"آلام المسيح" لميل جبسون
يجتاح الصالات الأمريكية:
القاتل والقتيل وجهاً لوجه في
السينما التراجيدية
فرح جبر
"آلام المسيح" للمخرج والممثل الأوسترالي ميل غيبسون يعيد الى الواجهة
السينمائية الفنية، والإعلامية والشعبوية والدينية، مسألة صلب المسيح
ومسؤولية اليهود فيها. فما أن أنجز تصوير الفيلم وبدأت حملة الترويج
الإعلامية له، حتى اندلعت "حرب" شعواء ضده وضد مخرجه الذي اتهمته الجمعيات
اليهودية في أميركا وأوروبا بمعاداة السامية. الفيلم الذي بدأ عرضه الأربعاء
الفائت في أكثر من أربعة آلاف صالة أميركية ضاقت بروادها، من المتوقع عرضه في
الصالات اللبنانية خلال الشهر المقبل. وليس نافلاً القول إن صوت السيدة فيروز
يسري في طيات الفيلم من خلال بعض التراتيل الدينية.
كيف يمكن أن نقرأ عبر الشاشة حقيقة صلب المسيح في
التاريخ الديني، وكيف يمكن تصوير هذه الحقيقة في فيلم سينمائي؟ وفي سؤال لا
يزال مطروحاً الى الآن: من قتل هذه الشخصية التراجيدية الأكثر شهرةً ورمزيةً،
والتي لا تزال مثار إلهام للعديد من الفنانين والشعراء والفلاسفة والكتاب،
ويتماثل بها الكثير من البشر في يومياتهم وحياتهم؟
كثيراً ما نشاهد افلاماً عن الصلب، لكنها تعبر عبوراً عاطفياً وانفعالياً
اكثر مما تخطفنا الى جوهر الحقيقة، التي هي ميراث صعب الاحتمال، في زمن ملاذه
الزيف والتلفيق.
منذ عقد ونصف عقد أثيرت ضجة كبرى حول "مسيح" مارتن
سكورسيزي عن رواية نيكوس كازنتزاكس.
اليوم تثار ضجة توازيها إن لم تكن تتخطاها، حول
مسيح ميل غيبسون، بفارق بين الاول الثاني لخصه جوش باران، المسؤول عن الدعاية
في فيلم سكورسيزي على صفحات "لوموند" بقوله إن المتدينين في ذلك الحين هم
الذين هاجموا الفيلم، في حين أن المتدينين اليوم هم الذين يدافعون عنه.
المهاجمون اليوم هم اليهود".
واذا كانت هوليوود، عوّدتنا الاهتمام بما يمكن أن
نسمّيه "الديانات غير الحقيقية"، فقد عوّدتنا ايضاً الاهتمام بأسياد هذه
الديانات واحاطتهم بهالات من السحر. ميل غيبسون يخرج على هذه القاعدة بفيلمه
المغاير والجريء الذي يروي قصة الصلب في فيلم سيترك النقاش حوله الكثير من
الريش والغبار.
مسيح ميل غيبسون يثير لانه يتجاوز كل قرارات
المجمع الفاتيكاني (1962- 1965) الذي برّأ اليهود من تهمة قتل المسيح.
مسيح غيبسون
يقول بعض النقاد ان ميل غيبسون يعيد احياء احد
الاسئلة الاكثر تفجراً على الاطلاق حول الساعات الاخيرة من حياة المسيح،
والذي يؤدي دوره الممثل جيمس كافيزيل وتشارك الممثلة مونيكا بيللوتشي بدور
مريم المجدلية.
إنه فيلم يجسد الآلام وينقل مؤثراتها نقلاً حسياً
مفجعاً. وخصوصاً أن الآلام بالنسبة الى المسيحيين هي جوهر ايمانهم. ضمن هذه
المقاربة المقلقة والنافذة يندرج فيلم غيبسون المثير للجدل. فهو يعرض الصورة
التي ترتبط بالرمز المسيحي المقدس، والتي تتجاوز واقعها المادي لتنفتح على
عالم الغيب او اللامنظور المتجاوز بالضرورة لها. ويعدّ هذا التجاوز اساس الفن
الديني وهالته القدسية. يقول غيبسون: "كانت قوة مقدسة تعمل من خلالي على هذا
الفيلم"، و"أنا لست قساً ولا واعظاً دينياً. لكني اشعر، حقاً، بأن كل مساري
قادني الى ما أنا عليه الآن. وفي ما يتعلق بفيلمي الاخير، اقول ان افعال الله
تتجسد من خلالي. وهدفي ان يكون لهذا العمل قوة الإقناع الديني".
تنقل الصحف الاميركية ان غيبسون يعبد مسيح الايمان
وأن معظم فيلمه تشكيل ذهني لأكثر الفصول دراميةً في الاناجيل الاربعة.
يركز الفيلم بشدة على ساعات المسيح الإثنتي عشرة
الاخيرة. ثمة ومضات استرجاعية تنطوي على تلميحات لسياقات ما. وثمة عرض لحوادث
تتصل بطفولة المسيح، ودخوله أورشليم، وعظته فوق الجبل، والعشاء الاخير.
الفيلم الذي تتحدث فيه الشخصيات باللغتين الآرامية
واللاتينية، يدمج روايات الأناجيل الاربعة، وقيل إن رؤى الراهبتين ماري
الاغريقية من اسبانيا وآن كاثرين ايميرش من فرنسا، هي التي ألهمت غيبسون.
مشاهد القبض على المسيح، وتعذيبه وصلبه جرى
تصويرها بقسوة بالغة: احدى عيني المسيح مغمضة ومتورمة بعد تلقيه اللطمة
الأولى، العبور الطويل الى الجلجلة حاملاً الصليب الخشبي. مشاهد تسمير اليدين
والقدمين...
ثمة صور رقيقة مع والدة المسيح، ومريم المجدلية.
يقول المسيح وهو على الصليب: "لقد تمّ تبليغ الرسالة"، في حين ان والدته التي
تشاهد ابنها المعذب بوحشية، تتمتم: "آمين".
يُستجوب المسيح امام جمع كبير من المسؤولين
اليهود، ويتقدم الشهود ليتهموه بممارسة السحر مع الشيطان، وبأنه قادر على
تدمير الهيكل واعادة بنائه في ثلاثة ايام، وبتسمية نفسه ابن الرب. يصيح آخر:
"يقول المسيح اننا اذا لم نأكل لحمه ونشرب دمه، فسنحرم الحياة الابدية". وعن
مشهد الاستجواب يشير غيبسون الى انه كان هناك مؤيدون للمسيح وخصوصاً حين يصف
احدهم المحاكمة بـ"العدالة الزائفة".
ثمة مشهد اليهود وهم يصرخون: "اصلبه اصلبه" حيث
يسخر الفيلم من الكهنة ويصوّر دوافع كبيرهم قيافا والذين حوله بأنها كانت
تنبع من الضغينة والحقد. وقد بدوا اشراراً وغوغائيين وهم يصرخون وينادون بقتل
المسيح. وفي مشهد لاحق يختلي بيلاطس بيسوع، ويقول في مواجهة الأسير الصامت:
"أنت لن تحدثني؟ ألا تدرك اني املك سلطة اطلاقك، وسلطة صلبك؟"، فيجيبه
المسيح: "هو مَن أرسلني اليك". لكن الـ"هو" مَن يكون؟ هنا الالتباس الكبير.
يدرك ميل غيبسون معنى موت المسيح، فيستخدم السينما
لينقل الى مشاهديه الصورة الدينية. تعبر بنا المرئيات من الكينونة الى
البيئة. أما الصورة الدينية فتعبّر عن الحاجة الى الشفاعة وتتميز بطابعها
المأسوي والتأليهي، كما تنزع الى تمثيل الابدية والخلود. هذه الصورة تنفجر في
السينما وتجذب الاهتمام وتؤجج الاثارة. المسيح في الفيلم هو بمثابة المسيح
نفسه، بالنسبة الى المشاهد المؤمن.
واذا كانت السينما تتحدر من فن المسرح ذي الماضي
العريق، فإن تراجيديا صلب المسيح هي اكثر المسرحيات صخباً. ينقل غيبسون
التراجيديا المسرحية الى السينما التي تعبّر عن اللحظة الاستثنائية في حياة
الكثير من شعوب العالم. هو يقتطع ساعات من الواقع. وإذ يثير حوله الكثير من
التساؤلات والمناقشات الحادة، تأييداً ورفضاً، فإنه في الوقت نفسه يعبّر عن
وجهة نظره.
مَن قتل المسيح؟
يعيد فيلم غيبسون هذا السؤال القديم المتجدد.
الجواب عويص ربما. ذلك أن شخصية المسيح لها من الدلالات أكثر من اي جواب.
يعتبر الصحافي الاميركي تشاك كولسون ان جماعتَي
الرومان واليهود مسؤولتان وغير مسؤولتين في آن واحد عن قتل المسيح. فلا
اليهود ولا الرومان تسببوا في مقتله، بل كانوا ادوات. الرب ارسل ابنه ليموت
على الصليب لمغفرة خطايا الجنس البشري. فالذين يؤمنون بالكتاب المقدس يعلمون
مَن قتل المسيح. كلنا نحن البشر الخطأة قتلنا المسيح. هذا الكلام ايماني محض
وغفراني بامتياز.
بعض الكتّاب الغربيين يبدو كأنه يطلب من المسيحيين
مدح اليهود لانهم صلبوا المسيح، فيقول جون ميتشام في "نيوزويك": "ان المسيح
توجب عليه الموت كي تبدأ قصة المسيحية بالظهور، والموقف السلبي المناسب
والصحيح للشعب اليهودي ينبغي ان يكون موقف احترام، ذلك ان الرجل الذي اختاره
المسيحيون للنظر اليه في اعتباره مخلصهم انحدر من قبيلة يهودا القديمة، هي
الكلمة نفسها التي اشتقت منها كلمة يهودي. في اعتبارهم اولاد ابرهيم، فإن
المسيحيين واليهود هم اغصان من الشجرة نفسها، مربوط بعضها بالبعض بلغز
يهودي".
ثمة كتّاب يعيدون فتح صفحات التاريخ الذي كانت
تجري فيه مشهديات تمثيل صلب المسيح. فالمسرحيات المفعمة بالانفعالات والعواطف
الجياشة عن صلب المسيح تعود الى القرن 12 الميلادي، وقد انتشرت في البلدان
الاوروبية. وبين القرنين 14 و،16 قامت 300 قرية في النمسا بأداء مسرحيات
مشابهة لفيلم غيبسون، بحسب بعض الكتابات.
وكانت اعمال العنف التي تستهدف اليهود تحصل بعد
عرض مسرحيات كهذه. وكانت الهجمات الأكثر دموية في فريبورغ (شمال سويسرا
اليوم) الى درجة ان مجلس المدينة منع في عام 1338 اداء المشاهد التي تصور
اليهود على انهم مسؤولون عن صلب المسيح. وفي 1469 و،1539 قامت سلطات المانيا
وايطاليا بحماية الغيتو اليهودي بعد عرض مسرحية عن صلب المسيح في فرانكفورت
وروما بالتتابع بسبب الهجمات الدموية التي تسببت بها ضد اليهود.
تعاملت الكنيسة الكاثوليكية، كونها المحافظة على
الايمان الرسولي، مع مسألة مشاركة اليهود في الجريمة. واحتلت معاداة السامية
واجهة الحدث مع الحملة الصليبية الاولى حين قام الجنود المسيحيون، وهم في
طريقهم الى طرد المسلمين من بيت المقدس في القرن 11 بذبح اليهود الاوروبيين.
مع حلول القرون الوسطى وفرت معاداة السامية وهجاً دينياً للقرارات السياسية
التي اتخذتها السلطات العلمانية.
بعد الحرب العالمية الثانية والهولوكوست، نشر
المجمع الفاتيكاني الثاني تعاليم تناهض هذه المسرحيات التقليدية، وشجبها
الكثير من قادة الطوائف المسيحية لانها كانت مصدر أفكار خاطئة عن اليهود
واليهودية. واستطاعت الثقافة اليهودية ان تجعل من "المحرقة" صليب العصر،
وصنّمت صورتها، ووضعتها في دائرة عدم المس، واستطاعت ان تنال "براءة ذمة" اذا
جاز التعبير في ما يخص صلب المسيح.
في عام ،1985 قام البابا يوحنا بولس الثاني بدعم
الاصلاحات وقال: "يجب ان نهدف الى تقديم صورة عن اليهود واليهودية بصدق من
دون تعصب او إهانات وبوعي كامل بأننا نشاركهم التراث عينه". وبعد 12 سنة حذر
البابا من ان "التعاليم والتفسيرات الخاطئة، وغير العادلة للعهد الجديد التي
تصوّر بأن اليهود مذنبون انتشرت لوقت طويل مما يجعل العداء لليهود ممكناً".
وفي ،1988 نشرت لجنة مؤتمر شؤون تعدد الاديان
للأساقفة الكاثوليك تعليمات مشددة تحض المسيحيين على "التزام التفسيرات
التوراتية الحسنة والابتعاد عن التفسيرات اللاهوتية التي تثير الحساسيات،
بخاصة حين يتعلق الامر باليهود". لكن ميل غيبسون لا يعترف بالآراء
الفاتيكانية، وها هو يُخرج فيلمه الذي يربك الجميع وقد شاهده البابا يوحنا
بولس الثاني واشاد به قائلاً انه يصوّر الاحداث "كما حصلت".
أهي معاداة السامية حقاً؟
لكن هل أن ميل غيبسون معاد للسامية، بحسب ما تروّج
المحافل اليهودية، وخصوصاً أن هذه التهمة باتت جاهزة ليجري إلصاقها في
الأوقات المناسبة، وقد تحوّلت الى كليشيه تُرفع في كل شاردة وواردة.
سألت مجلة "ريدرز دايجست" الشعبية الاميركية ميل
غيبسون، في حوار تنشره في عدد آذار المقبل، رأيه في المحرقة اليهودية، فأجاب:
"بالتأكيد كانت هناك فظائع. فالحرب العالمية الثانية قتلت عشرات الملايين من
الناس، بعضهم من اليهود في معسكرات الاعتقال. لقد فقد اناس كثيرون حياتهم.
خلال القرن الفائت، في الاتحاد السوفياتي وحده قتل عشرون مليون شخص". هذا
الكلام لا يرضي اليهود في اي مكان من العالم، فكيف بفيلم يصوّر اليهود موحياً
أنهم قتلة المسيح؟ على ان غيبسون قال في مؤتمر صحافي: "لا اكره احداً، ولا
اكره، ابداً، اليهود. انهم اصدقائي وشركائي في العمل وفي حياتي الاجتماعية،
فمعاداة السامية لا تتعارض واعتقادي الشخصي فحسب، بل تتعارض وجوهر الرسالة
التي يحملها فيلمي".
وتشن "الرابطة المعادية للتشهير"، احدى ابرز
المنظمات الاميركية لمكافحة معاداة السامية، حملة على الفيلم منذ اشهر عدة.
وقال مدير الرابطة ابراهام فوكسمان ان الفيلم "يصور بشكل لا يقبل الجدل
السلطات وقوماً من اليهود على انهم المسؤولون عن صلب المسيح".
وفي مقابلة مع الشبكة الكاثوليكية العالمية "ان
الفيلم يضع اللوم على البشرية كلها. في موت المسيح، ليست هناك استثناءات
الآن. لقد مات المسيح من اجل الناس جميعاً في جميع الاوقات". وفي افضل
العوالم المحتملة سيروّج الفيلم لنقاشات بناءة حول اصول الدين المسيحي.
صورة الموت والموت في الصورة
يبقى ان نقول ان فيلم ميل غيبسون عن "آلام
المسيح"، يبيّن الصلب من خلال الصورة. مصطلح الصورة، وفقاً لكل الدلائل،
ووفقاً لكتاب "علم الاعلام العام" لريجيس دوبريه، لا يكاد ينفصل اصله
اللاتيني واليوناني عن عالم الموت. فالصورة هي الموت والموت هو الصورة، بما
يمثله من رهبة الغيب والمجهول ومن تهديد بالتلاشي والفناء.
هو، أي الموت، يولّد الحـاجة الى البحث عن البديل.
|