"الجنة الآن".. الاستشهادي على شاشة
السينما
سعيد أبو معلا**
منذ
البداية يجيب "هاني أبو أسعد" مخرج فيلم "الجنة الآن" عن تساؤل سريع يطالع
المشاهدين، حول الذي دفعه للقيام بعمل يعرض دوافع البعض في القيام بعمليات
استشهادية.. هذا الموضوع المحزن، والصعب، والمثير للمتاعب، يجيب بأنه يبحث
كغيره من صانعي الأفلام عن قصة ما.
الفيلم
الذي اتهم بأنه يبسط الجميع (الاستشهادي) للجميع (الجمهور)، وربما ليس
الجميع؛ وهذا ما كان واضحا في ردود أفعال الجمهور الغربي، والفلسطيني.
إذًا
القضية في هذا العمل المعقد والخلافي جدا هي "البحث عن قصة ما"، فكيف عُكست
هذه القصة عبر شريط "الجنة الآن" السينمائي؟.
من القصة
يتضح أن مخرجها وكاتبها اعتبر الواقع دراما تنمو فيها شخصيات الفيلم، فقام
بسرد هذه الدراما بلغة الفيلم، وبالتالي قاده هذا إلى تباين جلي، اعتبره
مخرجه ضروريا من أجل إدراك ظاهرة القتل وظاهرة الموت في اللحظة ذاتها. فهو
يقف ضد قتل البشر، ولكنه لا يدين من يقوم بعملية "انتحارية" على حد تعبيره،
على اعتبار أنها رد فعل إنساني جدا على وضع عصيب جدا.
قبل 24
ساعة
فيلم
"الجنة الآن
PARADISE NOW"
عبارة عن حياة شابين قبل (24 ساعة) من تنفيذهما عمليتين استشهاديتين، ويبدأ
بمشهد من يوم اعتيادي في حياة خالد وسعيد الصديقين الحميمين، وبطلي الفيلم
اللذين يعملان في ورشة لتصليح السيارات تطل على تلة في مدينة نابلس، يظهران
في الورشة وهما يصلحان صندوق سيارة، ما يلبث صاحبها أن يصل ليدخل معهما في
عراك كلامي يجافي الحقيقة والمنطق المبني على حقائق يتسيد البصر في حسمها.
الجدل،
والعراك، يدوران حول اعوجاج الصندوق الذي ركباه لسيارته، فرغم وضوح الصورة
أنهما أحضراه من "الورق" أي أنه جديد مائة بالمائة، ولا يشاهد أي منهما
الاعوجاج الذي لا يراه سواه.. ويصر صاحب السيارة ويتمادى رغم محاولاتهما
إقناعه باعوجاج بصره من خلال ميزان يقيسون به سلامة الصندوق وصحة نظرهم.
وأمام هذا
الإصرار يفقد الشاب خالد، الذي سيذهب وسعيد لتنفيذ عملية استشهادية لاحقا،
هدوءه وقدرته على عراك الكلام، وتدفعه ثورة الغضب والقهر التي تتأجج في
صدره كي يسأل صاحب السيارة من جديد عن مكان الاعوجاج، الذي لا يراه، فيأخذ
مطرقة ثقيلة ويهوي بها على المكان ويقول له: "الآن لا شك بأن الصندوق أصبح
سويا".
من خلال
هذا المشهد يؤسس "أبو أسعد" بصورة رمزية بارعة لمجريات العمل كله ولما يدور
في فلسطين من صدام ما زال البعض يصر على رؤية أشد حقائقه وضوحا بالمقلوب
فيصبح القاتل ضحية والمذبوح متهما.
بهذه
الرمزية يحاول عميقا "أبو أسعد" أن يغوص في نفوسنا ليطلعنا بسلاسة وصدق على
مشاعرنا ورغباتنا وأحلامنا التي أغرقها المحتل في لجة الدمار.
"سعيد"
الأول ذو محيا طفولي، يحمل مسحة من الحزن والقلق، لا تنفع العلاقة الحسية
التي تتصاعد بينه وبين "سهى" ابنة أحد المناضلين القدامى من إسعافه في
تعزيز روحه الضائعة، إنه أنموذج للشاب الفلسطيني الذي يعيش على درجة قصوى
من كتم غيظه وفقدان أمله. بينما ترتسم شخصية الثاني "خالد" بأبعاد حركية
أكثر، فهو كائن حيوي، صدامي، قيادي، يأخذ قراراته دون تردد، وله سعي واضح
بتجديد مسار حياته.
هذان
النموذجان يجمعهما هدف واحد: حياة تسير بأقل قدر من الخسارات رغم الفاجعة
الحياتية التي يمران بها بسبب الاحتلال والحصار.
يقرر
الصديقان القيام بعملية استشهادية في "تل أبيب"، وبوسعهما قضاء الليلة التي
من المقرر أن تكون آخر ليلة لهما في أوساط عائلتيهما في مدينة نابلس.
وبعد
لقائهما مع القائد، مجهول الفصيل، يزنران بالأحزمة الناسفة، لكن الأمور
تذهب نحو قدر آخر، فبعد عبورهما حدود الأسلاك الشائكة تفاجئهم دورية عسكرية
إسرائيلية، يهربان بسرعة، يفلح خالد بالعودة بينما يتوه الآخر بين الأحراش،
قبل أن يجد طريقه ثانية. وبين الوقتين تلغى العملية ويفك الحزام عن الأول
"خالد" الذي سيسعي بجهده لإنقاذ رفيق عمره، وتدفعه الوقائع إلى لقاء "سهى"
التي تدخل معه بجدل حول مفهوم النضال ومحاربة المحتل.
"سعيد"
يصل إلى الحافلة الإسرائيلية، يجلس، ينظر، يبتسم، يضع يده على سلك حزام
التفجير، ولا يظهر صوت انفجار، بل تقطع الصورة إلى بياض مفاجئ، حاد ومثير،
إشارة إلى الموت لنسمع موسيقى شفيفة هي بكاء من نوع آخر.
الفيلم
يؤسس لمجموعة أسئلة عن معنى الحياة في ظل الاحتلال، وعن الرغبة في الموت
والانطلاق نحو حياة أخرى، وعن تعامل الأبطال أمام انعدام الخيارات، وعن أي
طرق النضال هي الأجدى والأفضل بما يميزك عن المحتل الذي يقتلك وذلك دون
إجابات مطلقة أو محددة.
نقد
الفيلم
في النقاش
مع الجمهور في رام الله أو في برلين كان واضحا أن هناك جدلا واختلافا على
الفيلم، فمنذ البداية يرى المخرج الفلسطيني "صبحي الزبيدي" أن النقاش الذي
تلا الفيلم لا يدل على أنه جيد بالضرورة، معتبرا المخرج الذي يقول انظروا
ما فعله فيلمي من نقاش وجدل -مبرَّرًا للقول بأن الفيلم جيد - بمثابة أبسط
الطرق وأكثرها سذاجة لتبريره. وهذا يعد مؤشرا حقيقيا لحجم النقاش الذي تلا
عرض الفيلم كما هو الحال أثناء تصويره في مدينة نابلس 2004 حيث توقف تصويره
أكثر من مرة بفعل معارضة تنظيمات فلسطينية لبعض مضامينه.
الزبيدي
في مقاله النقدي "الجنة الآن.. الجنة دائما" استعرض ما رآه خللا في شريط
"أبو أسعد" وأمكن إجمال ذلك بالمواقف التالية:
- تبسيط
شخصية الاستشهادي بدافع سياسي يتمثل في معارضة المخرج للعمل الاستشهادي،
بحيث خرجت الشخصية هزيلة مضطربة، تعاني من عقدة الذنب؛ وهذا تمثل كون والد
سعيد كان عميلا لقوات الاحتلال، على اعتبار أن هذا كوَّن دافعا للفعل
الاستشهادي وليس نتاج قهر الإسرائيليين وجرائمهم، رغم تصريحات "أبو أسعد"
بأنه ليس ضد العمليات في حد ذاتها.
- ظهور
الاستشهاديين في الفيلم كأنهما كومبارس ليس لهما هدف أو دافع أيديولوجي.
- عدم
إتقان اللهجة الفلسطينية وتحديدا النابلسية من قبل صديقة سعيد وحبيبته
(اللاجئة العائدة إلى مدينتها) على اعتبار أن الأحداث تجري في مدينة نابلس،
وعدم اقتناع الجمهور بالحوارات الركيكة، ولا بالقبلة الباردة التي سبقت
ذهاب سعيد لمصيره وقدره.
- خلوه من
الأيديولوجيا وعرضه للتبريرات، وهذا يندرج بحسب النقاد تحت اسم "سينما
المخرج" أو "سينما الكاتب"، وفي رأي بعض النقاد يعود هذا إلى نوع ثان يتمثل
"بسينما الممول" الذي يفرض اعتبارات خاصة به على الفيلم ككل.
- حتى
اللحظات الجميلة في الفيلم مثل لحظة الوداع، الاستعارة البصرية من العشاء
الأخير، تلتها لحظة جميلة وهم يغسلون الذي سيصبح شهيدا، ولكن تلاها لحظة
يشاهد فيها القادة وهم يأكلون ساندويتشات بينما هم يعطون التعليمات الأخيرة
لفعل الاستشهاد جاءت بأكثر من هيكلية أو لغة سينمائية ركيكة.
بين قلق
وارتياح
وهذا دفع
الفلسطيني لقول الملاحظات السابقة معبرا عن قلقه، وغيرها مثل: لم أكن أشاهد
شخصيات ومواضيع فلسطينية، كان كل شيء يبدو غريبا بالنسبة لي، ولم أسمع صوت
الفلسطيني المتعب والمعذب، بل سمعت صوتا متخيلا، كأنهم متحدثون باسمنا
وليسوا من بيننا، وذلك لأن الفلسطيني الذي شاهد الفيلم عاش في حياته
اليومية القصة التي عرضت عليه بتفاصيلها اليومية المثيرة لدرجة الموت، وهذا
دفعه للشعور بالقلق ورغبة الجدل والنقاش.
ومع ذلك
يعترف الناقد والمخرج "زبيدي" بأن مثل هذه الملاحظات لن يحس بها أو يكتبها
مشاهد هولندي أو ألماني، أو "إسرائيلي".
فالغربي،
الذي يعتقد أن الاستشهادي وحش إرهابي، سيشعر بارتياح عندما يكتشف أن هذا
الشخص ليس وحشا بل شخص أنيق يلبس بدلة، ويحلق ذقنه، ويقع في الغرام، وهو
بذلك سيشعر بالارتياح عندما يكتشف أن نزعة الاستشهادي ليست نتاج رغبته
بالقتل، وسيشعر بالراحة وهو يفك رموز الشفرة البصرية في المشهد الذي يأكل
فيه القادة الساندويتشات، أثناء تقديمهم التعليمات الأخيرة للاستشهاديين.
وسيشعر بالرضى بأنه شاهد فيلما عن الاستشهاديين ولم يسمع أي انفجار، ولم ير
أي جثث.. لا دماء، لا شيء.
وبالتالي
سيخرج الجمهور من العرض بريئا مثل الفيلم تماما كما وصفه أكثر من ناقد
سينمائي.
ثناء
واحتفاء
الفيلم
نال ثناء جهات عدة، بدليل حصده ثلاث جوائز هي: جائزة أفضل فيلم أوربي يُعرض
في مهرجان برلين السينمائي، وجائزة منظمة العفو الدولية "آمنستي
إنترناشيونال"، وجائزة قراء صحيفة "مورغن بوست".
وعلى حد
تعبير الأديب "يحيى يخلف" وزير الثقافة الفلسطيني الذي وصفه "بالحيادي
الإيجابي"، ورغم انتقاده له بعدم أخذه جماليات المكان الذي تدور فيه
الأحداث فإن وصفه هذا حاز نقاشا كبيرا بعد عرضه في قصر الثقافة في مدينة
رام الله.
كما وجد
الفيلم تناغما نقديا إيجابيا على واجهات الصحافة الألمانية والأجنبية، في
حين لاقى نقاشا وجدلا واسعا على مستوى الصحافة الفلسطينية.
ومن مجمل
ما قيل عن الفيلم سواء في الصحافة الغربية أو في الصحافة العربية أو
الفلسطينية من ثناء وارتياح فقد جاء ذلك على الأسلوب المشوق والإنساني الذي
لا يخلو من الطرافة في بعض الأحيان، والحرفية التقنية اللافتة ثانيا،
ولجرأة الطرح وتناوله قضية حساسة أضفى عليها طابعا بشريا (أنسن الاستشهادي)
من جهة ثالثة، إضافة إلى تصوير تفاصيل الـ24 ساعة من حياة الاستشهاديين
بدقّة بالغة، ونقله وقائع العيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة على حقيقته،
وتوازنه الذكي في ضوء تباين مواقف شخصيات الفيلم وأبطاله.
إعادة
كتابة الأسطورة
الفيلم
(90 دقيقة) وهو من إنتاج ثلاثي مشترك فرنسي، ألماني، هولندي، يظهر جليا أن
الشخصيات التي تتطوع للقيام بمهام ضد الجنود الإسرائيليين لا يمثل الدافع
لديهم الحماسة الدينية بقدر ما هو الإحباط إزاء الحياة اليومية، إضافة إلى
وجود عنصر شخصي يتدخل كما في سعي سعيد لتعويض الخزي الذي سببه والده لأسرته
والذي أعدمه نشطاء لتعامله مع الإسرائيليين؛ وهذا ما أثار حفيظة
الفلسطينيين قبل التصوير وبعده على اعتباره لا يقدم نموذجا حقيقيا
للاستشهادي الفلسطيني.
لكن السر
عند "أبو أسعد" والمأساة بذاتها التي عكست، تتمثل في أن الأب تعين عليه
التواطؤ مع العدو لتوفير حياة أفضل لأبنائه، أما الابن فيتعين عليه "قتل
نفسه" حتى يجعل حياة أسرته أفضل.
ويرى
المخرج "أنها قصة أسطورية توراتية، أن تقتل نفسك مع العدو، مؤكدا أنه يعيد
كتابة الأسطورة من وجهة النظر البشرية، ومن وجهة النظر الفلسطينية، ومن
وجهة النظر الواقعية وليس من مفهوم استشراقي كما اتهمه غير ناقد فلسطيني.
وبينما
وصف البعض فيلم "الجنة الآن" بالحيادية، دافع المخرج بأنها ليست حيادية
سطحية وإنما فاعلة تقدم أكثر مما لو قام بعملية انحياز تام لوجهة نظر على
أخرى.
"حيادية
إيجابية"
الاستشهاد
هو جزء من مأساتنا كما أنه جزء كبير من بطولاتنا، ونحن في مجالها لم نقدم
شيئا أمام أسطورية الفعل الذي يخرج صاحبه به عن دائرة البشر العاديين،
وبذلك نكون بحاجة ماسة لأفلام تقول جزءا منها.
وأمام
مقولة "الفنان شخص ملوث ومنغمس" نقول لا يوجد هناك ما يسمى "الحيادية
الإيجابية" في ضوء تعلق الموضوع بعمل فني، بوجود الرأي والرؤى.
لكننا نرى
أن هناك في كلام وزير الثقافة الفلسطيني "يخلف" وصفا جيدا ودقيقا لحالة
الفيلم، أو لما رغب أن يظهر فيه، أي أن يكون "محايدا إيجابيا". إنه فيلم
يريد أن يكون بريئا.
وبرأي بعض
النقاد والمتابعين للحالة الفلسطينية فإن مثل هذه الأفلام التي يرتفع فيها
صوت المشاهدين دون حذر وخوف وتشويه هي التي ستساهم في فهم أفضل لحالتنا.
|