«وددنا
لو أحببنا الفيلم أكثر» علق أحدهم. لم نعارض. دخلنا الفيلم والنيات
الحسنة تسبقنا. فالموضوع (الغربة) موضوع شيق لا سيما لمن فيها، و «فلسطين»
المكان
حلم دائم. الفيلم كان قد هلل له، ليس النقاد في أسبوع المخرجين
في كان فحسب، بل
الجمهور كذلك. تجمعت الأسباب كي «نحب» الفيلم إذاً، ولكن هذا الحب أتى
محيّراً،
مربكاً غير صريح.
مكانك، لا مكان... هذه قناعة نخرج بها. السعادة بعيدة المنال سواء في الوطن
أم
في الهجرة. إذاً علينا التأقلم. لكن، لمَ التأقلم بعيداً؟
لعلها حاجة إنسانية،
محاولة التغيير، حب المغامرة، تأمين المستقبل، أو لعله فقط الهرب من واقع
ما. منى
بطلة فيلم «أمريكا»، للأميركية من أصل فلسطيني شيرين دعيبس، أرادت الهرب من
خيانة
زوجها لها وطلاقها، من الجدار العازل الذي جعل مسيرتها اليومية
إلى مركز عملها في
أحد المصارف في الضفة، تطول ساعتين، من العتاب المستمر لأمها المقيمة معها،
ومن
قلقها على مستقبل ابنها في هذا البلد حيث لا مستقبل... وأيضاً من بدانتها.
أرادت
تجريب حظها في أميركا حيث تقيم أختها مع زوجها الطبيب وبناتها.
بيد أنها سرعان ما
تتساءل بعد وصولها: «ولكن ماذا أفعل هنا»؟!
ماذا تفعل هنا؟
هذا العالم «المظلم» الذي أرادت منى الخروج منه، كان يبدو مضيئاً على
الشاشة.
اللقطات لم تفلح في جعله قاتماً. كم بدت فلسطين جميلة بمرتفعاتها وأشجار
الزيتون
فيها، كم بدت الحيوية مشرقة في حياة الناس في الشرق. مشاهد حيوية الشرق في
الفيلم
كانت على تناقض تام مع المشاهد الداكنة للغرب. رسم السيناريو
شخصية لمنى قوية
منفتحة متفائلة في النجاح على الأرض الواعدة، فيما راحت العدسة في اتجاه
مغاير،
خيمت الإضاءة القاتمة والأجواء المحصورة الخانقة... لعل هذا التناقض بين
رغبة
البطلة في التأقلم من جهة وبين الصورة التي لم تعكس ما يدعم
هذا الاتجاه هو ما يربك
المتفرج، كما إصرارها على البقاء بعد كل ما أصابها وولدها وأيضاً عائلة
أختها في
البلد الجديد. المخرجة لا تعطينا أسبابا مقنعة لبقائها حقا ولا تبدي لنا
حيرتها أو
ترددها إلا في البداية ما
يجعل السؤال مطروحاً طوال الفيلم» ولكن ما الذي تفعله
هنا»؟ ألا توازي المشاكل التي هربت منها منى ما تعرضت له بعد وصولها من
عنصرية وعمل
في مكان أدنى اجتماعياً، من وجهة نظرها هي على الأقل، حيث
تحولت من موظفة في مصرف
في فلسطين إلى عاملة في مطعم للوجبات السريعة في أميركا. كانت المواقف مذلة
في
البلدين، فهل هي أصعب في الوطن؟
هذه البراءة التي حلت بها منى في أميركا، تذهب إلى حد السذاجة أحياناً، كأن
تتوقع أنها ستجد عملاً في المصرف بمجرد قدومها إلى أميركا،
وكأن ابنها سيجد مكانه
فوراً في المدرسة الجديدة ويلقى قبول زملائه، كما أن حرارتها وصراحتها في
الكلام مع
رجل الأمن العام الأميركي، وموظفة المصرف وطريقتها في بيع أدوية التنحيف
لحسابها في
المطعم الذي كانت تعمل فيه... بدت بلهاء مقارنة مع السلوك
الغربي.
الفيلم جمع قضايا عدة. الاحتلال والهجرة والعنصرية وتربية الأبناء. حاول أن
يبرزها من دون أن يتعمق فيها تماماً. بقي على السطح بعض الشيء
وضمن الأكليشيهات،
التي لم ينجح في تجاوزها إلا أحياناً. رأينا مراراً وتكراراً التفتيش في
المطارات
الغربية، وقلب الحقائب رأساً على عقب (خصوصاً بعد الحادي عشر من سبتمبر
فترة وصول
البطلة إلى أميركا)، عنصرية الشباب الأميركي، الارتياب بأن كل
عربي، مسلماً كان أم
مسيحياً، هو إرهابي، كل اليهود ليسوا كالإسرائيليين... كل هذه الإشارات أدت
إلى
توقع معظم ما يورده الفيلم، لا مفاجآت. هذا من حيث المضمون أما من حيث
الشكل، فقد
جاءت الإضاءة كما سبق وأوردنا معتمة، ولا نعرف إن كان ذلك مقصوداً أم بسبب
طريقة
التصوير التي راعت نواحي إنتاجية مالية.
تحول ما
بيد أن المخرجة وفقت في إبراز بعض القضايا في عملها الأول هذا، المهم على
رغم ما
ذكر سابقاً. حين بينت على نحو واقعي ومعمق التحول في علاقة
الآباء مع الأبناء في
الغرب. بطريقة تجاوزت فيها هنا الكليشيه وخدمت الفيلم وأغنته من دون أن
تثقل عليه.
فانحراف الأولاد نحو الجنس والمخدرات،
وتغير نظرتهم للعائلة بحيث تغدو تلك على هامش
حياتهم وليس في عمقها كما يحصل في العالم العربي، عبرت عنها
جملة في حوار بين منى
وابنها. «منذ متى تكلمني هكذا»؟ تقول الأم يائسة لابنها وهي ترى تحوله في
أسابيع
قليلة، «منذ الآن» يرد ببساطة.
قد يكون الفيلم نجح من حيث لم يقصد، فعلى رغم إصراره على عدم الانحياز نحو
جهة
ما حين أبرز بحيادية كل وجهات النظر الممكنة، فقد بدا الغرب
كئيباً والشرق محبباً
ولحظات السعادة لم تكن لتأتي في هذا الغرب إلا حين نتلمس ما هو قادم من
شرقنا، حين
نذهب إلى مطعم شرقي مثلاً كما حصل في نهاية الفيلم، ولم تبد أي لمحة أو
بارقة تشجع
على الذهاب إلى هناك، حتى عند التوقف على الموقف النبيل لهذا اليهودي
اللطيف مع
منى.
الحياة اللندنية في
24/07/2009 |