الألام هي ما تبقي لي من زيارتي الأخيرة للعراق
يتوغلّ بعيداً في أسلوبه الحرّ، هكذا يمكن وصف عمل السينمائيّ "سعد
سلمان"، الذي يعود ـ بعد سنتين من الغياب ـ مع فيلمٍ تسجيليٍّ/روائيٍّ مُدهش،
صُوّر بسرّيةٍ في شمال العراق. منذ فيلمه الروائيّ الطويل الأول (بسبب
الظروف)، الذي أنجزه في عام 1981، عندما كان منفيّاً في باريس يحاول أن يكسب
عيشه كعامل تنظيفات، وحتى اليوم، تُحرك "سعد سلمان" نفسّ الضرورة والحاجة إلى
الوحدة والعناد، نفسّ المعركة التي تجعله بعيداً عن التيارات الرسميّة، ونفسّ
الإصرار على إكتشاف طريقة مُغايرة لإنجاز أفلامه، وإنطاق الصورة. بعد نجاح
"المحاكمة، عمر ردّاد، وجد السينمائيّ بأنه يعيش مفارقةً مزعجة: لقد إلتزم
طويلاً بالدفاع عن حقوق الإنسان في فرنسا، فكيف له أنّ يبقى صامتاً عن أوضاع
الشعب العراقيّ، في بلدٍ - بلده - حيث لم تعدّ المسألة فيه تتعلق بحقوق
الإنسان، وإنما، بحقوق البقاء على قيّد الحياة.
وهكذا، إختار هذا "الباريسيّ من بغداد" بأن يحكي عن تلك الأوضاع
البعيدة تماماً عن المنطق، وعن أيّ تحليلٍ "سياسيٍّ- إجتماعيّ". فعاد سعد سلمان
إلى العراق
للتصوير سرّاً بكاميرا
DV،
وعلى مسؤوليته، مُتحمّلاً كافة الأخطار، والتبعات.
ومازلنا نتذكّر جيداً تلك الروح المعنوية التي رافقته قبل السفر،
مُعتبراً مهمّته الوحيدة، بأن يحافظ على حياته حتى نهاية مشروعه. ومن كلماته
التي لن تنمحي من الذاكرة:
)بالنسبة لي، أعتبر بأنّ إنجاز هذا الفيلم واجبٌ عليّ، تجاه
والدايّ، نفسي، طفولتي، أولى خيوط شمسٍ تدفأتُ بها، أولى حزمة ضوءٍ إستشعرتها
عينايّ، وأول نسمة هواءٍ إستنشقتها، ليس واجباً بالمعنى الأخلاقيّ للكلمة،
ولكنه، واجبُ الحواسّ).
وقد ذهب سعد سلمان
بثقة من لايمتلك شيئاً ثميناً ليخسره، مع
أنه كان يخاطر بالكثير في حياته. هناكَ، لم تنقصه العقبات :
-
السرّية
(أيُّ مفارقةٍ غريبة بأن يدخل خفيّةً إلى بلده، بينما لايوجد في رؤوس آلاف
العراقيين، غير فكرةٍ واحدة : هجرة العراق !).
-
فريق عملٍ
محدود جداً.
-
وسائل
تقنية خاضعة لظروف المكان وشروطه.
-
إستحالة
التصوير قبل مُعاينة المكان عينه.
-
الريبة من
اليوم التالي.
-
الخطر من
الإغتيال (فالمنطقة مكتظّة بأعوان صدام حسين).
-
الأخطار
المُترتبة على الأهالي الذين وقفوا أمام الكاميرا لإدلاء آرائهم بوجوهٍ
مكشوفة.
-
وأكثر من
ذلك، من كان يضمن بعد نهاية
التصوير، بأن لاتُصادر الأشرطة على الحدود، وتنهار شهورٌ
من العمل ؟
وعلى الرغم من تلك الصعوبات، فقد منحنا سعد سلمان
إبداع مؤلفٍ حقيقيّ، فيلمٌ/رحلةٌ عبر شمال العراق، مغلفٌ بالشعرّ، والهزل،
والآلام. يحكي قصة سينمائيّ، بعد ثلاثين عاماً من منفاه في فرنسا، قرّر
العودة إلى بلده، ليحاول الدخول سرّاً إلى بغداد، واللقاء مع أمّه المحتضرة.
(Baghdad On/Off)
سيرةٌ شخصيةٌ رغماً عنه،
ليس فيلماً عن العراق، ولكنّه فيلمٌ عراقيٌّ بتعبيراته، حنونٌ، مؤثرٌ،
نافذٌّ، وآخاذٌ سينمائيّاً. ماهو مثيرٌ للإهتمام في (Baghdad On/Off)
بأنّ المخرج قد نجح، عبر شكل الفيلم، والمسافة الواضحة مع المواقف والشخصيات،
بأن يمنح المواقف الأكثر مأسويةً أبعادها الشعرية.
في (Baghdad On/Off)،
عراقيّون من الداخل، أكرادٌ، عربٌ، نازحون، أو لاجئون يبوحون بتلقائيةٍ
وبساطةٍ مؤثرّة إلى كاميرا سينمائيٍّ من بلدهم، ولأولّ مرة، ينجلي وجه
العراق. في الحقيقة، تتفادى خطوة سعد سلمان
عادة، أنّ لانرى، ولانتحدث عن العراق، إلاّ من زوايةٍ (جغرافيّة-سياسيّة)،
وكأنّ العراقيين لاوجود لهم، وماهو مهمٌ فقط، هي لعبة القطّ والفأر التي
يُمارسها الأمريكان و>صدام حسين<،
ولكن، من يستطيع الحديث عمّا يجري فعليّاً في داخل البلد ؟
الكاميرات ممنوعة هناك، ونعاني من غيابٍ كاملٍ للصورة، ماعدا تلك
المسموحة من دعاية النظام في بغداد، ومع ذلكَ، بمراسيمه، يقطع "صدام حسين"
الأيادي، والآذان، والألسنة، والرؤوس.
يقول سعد سلمان: (يتحدّد تصوري مع ضخامة الشرخ الذي يُدمي قلبّ
المجتمع العراقيّ، مجتمعٌ فقد كلّ نقاط إستدلالاته). منذ بداية الفيلم، يفرض
المخرج رؤيته في مشهدٍ مثير (حادثة الإصطدام) حيث العراقيون، كضحايا، محصورين
بين فكيّ كماشة، الأمم المتحدة(L'ONU
)،
والعسكر.
)العراقيّ
اليوم هذيانيٌّ، فصاميٌّ، عصابيٌّ، ماأجسّده، كمثالٍ، عن طريق شخصية الدليل
الذي نسمع صوته، ولكننا لن نراه أبداً، إنه يقودني إلى أيّ مكانٍ، ماعدا حيثُ
أريد).
ومع هذه الجوانب المرّة، حيث تطفو عبثيةٌ مُبّطنة، تنتاب المتفرج حالة
جسدية تُشعره بدوار وبلبلة العراقيين في مواجهة أوضاعٍ مُحبطة، لارحمة فيها.
عبر صورٍ أرادها المخرج إرتجالية، كحال خطّ سيّرها (لأنها إلتقطت غالباً
بكاميرا مخفيّة)، ومسروقة، لأنّ كلّ شيئٍٍ ممنوعٌ في العراق.
وبهذا، فقد حوّل سعد سلمان "العقبة" إلى أسلوب، وخلق كتابةً فيلميّةً
إستمدّت جذورها من الجرح العراقيّ النازف.
منذ (بسبب الظروف)، فيلمك الروائيّ الطويل الأول، وحتى (Baghdad
On/Off)،
مروراً بـ (المحاكمة)، (عمر ردّاد)، تُعتبر كلّ أفلامك بمثابة
معارك ؟
-إنّ عمل فيلمٍ، هو في حدّ ذاته معركة، بغضّ النظر عن محتواه،
يُضاف إلى ذلك صعوبة أكبر : مواضيعي، فهي مواضيع معارك، أهاجم
فيها, الأفكار المُسبقة، الكليشهات، وكل الأفكار الجاهزة
للإستخدام، وكمؤلف-مخرج، فإنه بالإضافة للمتعة التي يمنحني إياها
إنجاز فيلم، فإنني أجد كلّ طاقتي في المعركة، والتحديات الكبيره.
هل تحدّد نفسكَ كمخرجٍ مُلتزم ؟
-يهمني بأن أكون نفسي، هذا هو إلتزامي، لاأحدّد الإلتزام بالعلاقة
مع شيئٍ ما، ولكن، بالعلاقة مع نفسي، ضعي الحاجز عالياً، وبالتحدي
الشخصي، سوف تكونين مضطرّة للقفز نحو الأعلى، ضعي الحاجز منخفضاً
جداً، وسوف تستريحين من عناء العثور على مكانكِ .
لماذا إنتظرتَ 20 عاماً قبل أن تُنجز فيلماً يُعالج المسألة
العراقية ؟
-كان العراق دائماً حاضراً في كلّ أفلامي، في الأول، >بسبب
الظروف<، كانت هناك أغنيةٌ عراقيةٌ، والصلاة على الطريقة العراقية،
ومنذ ذلك الوقت، أظهرت معارضتي للحرب ضدّ إيران، مع أنّ الفيلم كان
يتحدث عن إحدى الضواحي الباريسية0
وأيضاً، في >كان يامكان بيروت<، نجد ملصقات فوق الجدران، مكتوب
عليها شعارات تُناهض النظام العراقي، في >إحكي لي شيبام<، عن
اليمن، إحتفيتُ بشجرة النخيل، كانت هناك حركة بانورامية، طويلة،
وعمودية على شجرة نخيلٍ مع خلفية موسيقى العود للموسيقيٍّ العراقي
جعفر حسن، وهذا يعني حسب أعتقادي بأنّ أفلامي كلها كانت نوعاً من
الهروب، كي لاأنجز فيلماً يعالج المسألة العراقية، إنه من الصعب
الحديث عن العراق .
لماذا ؟
-لأنني لو حكيتُ الأشياء كما شاهدتها، وكما عشتها، لأصبح ذلك ضرباً
من الخيال العلميّ، ومن ثم هناك صعوبة أخرى : منذ ثلاثين عاماً،
ونظام >صدام حسين< يستفيد من محاباة كبيرة، إعلامية، وسياسية , لم
يمتلك أيّ ديكتاتور مثل هذا الدعم من كافة القوى العالمية منذ
روسيا، القوة الشيوعية القديمة، حتى صربيّا، واشنطن، باريس،
إيطاليا، والبلاد العربية، يُقال بأنّ أموال >صدام حسين< تدور في
كلّ مكان، ولكن إلى هذا الحدّ فعلاً !
ألم يكن لديك أسباباً أكثر شخصية
-هذا صحيح لم تكن صعوبة عمل شيئٍ ما عن العراق عقبة منيعة، لم أكن
أمتلك هذه الحالة و لا هذه القوة الداخلية، قبل ذلك لأتخاد هذا
القرار الحاسم، وبشكلٍ خاصّ، ، لاأستطيع أنّ أُعالج موضوعاً ما
بدون تعمّق، فإمّا أن أغوص فيه، أو لاأغوص، لقد حدث في لحظةٍ ما،
بناء على الحالة التي يجد العراق نفسه فيه، وحيث الإحتفاظ بالصمت
يعادل خيانة النفس، سنحت لي الفرصة ,ولم أتردّد لحظةً واحدة، على
الرغم من الأخطار، وأعتقد بأنّ حواسي جميعها كانت جاهزة لذلك ، انه
واجبا ليس بالمعنى الاخلاقي ولكن بمعنى واجب ازاء الاحاسيس احاسيسي
. واجباً تجاه رائحتي الأولى، ضوئي الأول، نوطة الموسيقى الأولى،
إبتسامتي الأولى، الكلمة الأولى التي سمعتها من فم أميّ، من الحليب
الأول الذي تذوقته، قصتي مع بغداد موجزة، فقد توقفت عندما كنت في
التاسعة عشرة من عمري، بعد ذلك، عشتُ في السرية ، أو في السجن، كنت
للتوّ قد خرجت من مرحلة المراهقة، في الحقيقة، لم أعشّ أبداً
مراهقتي.
هل يمكن لنا الحديث عن >Baghdad
on/off<
كسيرةٍ شخصية ؟
-سيرة ذاتية، ولكن ليس بالمعنى الفرديّ، سيرة ذاتية بالمعنى
الجماعي، نعم! بمعنى، في نفس القدر الجماعيّ العراقيّ.
تريد أن تقول، بأنّ قدرك الشخصي هو على صورة قدر العراق ؟
-لم يكن حضوري الجسديّ في الصورة إلاّ عنصراً دراماتيكياً ضروريّ
لبناء الفيلم، والسبب في أنه نجح بإمتلاك تأثير صادم على الجمهور،
فذلك لأنه غاص البعد الشخصي في الجماعيّ، في هذا التراكم من الألام،
لايفكر أحدٌ بنفسه، في نهاية الفيلم يصبح الجمهور مشوشاً،مأخودا
بالمعنى الإيجابي للكلمة.
هل (Baghdad
On/Off)
فيلمٌ روائيٌّ، تسجيليٌّ، نوعٌ جديد ؟
-إنه فيلمٌ، فقط .
يبدأ الفيلم بمشهدٍ مثير، حادثةٌ على الطريق العام .
-لقد رغبتُ بأن أبدأ بصورةٍ مضخمة : ليس هناك أبشع من سيارةٍ تسير،
وتجد نفسها فجأةً قد تحولت إلى حطام، مبقورة، وفي داخلها شخصاً ما،
كان قبل لحظاتٍ يفكر بلقاء إمرأته، أمّه، أو أطفاله، وفجأةً، لم
يعد هناك , ليس هناك أكثر دراماتيكيةً من ذلك، في الفيلم، الحادثة
فظيعة تماماً، نشاهد هذا الحطام في حالة صافية من التهديم، من
جانبٍ، بعض موظفي الـ
ONU،
وفي الجانب الآخر العساكر، إنها ملخص ماحدث في العراق، كان يمكن
للفيلم أن يتوقف هنا، وبعد إثبات الحالة، والمعاينة، يجب الدخول في
النفق العراقي لمعرفة كلّ التفاصيل، للفهم، والإحاطة بالأشياء،
ونكتشف بعدها إلى أيّ حدٍّ كانت الأضرار رهيبة .
هل كانت تلك العودة بعد 30 عاماً من المنفى ولادةً جديدة ؟ غوصاً
في أوجاع العراق عن طريق هذا النفق ؟
-إنها قراءة من جملة قراءات , ولكن، لاأرغب الحديث عن مطبخي
الداخلي .
هل هذا سرّ ؟
-لاأعرف فيما إذا كان هذا سّراً، أم لا، لقد حدث ذلك من خلال
الألم، الحاجة، والرغبة الملحة.
ماذا شعرت عند عودتك إلى العراق ؟
-رغبت بأن أعود إلى >بغداد< في وضح النهار، وأن ألقى عائلتي في
صحةٍ جيدة، ولكن، لاتجري الرياح كما تشتهي السفن.
في شكله الظاهريّ، (Baghdad
On/Off)
هو قصةٌ بسيطة، ولكن، في الحقيقة، هناك مستوياتٍ متعددة للقراءة
لاشيئ مجانيّ في الفيلم، ومع ذلك، لاشيئ صعب الولوج، والتفسير.
-عندما أنجز فيلماً، أعمل على مستويات متعددة، ليست مستويات ثقافية
مع إقتراحاتٍ جدلية، فلسفية، أو أشياء من هذا القبيل، إنها
مستويات الحواس،
المستوى الأول يستهدف العين، والتدّخل الأخير يستهدف العقل، بعد أن
يمرّ عن طريق القلب، ومن ثمّ، عبر هذا الإقتراب، أو بالأحرى، في
هذا الإنتقال، يلتقي الفيلم بالمتفرجين، كلّ متفرج هو عالمٌ بحدّ
ذاته، وكلّ متفرجٍ يتلقى الفيلم في المستوى الذي يجد نفسه فيه،
ويقرأه بالمستوى الذي يريد أن يقرأه، وينطبق ذلك على أيّ فعلٍ
إبداعي، الذي يمكن أن يتحدث اليوم عن شيئٍ ما، وغداً عن شيئٍ آخر
أنا لاأقترح فهماً محدداً، ولكنني أترك الباب مفتوحاً .
لقد صورتَ بلدا محاصراً محتجزاً، وفي نفس الوقت، نشعر بحريةٍ كبيرة
في الفيلم؟
-الحرية ليست في الصورة، ولاأمام الكاميرا، إنها تتواجد في معالجة
الصوره، وفي طريقة مشاهدتها، ونحن نلمس هنا شيئاً جوهرياً، فالمبدع
بدون حريته، ليس مُبدعاً، إنه منفذٌّ، موظفٌ، منشطٌّ، كاتبٌ
عموميّ، ولكنه، ليس مبدعاً، ينقصنا اليوم >دون كيشوت<، وأناساً
يسيرون عكس التيار .
يضحك بعض الأطفالٌ أمام صحنٍ فارغ، ويأتي آخرون نحوك، ويلصقون
أنوفهم على عدسة الكاميرا، وكأنهم يتطلعون إلى المتفرج، إنكَ
ًتمتلك طريقةً فريدة في عكس الادوار.
-نظرات الأطفال هذه تستجوب العالم بأجمعه، وكلّ متفرجٍ في مقعده
لا يمكن الاان يشعر بالارتباك أزاء هدا الطفل أنظر إلى أسناني،
أنظروا في أيّ وضع أعيش، هل يستحق هذا طفلٌ صغير ؟
قلتَ بأنك عملت أولاً على الإحساس، هل هذا هو ماشحن الفيلم بهده
المسحة الانسانيه؟
-إنها طريقة التناول أيضاً، الجانب الإنسانيّ لايتأسّس، ولايصدر
بأوامر، إنها درجة الولوج في الإنسان، كلما توغلنا أكثر في العمق،
كلما وجدنا نقاطاً مشتركة مع الآخر، وذلك لأننا نلمس دواخلنا، وعلى
الرغم من تلقائيتي، صدقي في الذهاب نحو الناس، وعلى الرغم من
تواضعي، فقد كنت منزعجاً، كنت منزعجاً أمام هذا الكمّ الرهيب من
الألم، لقد وصلت بتواضع نحوهم، وهم أيضاً جاؤوا بتواضع نحوي، فقد
شعرنا بأننا نمتلك أشياء مشتركة، أن تكون عراقياً اليوم، فهي بحدّ
ذاتها معاناة .
هناك الكثير من المعاناة والألم، وفي نفس الوقت، تنبعث من الفيلم
حيوية فائقة؟
-إنها إثباتٌ لما يمكن أن يكون عليه عراق الغدّ، لاتنقص الطاقة في
العراق، في هذا الجزء الصغير من البلد-كردستان-، والذي يفلت اليوم
من النظام العراقي، لقد نجحوا بتأسيس أشياء رائعة، هناك كتابٌ،
أفلامٌ، حياةٌ ثقافية، رغبة بالتعمير، رغماً عن حصار النظام،
والحصار الدولي، هذه الطاقة، هي حيوية العراق بدون صدام.
لقد إخترت معالجة الأحداث الأكثر دراماتيكيةً بطريقة شعرية، أتذكر
خاصةً مشهد مدينة "حلبجة"، وفي الغوص داخل المقبرة، تلك الصدمات
الصمّاء، وكأنّ الموتى يطرقون في قبورهم، ليجذبوا إنتباه العالم
إليهم، وفي الكتاكيت المريضة.
-الديك وحده في صحةٍ جيدة!
بعض المشاهد ذكرتني بأشعار >الهايكو<، هذه القصائد اليابانية
القصيرة، التي تخطّ الخيال، حيث نقول بدون الإشارة، وحيث نقبض على
اللحظة بتأسيس -كحال السحر- التوازن بين الإنسان والأشياء، هل
الشعر أكثر قوةً من كلّ الخطابات السياسية ؟
-طبعاً، هذا أمرٌ واقع، ماهو الشعر ؟، إنه لغة الحواس، وفي ذلك
المشهد، فإنّ الحواس تتكلم، لم أرغب بهدر الدموع حول >حلبجة<، ووصف
الناس الذين يركضون في الشوارع مختنقين بالغازات القاتلة، ولكنني،
ببساطة، أظهرت كيف شعرت بهذه المدينة-الشهيدة، لايفرض هذا النوع من
المشاهد أسئلة، إنّها بالأحرى تفرض نفسها
هذا الإختيار الشعريّ جوهريّ في إقترابك السينمائيّ ؟
-لديّ رؤية عن العالم، وأنا أعبّر عنها بطريقتي، لقد مررت أولاً
بالسياسة، والأدب، وأجد بأنّ الوقوف أعلى قليلاً-ليس بالمعنى
الوظيفيّ، ولكن، بالمعنى الروحاني- ومشاهدة العالم، مشاهدة الناس،
ومشاهدة الأشياء من هناك، يمنح ميزة، يمكن القول، يمنح ميزة
التعبير، الصيغة، لصيغة هي ولوجٌ نحو الجوهريّ، وعندما نتوجه نحو
الجوهريّ، نجد الشعر دائماً.
لقد أثارني كثيراً الهزل الأسود، والجانب العبثي في الفيلم.
-الوضع في العراق، هو في حدّ ذاته عبثيّ، لاأعرف كيف يمكن التحدّث
عنه بطريقةٍ عقلانية، فذلك يفلت من المنطق، وحتى تصرّف >الأمريكان<
في مواجهة >صدام< يفلت من أيّ منطق، مَنْ يفعل ماذا؟ مَنْ ينتهز
مَنْ؟ إنها الفوضى بعينها، الوضع عبثيّ، إذاً، فقد أظهرته كما هو،
ولكن، يجب التذكير، بأنّ مايمكن أن يظهر عبثياً للمتفرج الأوروبي،
يمكن أن يمتلك أهميةً جوهرية، وكلّ رؤية جانب شرقيّ، لأنّ فيلمي هو
عراقيّ في الصميم.
ليس فيلماً عن العراق...
-أبداً، لم يكن لديّ الرغبة أبداً بإنجاز فيلمٍ عن العراق، إنه
فيلمٌ عراقيّ التعبير، مكتوبٌ بالدم، أعرف مامنحته في هذا الفيلم،
وإلى أيّ حدٍّ إستعدت 05 عاماً من حياتي، لأقود كلّ شيئٍ نحو الشكل
الذي أخذه الفيلم.
تحدّث لنا عن شكل الفيلم، كيف كونته ؟ كيف فكرتَ به ؟
-لاأستطيع شرح كيف بنيتُ الفيلم سينمائياً، إنّ شكله يندرج في بحثي
الدائب للعثور على كتابتي الفيلمية الخاصّة، ليس ذلك سهلاً مع هذا
الإفلاس للصور، يبقى طريقة الإقتراب، وأنا أحاول بأن أكون نفسي
عندما أقترب من الأشياء، وأن لا أعمل مثل هذا، أو ذاك، في شكل>Baghdad
on/off<
هناك الكثير من عناصر كانت مُضمرة مُسبقاً في >بسبب الظروف<، الذي
أنجزته قبل 22 عاماً، وأنا بدوري مندهشٌ من ذلك.
إنه نهاية الهدف
-ليس نهاية الهدف، إنه خطوةٌ للأمام نحو الإتقان، لقد نجحت بعمل
خطوة للأمام في بحثي.
يمتلكني إحساسٌ بأنه يوجد في أفلامك شيئ ما هام جداً : هو البحث عن
شكلٍ في خدمة الحواس، بحيث يبدو ذلك..
-بالتأكيد.
نعم، بالتأكيد، وهو شكلٌ مختلفٌ في كلّ مرة، ومختلطٌ بشكلٍ حميميّ
مع ماتريد أن تقوله.
-في الأفلام التي أحاول إنجازها، فإنه في كلّ مرة، وكأنه الفيلم
الأول، في كل مرة أنسى كلّ التجارب السابقة، والعمل كمبتدئٍ يسمح
بالجرأة على كلّ شيئ، وفي النهاية فقط، التدّخل مع تجربته، منذ
البداية أعمل بحرية جامحة، وفي ذهني بأنني لاأمتلك شيئاً لأخسره،
أنا لاأبحث عن إستيحاء مرجعٍ من هذا الفيلم أو ذاك مما أنجزته
سابقاً، كما لاأبحث عن إستعادة هذا الأسلوب، لأنني إمتلكت ذلك
الأسلوب، أو إتباع نفس منهج الفيلم السابق، لأنه حقق نجاحاً، عندما
أقرر الغوص في موضوعٍ ما، فإنني أتشبّع تماماً في مياهه، وهذا
مشروط بكثافة صدمة هذا الغوص، وبعمقه، وبما سوف أعثر عليه في
العمق، كيف عليّ أن أصعد مرةً أخرى إلى سطح الماء، هل عليّ أن أصعد
أم لا، ولكن، هذه قضية أخرى، أصطاد في بعض المرات، أحياناً أعثر
على أسماكٍ كثيرة، وفي مراتٍ أخرى لايوجد أيّ شيئ.
في بداية الفيلم، رجعت بشكلٍ سريّ، بالتأكيد، ولكن بالغناء والرقص،
وفي نهاية الفيلم، نشاهدك في مواجهة مرشحٍ للمنفى، لايستطيع الهرب
من بلده، هناك غوص بطئ وقاسٍ في التعاسة، هل تشعر دائماً بأنك سجين
للعراق ذهنياً ؟
)-صمت) لا، لست سجيناً للعراق، أحمل العراق 000داخل قلبي.
(Baghdad
On/Off)،
رائع، وغامض، لماذا إخترتَ هذا العنوان ؟
-ولِمَ لا ؟ العنوان هو بمثابة برنامج، وفي هذا العنوان هناك
تشائمٌ رهيب، لأن >بغداد< مكتوبة بالإنكليزية، واليوم، لم يعدّ
>العراق< أبداً في أيدي العراقيين أنفسهم.
في الفيلم، هناك رجلٌ هرب من بغداد يقول جملةً مدهشة: يتضرع إلى
الله والأمريكان لكي ينقذوا هذا الشعب المسكين في العراق.
-أيّ صفعة ! للجميع، وحتى للمعارضة العراقية، وللبلاد العربية،
وحتى للإله نفسه !
لماذا تكرر شخصية الدليل دائماً جملة >أنا شعلي< ؟
-إنها جملةٌ تكراريةٌ عراقية معروفة جداً، تعبّر بالآن عن الجبن
والعجز، هي تعبر أحياناً عن العجز، ولكنها في غالب الأحيان، تخفي
جُبناً.
في بداية الفيلم، إمرأة عجوز لاجئة، تقدم لك بيضاً هديةً لأمك
المريضة، وفي نهاية الفيلم يتكسر البيض، ماذا يعني ذلك ؟
-إنها نهاية رحلة،00 نهاية وهم، اللحظة التي لم يعدّ هناك أيّ
إمكانية، المقدمات المنطقية بأنني لن أصل أبداً إلى >بغداد< قبل
موت أميّ، البيض، ليس مُحايداً في ثقافتنا، ولاحتى في الثقافة
الإنسانية، وهذه المرأة التي أعطتني القليل منه، هي التي تشرح معنى
>الأنفال< في كلماتها : >اليهود والأرمن أيضاً قد تأنفلوا<، هذه
الفلاحة، وعلى بعد 04 كيلومتراً من قريتها، تشعر بنفسها غريبة، على
هذه المعرفة الكونية التي تجعلها تقول : >لقد تأنفلوا مثلنا.
هذا يعني بأنها قد تعرضت، هي أيضاً، للتهجير.
-نعم، وهي تمتلك هذه المبادرة الإنسانية من الكرم، والإنفتاح، ومنح
القليل الذي تملكه، وهي بالتأكيد بحاجةٍ إليه أكثر مني، هذه
المرأة، هي >المرأة العراقية<، إنها أميّ، وأمّ كلّ العراقيين..
ودلالة البيضة ؟
-البيضة، هي المكان الذي يتشكل فيه الحيّ، وبالآن، سرّ مايمكن أن
يصبح عليه، عندما نحمل بيضاً بين أيدينا، لدينا الإمكانية بأن
نوصلها حتى الحياة، أو نكسرها في منتصف الطريق، لقد كسرنا بيض
العراق..
كيف يمكن الخروج من تجربةٍ مماثلة ؟
-بألمٍ، وحماس.
هل طهر الفيلم رغبتك في العراق ؟
-لاأحبّ هذه الكلمة، تطهير، لا، أعتقد بأنها قد حررتني، أو بشكلٍ
أدّق، منحتني وسائل خاصّة بي كي أناضل من أجل العراق، وسائل ليست
في خدمة أحدّ، لأن معارضتي لـ>صدام حسين<، بعيداً عن السياسة التي
إتخذها، هي معارضة أخلاقية، أجد بأن >العراق< يستحق بأن يحكمه
أناسٌ آخرون، غير حفنة الأميين، القتلة والمتوحشين، العطشى للدم،
والمسكونين بأفكار العصور الوسطى.
بالنظر إلى الماضي، ماذا كان الأكثر صعوبة بالنسبة لكَ خلال تلك
المغامرة ؟
-ما أحتفظ به في ذاكرتي، وفي جسدي، هي معاناة آلام الظهر، ألمي
الجسديّ فترة التصوير، كنت عاجزاً، شعرت بألمٍ لايُحتمل، لقد عشتُ
العراق من جديدٍ في الألم.
هذا يعني بأنك لاتستطيع العودة للعراق بشكلٍ مغايرٍ عمّا وصلت منه
؟
-هذا يتوقف عليكِ، على فهمكِ الخاصّ000 ولكن، هذا الألم هو ماتبقى
لي000، ماعدا القلق على الحدود لإخراج الأشرطة، وقد تحملتُ الأخطار
على عاتقي، فإما أن أنجح أو أفشل، لقد عبرت الحدود، ولكن البيض
إنكسر.
صحيح، ولكن فيلمك ظهر إلى النور..
-وتمت إثبات الحالة والمعاينة.
ما هي مكانة (Baghdad
On/Off)
في أعمالك ؟
-ليست مهمتي تحدّيد ذلك.
ومشروعك القادم ؟
-دعيني أستعيد أنفاسي أولاً.
نقلاً عن موقع
"سينمائيون"
(http://www.cinemaion.com/)
|