليها إحدى الشخصيات في راديو السيارة او على شريط كاسيت..
ـ جزء من
فكرة الفيلم استخدام معادلة الثريلر المعروفة وتغيير قواعدها: الشخصيات
مركبة ومتناقضة الدوافع بعكس شخصيات الثريلر الكلاسيكية؛ التجربة ليست
تجربة الرجل الابيض العادي وانما تجربة فلسطينية؛ تجريد النوع من
الاصطناعية ومنها الموسيقى المرافقة.
·
في المشهد الأخير، تقترب الكاميرا ببطء من وجه "سعيد" كأنها تحاول اكتشاف
ما يدور في هذا الرأس الذي على وشك الانفجار. هل يقوم حتماً بالعملية ؟
ـ بالنسبة
الي، من المؤكد انه ينفذ العملية. ولكن المشهد مزدوج. فنحن عادة كمشاهدين
نريد ان نرى ما يراه ووجهة نظره. حاولت في اللقطة الأخيرة ان نرى بعينيه ما
يراه.
|