"مملكة الجنة"..
هل تغيرت صورة المسلمين في هوليود؟
سعيد أبو معلا**
لهفة عارمة حملها جمهور المشاهدين، وخاصة الشباب، الذين ضجت بهم قاعات
السينما، لمشاهدة فيلم "مملكة الجنة" للمخرج العالمي "ريدلي سكوت"، ومن
سيناريو الكاتب اليهودي "وليم مانهان" الذي تكلف إنتاجه 130 مليون دولار،
وأحدث قبل عرضه جدلا كبيرا في الأوساط الإسلامية بأمريكا.
وخلال ساعتين ونصف مدة الفيلم الذي تناول فترة الحروب الصليبية، التزم
المشاهدون صمتا في أحيان معينة، وتصفيقا حارا في أحيان كثيرة بعضه جاء
مبررا نتيجة تفاعل عواطفهم مع بعض مشاهد الفيلم الذي استحضر لهم نصرا
تاريخيا تمثل باسترجاع القدس.
تلك اللهفة المصحوبة بالقلق دفعتهم لدخول العرض، وهي ذاتها جعلتهم يخرجون
بعلامات الرضا التي ارتسمت على وجوههم بعد انتهائه، بعد أن كون لديهم
انطباعا مغايرا لما اعتادوه من أفلام هوليود السينمائية، رغم بعض
المؤاخذات.
البداية..
تبدأ مشاهد الفيلم- الذي بدأ عرضه منذ أيام- من فرنسا عام 1184م حيث
الاستعداد الصليبي لحماية القدس ونصرة ملكها المريض، والذي كان على هدنة مع
صلاح الدين الأيوبي.
الافتتاح بحدث مأساوي يصور دفن زوجة والد البطل "باليان" (الحداد) (قبل أن
يصبح فارسا فرنسيا ومقاتلا في صفوف ملك القدس) التي ماتت منتحرة، لتترك
ولدها في حالة من اليأس والحزن، ليأتي والده، الذي لا يعرفه، محاولا إقناعه
بالذهاب إلى القدس للوقوف إلى جانب الملك لحمايته، حيث "مدينة سيحكمها
الضمير".
يرفض "باليان"، بداية، الذهاب، لكنه بطريقة ما يوافق على الانضمام إلى
الحملات الصليبية التي احتشدت في أوربا للاستمرار في السيطرة على "مملكة
السماء" بوصفها حلم المسيحيين على مر الزمان.
يتوجه "باليان" ووالده ومجموعة من الصليبيين إلى ميناء الأرض المقدسة
"مسينا" حيث يعتبر نقطة انطلاق الصليبيين إلى القدس، على اعتبار أن الطريق
إليها "طريق لمحو الخطايا".
في الميناء يكون التحريض الديني على أشده، ونسمع شعاراته كـ"الطريق إلى
الجنة"، و"قتل الكافر ليس خطيئة"، و"محو الخطايا في القدس"، و"إرادة الحرب
إرادة الله"، إضافة لأحاديث موجزة ورمزية تدلل على أنها "مملكة الضمير
والعدل"، كجزء من حملة التعبئة ضد المسلمين ولبقاء السيطرة عليها.
بموت والد "باليان" يستلم حكم مقاطعة "أيبلان" التي تعتبر حامية للطريق إلى
القدس، وخلال تلك الفترة تجذب المشاهد طريقة حكمه للمقاطعة، وفي تعامله مع
المسلمين واليهود والمسيحيين، فيقوم بعملية تحويلها من مجرد صحراء إلى أرض
خضراء.
هذه المشاهد تنقلنا إلى طبيعة العلاقة القائمة بين الصليبيين وسكان المنطقة
المسلمين، وتعكس تعلقه بالأرض، وعلاقته الحميمة بالمسلمين أيضا.
قبل ذلك يصل "باليان" القدس، ويلتقي الملك المريض ويقدم ولاءه التام، رغم
أنه يصرح للملك أنه "غير مرضي عنه من قبل الرب لأنه لم يكلمه"، وخلال فترة
وجيزة يسطع نجمه لقدراته القيادية، وولائه للملك، ومواقفه المعتدلة.
وفي هذه الأثناء يتطور صراع بين الحكام الصليبيين، وتحديدا ملك القدس
المريض و"حراس المعبد" الرافضين للصلح مع المسلمين، و"جي رينو"، وحاكم
الكرك، لتنهي إحدى الهجمات التي قادها الأخير على قوافل المسلمين الهدنة
التي استمرت لسنوات ست، فيقرر على إثرها صلاح الدين استعادة حصن الكرك
وتأديب بارونه.
يقرر الملك التصدي لجيوش المسلمين، وأمام أسوار الكرك حيث يحتشد الجيشان
يتفقان بعد جدل ونقاش على تجنب القتال مقابل أن يقوم الملك بمعاقبة حامي
حصن الكرك "رينالد الستلويني"، الذي يسجن في القدس على فعلته.
يقرر الملك قبل وفاته تزويج ابنته، التي هي زوجة "جي رينو" المتعصب ضد
المسلمين، لـ"باليان" ليكون ملكا على القدس، لكنه يرفض ذلك لعدم قدرته بيع
روحه، لتقرر ابنة الملك "سيبيلا" تعيين زوجها ملكا على عرش القدس، فيبادر
مطلقا سراح حامي حصن الكرك مطالبا إياه بافتعال سبب للحرب مع المسلمين ونقض
الهدنة.
يحدث انقسام بين الصليبيين، فيخرج الملك الجديد لملاقاة جيوش المسلمين خارج
القدس مخالفا رأي "باليان" لتحدث معركة طاحنة (هي حطين) ينتصر فيها جيش
المسلمين.
وعلى إثر هذا النصر يتقدم المسلمون لحصار القدس، وتحدث مواجهة كبيرة على
أسوارها تنتهي بتسليم القدس يصفح خلالها صلاح الدين عن الفرنجة مقابل
خروجهم من المدينة المقدسة.
تفاصيل وتحفظات
يشعر من سبق أن شاهد فيلم "الناصر صلاح الدين الأيوبي" للمخرج يوسف شاهين،
بفروق معينة بين الفلمين، أهمها تلك التي تتعلق بالتفاصيل في هذا الفيلم
التاريخي وأي فيلم تاريخي آخر، حيث تظهر أهمية النقد التاريخي الذي يجاوز
التقييم الفني ولا يتجاهله، وهو ما يستدعي المؤرخين العرب والمسلمين
ومصادرنا المتوفرة للوقوف عليه، إضافة إلى ضرورة مشاهدته أكثر من مرة لفهم
مضامين السيناريو المتقن.
وفي هذه العجالة سنحاول تقديم صورة عامة للفيلم الذي يقع منذ البداية في
خطأ أساسي ما يلبث أن تكشفه المشاهد ذاتها، يتمثل في عرضه على الشاشة
معلومات قبل بداية العرض تشير إلى أن أسباب سفر المسيحيين من أوربا إلى
القدس هي في الأساس مادية، أي في سبيل جمع الثروة والمال، ورغم عدم نفينا
لهذا السبب فإنه يعد الأقل من بين أسباب الهجرة بوجود السبب الرئيس المتمثل
بالتحريض الديني.
وسنرى عبر مشاهد الفيلم إشارات دينية تؤكد حقيقة عوامل جذب المسيحيين
وإقناعهم بالسفر إلى القدس، حيث كان التحريض الديني على أشده في تلك الفترة
التاريخية حيث مدينة الجنة والضمير.
كما سنلاحظ المبالغة الكبيرة في إبراز أعداد جيش المسلمين، بالمقارنة مع
الصليبيين، في حين أن الكتب التاريخية تشير إلى أن العكس هو الصحيح، وفي
مقابل ذلك نرى خسائر المسلمين مبالغا فيها، وقد يعود هذا لطبيعة تفسير
التاريخ من كل طرف من أطراف الصراع، ففي الفيلم نرى كثرة عدد جيش المسلمين
الذي يسد الأفق، وهو ما يأتي كتبرير لهزيمة الصليبيين على حساب منطق آخر
يفسر الهزيمة والنصر، كما رافق ذلك عظم خسائر الجيش ذاته وتحديدا في حصاره
للقدس رغم أن المصادر تشير إلى أن صلاح الدين قام بحصار القدس واستردها
بشكل سلمي دون إراقة دماء.
وتغيب في الفيلم صورة البطل صلاح الدين، البطل الاستثنائي، لحساب القائد
"باليان" الذي بدا رمزا للحكيم المخطط والقائد الشجاع، والذي يحمس الجيش
الصغير، ويهدف لحماية المستضعفين، في حين ظهر صلاح الدين برباطة جأش منتظرا
لا مشاركا في الحرب، غير مكترث بخسائره على جدران القدس.
ولا يكف السيناريو عن التأكيد على أن القدس مدينة للديانات الثلاث
(الإسلام، والمسيحية، واليهودية)، كما قدم إشارة إلى "حائط البراق"
باعتباره جزءا من آثار اليهود بالقدس.
ثم هناك مؤاخذات أخرى تكشف نقصا في المعرفة الدينية والثقافية بالمسلمين
ومنها ما يتعلق بشكل أداء الصلاة، حيث قدمها الفيلم كأنها تتم بشكل فردي
وليس كجماعات، وكذا طريقة اللبس التي تسيدها اللباس المغربي، إضافة إلى شكل
مدينة القدس ذاتها، التي لم تظهر في زمنها التاريخي الحقيقي، ربما بسبب
تصوير المشاهد الخاصة بالقدس في المغرب بعد رفض رئيس أساقفة الكنيسة
الكاثوليكية في أسبانيا تصويرها في كنيسة "ميزكيتا" في قرطبة، التي كانت
مسجدا كبيرا أيام دولة الأندلس الإسلامية.
وكان من القصور أيضا عدم ترجمة الكلمات العربية، رغم قلتها، إلى
الإنجليزية، إضافة إلى طبيعة الرايات التي حملها المسلمون وبعض التفاصيل
التي كان من الممكن الاستفادة من رأي المختصين والمؤرخين العرب فيها.
تسامح وحوار
وقد أظهر الفيلم الحوار الحضاري الذي حصل في تلك الفترة بين الجانبين، وهو
ما تمثل في موقفين أساسيين: الأول عندما قرر صلاح الدين استعادة الكرك من
بارونها المتعصب، حيث احتشد الجيشان، لتدور قبل الحرب مفاوضات قصيرة بين
ملك القدس وصلاح الدين قبل الأخير خلالها عدم خوض الحرب لصالح فض الاشتباك،
والاستمرار في الهدنة بشرط معاقبة بارون الكرك.
وتمثل الموقف الثاني بحوار صلاح الدين مع "باليان" حامي القدس أثناء
مفاوضاتهم على شروط تسليمها، حيث صفح الأول عن جميع المقاتلين من الفرنجة
شريطة مغادرتهم المدينة. وعكس الحوار المهم قيما إيجابية، فهاجس القائد
الصليبي هو الحفاظ على جنوده وسكان القدس من "بطش" صلاح الدين، ليكتشف
بعدها أن قائد المسلمين لا يريد أن يقتل المسيحيين والمقاتلين الصليبيين بل
استعادة المدينة.
وعندما يخبره باليان أن الجيوش الصليبية قتلت المسلمين غداة احتلالها
للقدس، يقول له: "أنا صلاح الدين". يقدم إثرها وعدا له بعدم قتل أحد، وهو
ما يشعر القائد الصليبي بالنصر، لينتهي المشهد بعبارات "السلام عليكم" كنوع
من نهاية حرب قدمت في أبشع صورها.
كما ظهرت بعض المواقف التي أبرزت صور التسامح منها السماح للمسلمين بأداء
طقوسهم في مدينتهم المقدسة، وفي ساحل "مسينا" الفرنسي، إضافة إلى طبيعة
العلاقة بين المسلمين و"باليان" في "أيبلان" إقطاعيته التي سيطر عليها، حيث
العلاقات الطيبة التي أظهرت التسامح بين الطرفين.
وتكمن رسالة العمل، برأي منتجيه، في الدعوة للحوار، وهي دعوة غير مباشرة،
وترك الصراعات في زمن يجب أن يتعايش فيه الجميع من أجل الخير والسلام
العالمي، من خلال تركيزه بالأساس على الأبعاد الإنسانية في حياة طرفي
الصراع التاريخي.
بشاعة الحرب وتمني السلام
بطريقة غير دعائية إطلاقا أظهر الفيلم الحرب وأبرز بشاعتها، ولاحظ المشاهد
عمليات القتل والدمار التي تلحق بالأماكن المقدسة، وإزهاق أرواح من الناس.
وفي أكثر من مشهد قاتم تم تقديم الحرب على أنها كابوس مخيف مرعب يلمسه
المشاهد، فالكاميرات التقطت صورا لعشرات الآلاف من الجثث التي تنهشها
الطيور الجارحة، ولمشاهد الدمار، والنيران التي تقذف ليلا أضافت أبعادا
نفسية على المشاهد، رافق ذلك كله استخدام إمكانات فنية عالية جعلت العمل
تحفة فنية استخدم فيها مختلف عوامل الإبهار، وتقنيات الصوت والموسيقى جعلت
العمل ملحمة حقيقية.
يقدم مشهد عبارتي "السلام عليكم" التي قالها القائدان إيقاعا خاصا أظهر أن
كلاهما منتصر طامح إلى السلام الحقيقي، نصر المسلمين باسترداد القدس، ونصر
الصليبيين بالحفاظ على أرواحهم.
لكنها ليست النهاية الحقيقية بمقدار ما هي المتمناة، لينتهي الفيلم بمشهد
ملك إنجلترا يستعد للقيام بحملة صليبية متوجها إلى "باليان" ليقود حملته
لاسترداد القدس، لكن "باليان" يرفض أن يكون قائدا يقاتل بل يصر على بقائه
حدادا في فرنسا طالما أصبح القتال في سبيل المال والثروة، وفي هذا إشارة
إلى رفضه الحروب بأشكالها. قائلا: "مملكة الجنة يفعل الله بها ما يشاء"،
ليأتي مشهد نوار اللوز في مقاطعته الفرنسية برفقه "سيبيلا" محبوبته الجديدة
على إيقاع أغنية تقدم مسحة من سلام وجمال معا بعد مشاهد معارك طاحنة تمنى
المشاهدون إثرها أن يعود السلام الحقيقي الغائب عن مدينة السلام.
ويبقى السؤال: هل سيغير الفيلم بعض المفاهيم المغلوطة عن العرب والمسلمين
في الغرب، أم أنه سيبقى فيلما لا أكثر يقدم فترة تاريخية بطريقة مثيرة
وربما "منصفة" وعلى غير ما اعتدنا مشاهدته في ضوء عدم وجود رغبة حقيقية في
تغييرها، ورفض خفي للاعتراف بقيم المسلمين الدينية، وقيمتهم الحضارية
والتاريخية.
_____________________
** صحفي وناقد فلسطيني.
|