القدس العربي في الدورة التاسعة والعشرين لمهرجان القاهرة
السينمائي الدولي:
حضور عربي كثيف وإصرار مصري علي إغفال تحف عالمية
مستضافة الخبز الحافي يخون شكري و دنيا نص بالٍ عن حرية المرأة ومخادع
حول ختانها!
زياد الخزاعي
عجت الدورة التاسعة والعشرون لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي (29 تشرين
الثاني ـ نوفمبر 9 كانون الثاني ـ ديسمبر 2005) بكم معتبر من النتاجات
العربية، بعضها في المسابقة الرسمية ( ليلة سقوط بغداد للمصري محمد أمين، و
بذور الشك للمصري المقيم في المانيا سمير ناصر و احلام للعراقي المقيم في
لندن احمد الدراجي) وفيما تناثرت الافلام الاخري بين خانات اساسية مثل
القسم الرسمي خارج المسابقة التي حوت دنيا للبنانية جوسلين صعب و الخبز
الحافي للجزائري رشيد بلحاج ، وفقرة مهرجان المهرجانات التي تعد الاشمل في
استقطاب النتاج العالمي في جميع الاحتفائيات العالمية وضمت شريط اللبناني
المقيم في كندا حاليا وجدي مراد الشاطيء (ترجمه المهرجان بـ المد !!) و
القمر الاخير للتشيلي من اصل فلسطيني ميغيل ليتين و ليلي تقول للبناني زياد
ديوري.
الي ذلك اخترعت ادارة المهرجان ثلاث فقرات دفعة واحدة عن افلام العرب وهي
عرب في سينما العالم و السينما العربية و السينما اللبنانية فإن مدحنا
الاخيرة باعتبارها تحية لصناعة قال عنها مدير المهرجان شريف الشوباشي من
دون ان يغفل تدليسا سياسيا للسينما المصرية التي تشهد انهيارا في قيمها
وتقنيتها واشتغالاتها الاجتماعية والايديولوجية (ولنا في هذا الموضوع
مقاربة نقدية قريبا) ليقول: صحيح ان السينما المصرية كان لها فضل الريادة،
ولا زالت صاحبة الصناعة الثقيلة.
ولكن السينما العربية لم تكن يوما وقفا عليها، فضمن فعاليات هذه الدورة،
سنجد في بؤرة الضوء سينما عربية عالمية، تحظي باحترام العالم من خلال
مبدعين عرب تألقوا خارج الحدود العربية، لهذا ستتوهج في سماء المهرجان
سينما لبنانية نشطة قادمة في رحم الحرب بعد ان استعادت عافيتها، وهذه
الاخيرة (اي العافية) لم تكن متناسبة مع العروض الست الاستعادية احدثها
معارك حب لدانييل عربية (2004) واقدمها بيروت الغربية (1998) لزياد ديوري،
الا اذ اعتبرنا ان هاجس الشوباشي كان التسبيق بفكرة استضافة اللبنانيين و
سينماهم والتفاخر بالتكريمات الكثيرة التي اصبحت مثل المهزلة، إذ ليس هناك
تجمع ما من دون التراكض علي تقديم اهرامات ذهبية وتصفيق ومجاملات فارغة،
اما الجلوس ومناقشة ما يحدث من سقوط للسينما المصرية فهذا ثالثة الاثافي في
قائمة الادارة. بل ان اقصي ما تفعله هو الاعلان الذي يصل الي حد الترجي
بشأن الندوات الصحافية (ليست هناك نية لتحويلها الي مؤتمرات او لقاءات او
ملتقيات!!).
جاء العرب الي القاهرة وتجالسوا هنا وهناك، لكنهم لم يتقاطعوا جديا في
الحديث عن مصاباتهم السينمائية، او علي الاقل عن مشاريعهم، الكل يأتي هنا
من دون النية في الفوز بصفقة ما، فحدود الاختراقات محكمة، ناهيك عن ظاهرة
عزوف السينمائيين المصريين في المبادرة بلقاء نظرائهم العرب، واصرارهم علي
شلل مريضة لا ترتضي التنازل لمخرج شاب قادم من عاصمة غربية مثلا للوقوف علي
تجربته، كما حدث للبناني جوزيف فارس وفيلمه المشع زوزو الذي قدم الي اوسكار
هذا العام باسم السويد، فلولا كثرة الصحافيين الذين حاصروه باللقاءات، لقضي
جل وقته في سياحات قاهرية وحسب. وهذا التكلف معضلة موازية لفوضي المهرجان
وبيروقراطيته المزمنة، اذ ليس هناك اخلاقية مكرسة في التقريب والتعارف، بل
ان المهمة هو جلبك الي عاصمة مصر وفندقها الفخم ورميك وسط زحام المتسارعين
والمتدافعين للفوز بكرسي في عرض، او كرسي علي طاولة طعام في حفل لتكريم ما.
هذا الموار الذي يستمر علي مدي ما يقرب من الاسبوعين اصبح من علاماته
الفارقة سياسة جديدة، هي التقشف، ويبدو انها سمة مهرجانات السينما العربية،
فأينما وليت وجهك، ستسمع اعتذارات المسؤولين فيها بشأن الميزانية وحدودها
المتقلصة، لكن الحاذق سيكتشف تسربات مالية معتبرة علي مقاصف ودعوات خاصة
تصرف عليها مبالغ لا تعرف كمياتها، وان تساءلت عن مصدرها، سيسارعون إلي
الاجابة انها ملك لفضائية فلان او لمؤسسة علان، اما المهرجان بذاته فليس له
ناقة ولا جمل وكأنه شحاذ ماهر لرعاته القلائل (14 راعيا منهم فضائية
ART
التي اصرت علي تقديم تكريمها الخاص لعمر الشريف!!).
علي الطرف الاخر من الوجه الكالح لهذه الدورة، تشع افلام كثيرة العدد في
برنامجه العام، وهي نقطة تحسب كما في العام الماضي لصالح قلة من المشاكين
في لجنة الاختيارات ممن تفسح لهم سفرياتهم ومشاركاتهم في مهرجانات دولية
اساسية في دعوة واستضافة عناوين هامة تعرضها علي الشاشات القاهرية.
ما ينقصها هو الدعاية والاعلان، فهناك تحف اساسية تمر مرور الكرام لان ما
يكتب في دليل المهرجان لا يتيح سوي كلمات تعريفية باحداث الفيلم، اما
مضمونه او ما احدثه عالميا فليس هناك من يكلف نفسه عناء البحث او الكتابة.
اطرف ما حدث في هذه الدورة، انني سمعت شكاوي كثيرة وقرأت اخريات في الصحافة
اليومية، عن خلو المهرجان عن تحف ، وبدا لي انهم يقايسون المهرجان بهذه
الكلمة، ويرجعون وصفهم بـ الفشل علي كل مهرجان القاهرة ودورته لانهم لم
يكتشفوا تحفة ما، ومثلما كادت تحفة الروسي اندره كوتشولفسكي منزل الحمقي في
دورة العام الماضي، قد تكون تحف اخريات مماثلة هذا العام ستضيع مثل السقوط
للالماني اوليفر هير تشبيغل عن الايام الاخيرة لهتلر، او الكورس للفرنسي
كريستوفر باراتييه، وحميمية
Closer للامريكي مايك نيكولاس (صاحب المتخرج ) او ميلندا وميلندا ، فضل
الاشرطة الاخيرة لصاحب آني هول الأمريكي وودي ألن، او فيلم المسابقة الدمي
الروسية للفرنسي سيدريك كالابتتش او ماندرلاي للدنماركي لارس فون ترير
ومواطنه وزميله في دوغما 95 المخرج الشاب توماس فنتربرغ عزيزتي ويندي ،
وكذلك العمل الاخير لصاحب اسرار واكاذيب البريطاني المميز مايك لي فيرا
دريك الحائز علي اسد فينسيا الذهبي قبل عامين، من دون ان نغفل الاشارة الي
شريط الايرانية راخشان بني اعتماد جيلانة الذي احدث عاصفة خلال عروضه
المحلية لمقاربته الحرب مع العراق في زاوية شدة الانتقاد للخراب العائلي
والاجتماعي الذي تصر السلطات علي عدم ذكره او الاقتراب منه.
هذه القائمة تثبت ان هناك عزما اداريا في بت تحف سينمائية ضمن البرنامج،
لكن العزم لا يستكفي لتحريض ذلك الناقد او الصحافي المحلي في اكتشافها،
وتبقي كلمات وصرخات البعض الذي فلح في مشاهدتها سابقاً ان يدعو ويثير
الفضول.
(سنعود في المقالة الاخري حول مهرجان الخاصة لنخصصها الي هذه العروض في
مقاربة نقدية).
عربيا سنحت الفرصة لنا في مشاهدة نصوص سينمائية متضاربة، منها ما يثير
الحماسة كثيرا (كما في زوزو فارس و الجنة الآن للفلسطيني هاني ابو اسعد
وغيرهما)، واخريات تثير الحنق كما الخيبة مثل شريط الجزائري رشيد بلحاج
الخبز الحافي الذي يفترض انه اقتبس عن رواية المغربي محمد شكري. غير ان ما
عرض هو اسوأ الاختيارات من قبل بلحاج لفصول هذا العمل الصادم آنذاك، فبدلا
من حياكة دراما عائلية (كما تفترض الرواية)، قفز بلحاج نحو رواية كل شيء،
مصرا علي مشاهد ايروتيكية فارغة، بدا منها فقط التفاخر بقدرته علي الاثارة
وضمان تسويق الفيلم، وشخصيا حزنت وحنقت كثيرا حينما شاهدت صور وجه الراحل
محمد شكري وسط المقبرة الشهيرة في طنجة والتي خط فيها اول صفحات الخبز
الخافي وهو يمرر يده علي شاهدة قبر اخيه عبد القادر، فبعد مئة دقيقة من
المشاهد السيئة التنفيذ والمفتعلة في تمثيلها، تبدو نظرات شكري المودعة
للحياة مثل سبة، فهل ما شاهدناه هي حياته التي تفاخر بها علي صفحات روايته؟
بالتأكيد نسخة بلحاج هي شأن آخر، غير اوراق شكري. انها افلمة فاشلة لاكثر
النصوص الادبية شهرة في المغرب او العالم العربي، وما فعله بلحاج هو تصنيف
حياة شكري واستعراضها في مشاهد مزوقة ومرتبة الاكسسوارات علي طريقة السينما
الايطالية الحالية، فالملابس والديكورات وحتي تصوير المشاهد (في توقيع
بيرلوجي سانتا) خضع الي الاناقة وحساباتها، فشكري الصبي كي يثبت فاقته كان
عليه ان يحلق شعره علي الاخر، فيما صور والده بصيغة التمشيط العادية كرجل
كث الشعر بعينين قادحتين، اما والدته فعلي الخلاف من ذلك بدا وجهها مشعا،
صحياً ومغريا لا تبدو عليه علامات الجوع والعنف الذي سيمارسه الاب المجرم
بدءاً من خنقه للابن الاصغر وانتهاء بضرب الام.
الخبز الحافي ليست سيرة شكري وحسب، بل هي سيرة مدينة وصيرورتها وتقلباتها
السياسية والاجتماعية، وهذا ما لم يتداركه بلحاج، فلولا التظاهرات المعادية
للاستعمار والتي ستتخذ كمبرر درامي للقاء الحاسم الذي سيغير حياة الصعلوك
شكري مع المعلم المجاهد ويقوده نحو ملكوت المعرفة والقراءة والكتابة..
ولاحقا الشهرة. ومثلها علمه جمع حرفي الف و باء لتكوين كلمة اب (وهو القدر
الذي سيستمر بضغطه الفرويدي علي شكري) فسينقل هذه التجربة ويكررها علي
طلبته عندما اصبح معلما بـ شاربين !!
شريط بلحاج ينكر طنجة ولا يواصل معها مشاعره (ومشاعرنا)، انها ديكورات
مصطنعة وكومبارس يفترض بانه اجنبي (كتبيان لمفاخرة المحتل بجلسات متعه
الباذخة، فيما يعاني المغربي من المهانة والاعتقالات والقتل والتعذيب (ليس
هناك مشاهد عن عسف الاحتلال سوي ركلات وتدافع ومطاردات وهي ملاحظة ستقود
الي تساؤل حول رقة محتل بلحاج واظهاره بالصورة الاقرب الي عارضي الازياء
منهم الي قتلة ومحتلين علي شكل رئيس السجن الذي نشاهده زاجرا للسجناء ـ
ومنهم شكري ـ ممهلهم دقائق قليلة لاحتساء ما يسمي بـ شوربة ساخنة، لكنه في
مشاهد اطلاق سراح شكري يتحول إلي ما يشبه الملاك وسط انارة مدروسة تظهره
كما رسمات القديسين في كنائس فلورنسا وروما!!
شكري (اداء ضعيف من المغربي سعيد تخماوي) يصنف في شريط بلحاج حسب السنوات،
ففي الأربعينات سنراه صبيا يبحث في القمامات ويعاني من الاستغلال الابوي
ومن ثم الجماعي (عمله في المقهي كنادل)، لكن هذا لا يمنع من التركيز علي
رجولته المبكرة، فتلصصه علي بنت صاحب المقهي الحسناء التي ستكشف عن مفاتنها
وعورتها بمشهد ضعيف التصوير والتركيبة وهي تغتسل برشاش ماء الحديقة مرتدية
ثوبا شفافا مفتوحا علي اغراءات جسدها الاوروبي (واضح جدا ان مؤديته إيطالية
شديدة الحسن!!) ويستكمل بلحاج صفاقته السينمائية بمشهد تالٍ لا يفعل شيئا
في تأثيره الايروتيكي المفترض، بل يثير الحنق كثيرا، عندما يعمل شكري
بسكينه علي جذع شجرة ليفتح ثلاث فتحات، اثنتان فوق علي مستوي واحد، يدفن
فيهما برتقالتين والفتحة الاخري سيضع لصقا اللباس الداخلي للفتاة، ويبدأ
بفعله الجنسي الذي ليس سوي التهام احدي البرتقالتين، فيما يده الاخري تداعب
الثانية في مضاجعة افتراضية. اكتب هذا تفصيلا، لان كمية الاساءة التي شعرت
بها بعد انتهاء المشهد جعلتني اتصور ان قبر شكري قد اهتز للوقاحة التي قد
مرر بها بلحاج مثل هذا المشهد.
وهذا ليس وحيدا، فهناك مشاهد اخري في بيوت الدعارة التي سيكتشفها شكري مع
صديقه (سيذهب ضحية رصاصة محتل!) ليتعرف علي هرودة والتي ستقوده الي حماية
بغاياها وكذلك اكتشاف مآسيهن ويا للغرابة وطنيتهن العالية ضد المحتل
ونضالهن من اجل تحرير المغرب ولحياة افضل، ويقدمه بلحاج في حوارية قصيرة
بين شكري طغماوي وهرودته النصف عارية! في مشهد ضعيف ومفبرك)! وهذا المقطع
هو الاطول في الشريط، اولا لانه سيضمن جلسات جنسية مصطنعة مع ممثلة اجنبية،
دبلج كلامها وحركة شفتيها بشكل واضح ومضحك، واستجلبت فقط من اجل عرض فخذيها
طوال اللقاءات مع شكري! وكلما طالت هذه الفقرة، ستدفن فصول مهمة في حياة
شكري قبل شهرته، فالمخرج بلحاج (ولد في الجزائر عام 1949، ودرس السينما في
باريس، وعرف عالميا بفيلمه وردة الرمال 1989 وآخر افلامه ميركا اخرجه عام
1999 مع جيرارد ديبارديو سيقرر فجأة قطع صيرورة شكري مع بدء خطة الكلمات
الاولي لخبزه الحافي، اما ما تلا فسيكتبه المخرج ككلمات وهو يصور وجه شكري
العجوز الحزين، وليخبرنا بما حدث له لاحقا، وهي طريقة اختزلت ما كان اهم في
حياته، اي وعيه اللاحق الذي سيتراسب وعلاقاته مع محتل اخر من نوع اخر هم
ثلة الكتاب والمبدعين العالميين الذين جالسهم وتداخل معهم شكري بعلاقات
غريبة، غامضة كشف عن بعضها بتقشف في روايته السوق الداخل .
كان من المفترض ان يعمد بلحاج الذي كتب سيناريو فيلمه ان يسقط الكثير من
المشاهد الضعيفة المستوي والاداء والغرض، ويعوضها بمقاطع اكثر فعلا دراميا
في مرحلة خمسيناته وستينيات القرن الماضي، واظن ان شريطه سيصبح اكثر جمالا
واشد وقوعا علي مشاهده من الفصول الايروتيكية الناقصة الفعل والتأثير!
حالة الحنق اصابت الجميع بعد انتهاء عرض الشريط الجديد للبنانية جوسلين صعب
دنيا فصاحبة غزل البنات قررت ان تأتي الي مصر لتدس انفها السينمائي في
واحدة من اكثر الامور حساسية لدي القطاع المهتم بالاستعراضات: الرقص
الشرقي!!
ولكي تبرر مقاربتها، شيعت صعب ان عملها هو في مقامه الاول، نص سينمائي عن
ختان الفتيات (ستضع صعب في نهاية الشريط اعلان الامم المتحدة ان 97 في
المئة من حالاته العالمية متوافرة في مصر!) غير انها لسبب ما حولت الحكاية
التي كتبتها بنفسها الي اصرار بطلتها الشابة دنيا (النجمة حنان الترك) علي
ان تورث مهنة امها الراقصة الشرقية الشهيرة الراحلة، رغم انها حصلت للتو
علي شهادة الليسانس آداب من جامعة القاهرة؟! وهذا الاصرار هو مفتاح صعب
للمساجلة في موضوع الحريات التي تواجه رهانا عصيا مع صعود النعرة الاصولية
وشتائم فئاتها بشأن الاباحية وفساد الارادات وسقوطها بالحداثة والتفسخ،
وكما ارادت صعب في دنيا ان تتحول الي جرذ اختبار لمفهوم الارادة النسوية
التي يجب ان تقف بحزم ضد اقصائها الاجتماعي، فان البطلة رسم لها ان تؤكد
طاقتها ليس في العمل الاكاديمي وصنعة ادبه وبحوثه وشهاداته العليا، بل في
هز ردفيها تحت ادارة مدرب رقص (يفترض انه الاشهر في مصر ايام عز والدتها
الراحلة ـ هي نفس حنان الترك في صورتها المعلقة علي حائط استوديو التمرين
والتدريب) هو اللبناني وليد عوني، الذي لا يفتأ يعيّرها بوالدتها الخبيرة،
اذ لا مناص لهذه الخامة سوي الايمان بمسألة الحلول الجسدي بوالدتها علي
طريقة صوفيي الاسلام القدامي، وهي خطوة خطرة، ستقودنا عبرها المخرجة صعب
نحو فبركة علاقة تبدأ بالبراءة بين دنيا والكاتب والاكاديمي بشير (المطرب
محمد منير) الذي يثير حفيظة السلطات المصرية بكتاباته السياسية الثوروية
وانتقاداته للمد المحافظ الذي يريد ان ينال من النص المؤسس الف ليلة وليلة
وباعتباره عملا اباحيا يجب اتلافه وحرقه والغاؤه من الذاكرة الادبية
العربية جملة وتفصيلا.
هذا البشير (واختيار الاسم له توريات متعددة المستويات علي الاصعدة الدينية
والسياسية، فهو المبشر بان ارادة الحداثة هي التي ستسود وان المتعصب
المتدين لن ينجح، فيما هو ايضا مبشر سياسي معاصر يري ان قوة المجتمع الذي
يعيش فيه انه يجدد من مفاهيمه حول الصراع مع السلطة والنظم التي تحكمه)
سيقود دنيا (التي ستبدو في المشاهد الاولي كشابة مترددة، وقد اختلطت عليها
امورها رغم فوزها بمسابقة الرقص الشرقي بعد ان تهين اللجنة المحكمة بردها
الحازم: كيف تتمكن المرأة من تحريك جسدها والايحاء بفعل الحب، فيما يسعي
المجتمع الي اخفاء انوثة المرأة وجسدها؟! نحو ارضية مشتركة هي برزخ سجالي
بين الادب والصوفية والحب والشبق ومفاهيم الجسد وقوة التوليد الروحية التي
تنتج عن اللقاء الجنسي بين رجل وامرأة، والتفنن في اعلاء شأن المداعبة فيها
سواء علي صعيد النص الادبي وتعريفاته الشعرية بالمقام الاول، وعلي صعيد
الفهم الشخصي وتجربة الاقتراب من الجسد كصيغة منتج الهي، حياة الله بالجمال
والتناسق والصوت الغنائي الجميل وغيرها)، وهذه المفاهيم واخريات كثيرة
ستبثها المخرجة صعب في الحواريات الكثرية القصيرة والمجتزأة بين الشخصيتين
وهي في الواقع الدرامي المفترض، السبيل الي اقناعنا كمشاهدين بانهما صنوان
لا بد من لقائهما الجسدي والروحي، والذي سيحدث في المشاهد الاخيرة.
لكن ما اوقع نص صعب في السذاجة الايديولوجية (ان كان منها في دنيا ) ان
الشابة لا تمثل قطاعا شعبيا في مصر (اي الاكاديمية التي تنتهي كراقصة شرقية
بارادتها الرقص ده فن و انا فنانة حينما تصرخ في وجه زوجها الشاب الذي يعبر
ـ باقل ما يمكن ـ عن تأفف من اصرارها علي الرقص!) وان الكاتب والمفكر لا
يشكل تيارا اساسيا في الواجهة السياسية (حينما يخبر بشير بان رئيس تحرير
الصحيفة الهامة رفض نشر مقالته الاخيرة سيصرخ ثائراً وانا سأمتنع عن
الكتابة!)، والظريف ان الممثلين الثانويين سيتجاوبون كرد فعل فيه من الاسي
الكثير بهز رؤوس تعبيرا عن خسرانهم قدرتهم علي الرفض الشخصي وخنوعهم وفشلهم
في المساندة).
دنيا ـ ويا للغرابة ـ تكتب ابداعها كخريجة ادب بجمل عامية ركيكة المعاني
والنص، وبشير سيفقد بصره بعد محاولة اعتداء آثمة، الاولي ستنكب علي جلسات
التدريب، والثاني سيقع تحت شبقه الصوفي والذي سيمارسه مع صاحبة البانوسيون
القادمة في تصور المخرجة صعب الناقص، اذ تتزنّر بالحلقات المذهبة ذات
الرنين الداعي للعملية الجنسية، وتعطر جسدها (في الفيلم رقبتها فقط!!)
لتزيد في شبق العملية، كما توردها كتب وكلمات شعر ابن عربي والحلاج وابن
جوزية والنفري!! (وهي قائمة ستوردها في العناوين آخر الشريط!!).
ولكي تستكمل المخرجة صعب مفهوم انهما مخلوقان سيلتقيان حتما، ستسعي دنيا
فجأة إلي محل في شارع قاهري لتشتري عطرا، تأمر صاحب الصنعة ان يصنع عطرها
الخاص طبقا لاوامرها ومواصفاتها، وحينما يطرح الشاب البائع رأيا في مهنيته
تقول دنيا متهكمة الظاهر انت شمام وهو مصطلح يحمل معانيَ كثيرة، لعل ما دفع
جمهور دنيا الي الضحك تورية عن شم الكوكايين والمخدرات واسعة الانتشار بين
الوسط المصري اليوم!! وهي نكتة سمجة ستستمر مع استلامها الزجاجة ومغادرتها
من دون دفع مستحقاتها!!
ما الذي دفع بـ دنيا الي هذا؟ الجواب سيأتي لاحقا ومفاجئا ومثيرا للخيبة
والحنق: تدخل البنسيون وتسائل عن بشير الذي يصرخ انه لا يسأل عن الهدية، بل
ان يأتي اليه مع صاحبها!!، وهي خطوة لدخول دنيا العالم الشخصي للآخر. هنا
تحدث الطامة الكبري في الشريط، فعندما تعود الشابة الي دارتها في السطوح
الشعبية (دليلا علي تواضعها وانها بنت من الناس!!) ستكتشف محاولة دنيئة من
احدي السيدات العجائز في ممارسة فعل الختان علي حفيدتها، تفشل دنيا في
انقاذها، لكنها ستلقي بخطاب اخلاقي حاد في وجه العجوز بانها جففت المنبع،
وان مياه الأرض لن تعيد رطوبته تخطف الطفلة وتحصنها في البانسيون!!
وتشهد دنيا اللقاءات الجنسية بين بشير وصاحبته، وهنا تقع الطامة الثانية:
تسأل صاحبة البانسيون دنيا ان ترعي المكان لاضطرارها إلي الخروج لقضاء حاجة
عاجلة(!) وتفسح المجال للبطلة الشابة في دخول مملكتها الجنسية، تتزنر دنيا
بالحلقات الذهبية وتضع مكياجاً شبيها بتلك الاخري وتلبس لباسا مشابها وتدخل
علي بشير الذي يقرأ بعدسة مكبرة (!!) كلمات الف ليلة وليلة التي نجحت دنيا
بتوصيلها الي ناشر هام وطبع النسخة الهندية (تقول بفخر سابقا لم تحذف منها
ولا حرفاً!!) التي بين يديه، يسمع بشير الاعمي صوت الرنات المنادية للعملية
الجنسية فيصرخ باسم امرأة المواقعة جمالات ، وحينما يمس المرأة الجديدة،
يعرف بحدس الهي انها دنيا، فينزع عنها حلقات الإثم ويمسح فجارة اللون علي
شفتيها ومكياج التخفي علي وجهها ويقول ماتلبسيش ثوب غيرك؟! ويقع اللقاء
الجنسي بين الاثنين (رغم ان دنيا تزوجت للتو) وتكتب المخرجة جوسلين صعب علي
مشهد القبل تزوج الحبيبان!! ، غير ان هذا الزواج هو في واقع الحال زني
درامي لا سابقة له، يعمد لاحقاً برقصة شرقية (تجارية المنحي لتسليع الفيلم)
طويلة لحنان ترك علي منصة تشرف علي القاهرة، وحينما تنتهي الوصلة تنزل عنها
دنيا في اشارة الي اختفائها وسط اهلها، فهي واحدة فيهم ستواجه فيه حياة
باطمئنان بالغ لاقتناصها امل العمل الدائم كراقصة شرقية بررت اتخاذها هذه
المهنة بانها حررت جسدها ممن يحاولون تغطيته بأردية، وحجابات الاصولية
الناهضة.
هذا نص بالٍ، يعك في خطابات قديمة ويدعي التثاقف في قضايا عصية لا حلول لها
لدي عرب اليوم، خصوصا مع تصاعد موجات العداء في العالم للاسلام اثر هجمات
ايلول (سبتمبر)، ولي اعتقاد حاسم، بان فيلما مثل دنيا سيؤكد النظرة علي
تخلف المبدع العربي في التماس مع دعوات الاصلاح والتغيير، فاذا كنا نطالب
بحرية المرأة علي شاكلة دعوة جوسلين صعب عبر الرقص الشرقي والتماهي مع
حكايات طوق الحمامة وصنعة الحب لدي متصوفة العرب عبر اردأ القراءات التي
شاهدتها في حياتها، فان بؤسنا حق علينا وان علي دنيانا المحكوم عليها
بفواجع الفهم الخاطئ للايمان بجميع اوجهه الدينية والسياسية والايديولوجية
ان تذهب الي الدرك الاسفل من التخلف.
ولنكن واضحين وصريحين: ان الاصولي يعرف خطواته في تخوين المتوفي والحداثي
وله تنظراته، وخططه الجاهزة لفرض دعوات الفضيلة بدءاً من التوجيه والخطابة
وانتهاء بالاحزمة الناسفة والقنابل التي تبرر بالعودة الي المصاحف، لكن كيف
ابرر خطل نظرة سينمائية يفترض بها انها علي دراية ووعي بفواجع المرأة
العربية، الي ذلك، وهو ما فطر قلبي فيه وعليه ـ كيف لهذه السينمائية التي
تعيش في اوروبا هذا الزمن الطويل تعود الي مصر لتفرك حكاية الختان (وهو
مشهد واحد بليد) وتصور نصا متهافتا حول الرقص الشرقي (هناك مشهد فاقع حينما
تذهب دنيا الي دارة اشهر راقصة غازية في المدينة الكبيرة وبعد ان تتعرف
عليها فجأة انها بنت فلانة، ستتباري بنات عصابتها في الحال في اعطائها
دورسا امام الكاميرا بهذا الردف الضخم وبحركاته الماجنة) وتضمنه ملامح
سياسية حول التحرر وحرية المرأة، وفي خطابية ركيكة حول مفاهيم العلاقة بين
الجنسين والدين والعمل (الذي قاربته صعب عبر شخصية سائقة التاكسي الفهلوية
التي تناكف زملاءها باشارتها الجنسية ورجولتها اثناء العمل ـ اكلها الكشري
علي طريقة زملائها الذكور ـ فيما لا تتواني صعب عن اظهارها كامرأة شبقة لا
ترتوي من جلسات المضاجعات مع زوجها الميكانيكي ).
شريط دنيا رغم جودة تصويره (توقيع جاك بيكوين) ظل خاضعا لخلل السرد، فمشاهد
رقص حنان الترك تفرض نفسها (بمونتاج كلود ريزنك) ليس كعمل درامي لقراءاتها
الادبية مع بشير، بل لانها تابلوهات وضعت من أجل اظهار كفاءة الممثلة في
اداء رقصاتها (اشيع ان تكريمها قبيل العرض الرسمي سمي بجائزة الشجاعة!!
لجرأتها في تمثيل هذا الفيلم!!). وهذا سيبرر الرقصة الطويلة الاخيرة التي
ليس لها اي معني آخر سوي ارغام المشاهد علي الافتتان بحركات ترك، رغم انها
تسربلت بملابس محكمة الغطاء علي جسدها، فالمعروف انها نجمة واسعة (وربما
ارغام صعب) علي عدم اداء المشاهد الجنسية المفترضة (هناك مشهد واحد لاجزاء
من جسدها وهي تستحم علي طريقة القرون العربية العابرة وليس تحت دش الماء
العادي!!) وبقي لقاء دنيا مع بشير الحاسم هو عبارة عن ملامسات تمثيلية لا
تشبع لهفة المشاهد الشاب المغرم بحنان ترك الذي اقنع بايرويتيكة جسدها
حينما ظل يتمايل طوال الشريط البائس الخطاب والصنعة!
ناقد سينمائي من العراق يقيم في لندن
|