فلنضع جانباً هنا فيلم جورج ميلياس الرائد «رحلة الى القمر» (1902)
المقتبس،
كأول فيلم من نوع الخيال العلمي، عن رواية جول فيرن، ولنستعرض
كل الأفلام التي كان
الكوكب المجاور للأرض ميداناً لها أو موضوعاً. ولنفكر! أي من هذه الأفلام
كان
الأجمل والأبقى؟ أي من هذه الأفلام كان الأكثر حملاً للوعود، حتى إذا خابت
الوعود
بقي الفيلم. الجواب لن يستغرق وقتاً: هو «2001 أوديسة الفضاء»
تحفة ستانلي كوبريك
المأخوذة، بتصرف عن نص لآرثر سي كلارك. و «بتصرف» هذه تحتمل تأويلات كثيرة،
حسمها
المؤلف يومها حين لُفت نظره الى ابتعاد الفيلم عن قصته، فقال: هو، في نهاية
الأمر
فيلم لكوبريك. أشاهده بمتعة، بفرح، بعمق من دون أن أسأل نفسي
عما إذا كان قريباً أو
بعيداً من نص كتبته وقرئ، وانتهى أمره.
فيلم «2001 أوديسة الفضاء» حقق وعرض عام 1968، ليعتبر من حينه واحداً من
أعظم
الأفلام في تاريخ السينما، و «فيلم الخيال العلمي» الأشهر
والأروع من دون
منازع.
ويقيناً أن هذا التصنيف لا علاقة له إطلاقاً بكون الفيلم ظهر وسط الزمن
الذي كان
يسمى الزمن الفضائي: حين كان السوفيات والأميركيون يتنافسون
على الوصول الى الفضاء.
ومع هذا، حين قصدت يوم 20 تموز (يوليو) 1969، بعلبك لحضور واحد من عروضها،
في ليلة
صافية رائعة، لم يكن بد من أن يكون فيلم ستانلي كوبريك في البال. والسبب
منطقي:
فالعرض الذي كان يُقدم ذلك المساء في معبد باخوس، كان عرضاً فضائياً:
استعراض لفرقة
آلفن نيكولاييس، مستلهم من عصر الفضاء. واحد من تلك العروض التي كانت تكثر
في
برودواي وخارجه في ذلك الحين وتستقطب ألوف المتفرجين. وآلفن
نيكولاييس وفرقته كانا،
خلال تلك السنوات الذهبية، من أشهر علامات الرقص الحديث. من هنا ما كان
تقديم في
هذا المجال ممكناً من دون دنو من الفضاء. وبالنسبة الى السينمائي والناقد
المبتدئ
الذي كنته في ذلك الحين، ما كان يمكن مشاهدة عرض لباليه فضائي
وسط حجارة بعلبك، من
دون التفكير، وفي كل لحظة،
بفيلم كوبريك. لاحقاً... أي بعد قليل كان عليّ أن أكتشف
أنني في غمرة اهتمامي بالعرض الراقص، والفيلم الممتع، أي
بالفن، نسيت - كعادتي في
ذلك الحين، وربما كعادتي دائماً - ما هو الى جانب الفن: الحياة نفسها. لكن
النسيان
لم يطل.
* * *
لم يكن اختيار معبد باخوس لتقديم عرض آلفن نيكولاييس عليه، اختياراً غريباً
أو
مفاجئاً... لكن العرض نفسه كان غريباً ومفاجئاً. ما أذكره منه
الآن يضعه، في
ذاكرتي، الى جانب فيلم ستانلي كوبريك تماماً. كان، بالنسبة الى فن الرقص
الحديث، في
مستوى ما كانه - ولا يزاله - «أوديسة الفضاء» بالنسبة الى سينما الخيال
العلمي. كان
فناً كبيراً، ندر أن عرفته عروض مهرجان بعلبك، على رغم أن تلك العروض كانت
دائماً
مميزة، على صعيد العالم كله. غير أن العرض الحقيقي كان بعد
قليل، بعد دقائق من بدء
العرض. ولكأن حركة الطبيعة شاءت لحظتها، أن تمهد المزاج والجو لما حدث، بدا
المشهد
فوق المسرح، وتحديداً من المكان الذي كنت أجلس فيه مع بعض الأصدقاء ومنهم
السينمائية الراحلة جوزفين صباغ وابنتها - الراقصة التي درست
الرقص الحديث في لندن
وفيينا لاحقاً ثم اختفت تماماً -. فمن ذلك المكان كان المشهد مبهراً منذ
البداية:
الراقصون يدورون ويؤدون رقصتهم الفضائية
بألبسة بدت طالعة مباشرة من فيلم «موديستي
بليز» لجوزف لوزاي. والعمود النصفي الحجري يتوسط ساحة المسرح
كعادته دائماً مشكلاً
نقطة مركزية، لا شك في أن آلفن نيكولاييس استخدمها في شكل جيد كنقطة
استقطاب
للاستعراض كله. والغريب أن القمر، الذي كان في تلك الليلة بدراً، كان يقترب
في
حركته من وسط المسرح، حتى حدث له في لحظة معينة، أن اعتلى أعلى
العمود تماماً، على
الأقل من حيث كنت جالساً. فبدا مثل حرف تعجّب مقلوب مع العمود. طبعاً
أدهشني الوضع
تماماً، وأصرّ فيلم «أوديسة الفضاء» على الاستحواذ على تفكيري كلياً.
والتفتّ الى
السيدة صباغ لألفت نظرها، فإذا بها دامعة العينين مندهشة تصلب
يدها على وجهها،
وربما للمرة الأولى منذ عرفتها. وقبل أن أتساءل بيني وبين نفسي، عن سبب ذلك
التصرف
الديني - العاطفي من قبلها، صمتت موسيقى العرض فجأة، في تلك اللحظة بالذات.
وجمد
الراقصون في أماكنهم، وارتفع صوت مذيع يقول بالإنكليزية وصوته
يتهدج: سيداتي سادتي.
أرجو أن تمنحوني دقيقة من وقتكم. سنستأنف العرض بعد ثوان. أما الآن فأود أن
أنقل
إليكم خبراً يهم البشرية جمعاء خبراً عما يحدث الآن، في هذه اللحظة بالذات
على سطح
هذا الكوكب الذي ترونه من جلستكم وكأنه جزء من ديكور العرض. في
هذه اللحظة بالذات،
أعلن مسؤولو وكالة الفضاء الأميركية، أن رواد الفضاء الثلاثة وفي مقدمهم
أرمسترونغ،
قد هبطوا على سطح القمر وخطوا على تربته أول خطوات بشرية في أي مكان خارج
كوكب
الأرض.
* * *
وإذ صمت المذيع... حل صمت في المدرج، خيل إلينا أنه طال ساعات، مع أنه في
الحقيقة لم يدم أكثر من جزء من الثانية، ليرتفع بعده الصراخ
والتصفيق، مختلطاً
بموسيقى العرض، التي استؤنفت تماماً، من دون أي تعديل، أو إضافة. وهي في
الحقيقة ما
كانت في حاجة إليهما. وبدا المشهد في الدقائق التالية مدهشاً، حيث واصل
البدر توجهه
في كبد السماء من يسار المسرح الى يمينه، متخلياً، بالنسبة الى كل متفرج
على حدة،
عن ارتقائه أعلى العمود النصفي. ولا شك في أن كل واحد من
المتفرجين في تلك الساعة،
شغّل خياله ليجعل من الرجال الثلاثة السائرين فوق أرض القمر، جزءاً مفترضاً
من
المشهد. أما بالنسبة إليّ، فقد بقي المشهد برمّته، مع مقدماته، ومع ما
تختزنه
الذاكرة من مشاهد فيلم ستانلي كوبريك، ومن رقص فرقة آلفن
نيكولاييس الفضائي، ليس
فقط جزءاً من الذاكرة، بل إلحاحاً دائماً للذاكرة. لكنني كنت أفترض أن
المشهد لا
يزال في حاجة الى نهاية. الى استكمال، وأكاد أعتقد الآن أن هذا الاستكمال
حلّ بعد
ذلك بثلث قرن أو أكثر قليلاً. وتحديداً في مراكش. إذ خلال
واحدة من أولى دورات
مهرجان هذه المدينة السينمائي، حدث أن أعلن عن عرض فيلم «أوديسة الفضاء»
عرضاً في
الهواء الطلق في ساحة الفنا. ومنذ ما قبل العرض، بدت لي الشاشة البيضاء
العملاقة
المنتصبة وسط الساحة، أشبه بذلك النصب الأسود المرتفع الذي
يصاحب أقسام الفيلم، منذ
فجر التاريخ حتى بدايات الألفية الثالثة، والذي يرمز - مبدئياً - الى
السؤال
المجهول الذي لا يتوقف الإنسان عن طرحه على نفسه، ومنذ كان قرداً - بحسب
نظرية
داروين، وكذلك بحسب المشهد الأول من الفيلم، حيث يجابه النصب
الأسود القردة حين
تكتشف العنف للمرة الأولى -. وبعد ساعة حين بدأ عرض
الفيلم يومها، أمام عشرات من المتفرجين الذين تجمعوا مدهوشين
في ليلة صاحية، بدت
بالنسبة إليّ شبيهة جداً بالليلة البعلبكية القديمة، التفت جانباً وكنت
واقفاً بين
الحضور أتذكر الفيلم وآلفن نيكولاييس وأفكر بالعمر الذي يمضي سريعاً،
وبالبدر الذي
لم يطرأ عليه أي تغيير خلال ثلث قرن، التفت لأجد ثلاثة من قردة ساحة الفنا،
ينظرون
بدهشة الى اخوتهم على الشاشة، ثم يطرقون بأيديهم بعنف كما يفعل
أولئك.
والغريب الغريب في هذا كله، هو أن استعادة المشهد في ذهني، بما في ذلك مشهد
القردة والنصب والقمر والفيلم والاستعراض الراقص، لم يدفع الى
ذاكرتي أي شيء يتعلق
بآرمسترونغ ورفاقه أو بالخطوة الأولى للبشرية. وكأن كل ما حدث بين بداية
استعراض
آلفن نيكولاييس، وتلك اللحظة المراكشية كان جزءاً من نسيان طويل، لم يفق
إلا منذ
أيام...
الحياة اللندنية في
24/07/2009 |