تمر السينما في البلقان بأزمة كبيرة بعد التغيرات السياسية الكبيرة
التي أخرجت السينما من كنف الدولة الاشتراكية الأم الراعية لهذا الفن إلى
المجتمع المفتوح الذي لم تعد فيه الدولة قادرة على تقديم أي دعم للسينما
ولغير السينما من فروع الثقافة. في هذا الوضع توقف الكبار عن العمل بعد
تراث من الإخراج السينمائي ومجد ارتبط بموضوعات لم تعد تشغل الناس الآن
(حرب التحرير الشعبية إلخ). أما مساعدوهم أو الجيل الثاني من المخرجين
والجيل الثالث الشاب الذي درس في أوروبا والولايات المتحدة فهم يبحثون عن
أي دعم في الخارج لتمويل مشاريعهم الجديدة ، التي تكون غالباً مرتبطة
بأجندات الجهات الممولة.
من الجيل الرائد والمخضرم الذي بقي على قيد الحياة لدينا المخرج
الكوسوفي أكرم كريزيو. وفيما يتعلق بكوسوفو بالذات فالأمر فيه خصوصية ،
صحيح أن صربيا حكمت كوسوفو منذ 1912 واندرجت معها في يوغسلافيا منذ 1918 ،
ولكن كوسوفو بقيت عدة عقود خارج المكان والزمان نتيجة لسياسة الدولة
التمييزية ضد سكانها الألبان. وهكذا إذا كانت أول رواية كوسوفية في
الألبانية ("بدأ العنب ينضج" لسنان حساني) صدرت في 1957 فليس من المستغرب
أن يكون أول فيلم كوسوفي ناطق بالألبانية قد تأخر إلى ,1968 هذا الفيلم كان
"أوكا الجبال الملعونة" الذي بدأ فيه حياته الفنية المخرج الكوسوفي الشاب
أكرم كريزيو ، الذي أصبح بعدها اسماً معروفاً سواء في عالم الفن (السينما)
أو في عالم الواقع بعد أن دخل السجن في 1981 بوزنه الطبيعي 75 كغ وخرج منه
في 1985 وهو يحمل فقط 45 كغ.
ولد أكرم كريزيو في جاكوفا عام 1944 وقد ذهب إلى بلغراد لدراسة
السينما في الجامعة هناك حيث التقى بمواطنه بكيم فهميو ، الذي أصبح لاحقاً
ممثلاً معروفاً على المستوى اليوغسلافي والأوروبي بعد أن مثل في 1966 دور
أوليس في الفيلم الالماني الفرنسي"الاوديسة" وشارك في الفيلم المعروف
"والغجر سعداء أيضا". وبعد تخرجه من الكلية عاد إلى بريشتينا حين كانت
كوسوفو تشهد تحولات كبيرة سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية.
في هذه الظروف كان من المطلوب أن يكون لكوسوفو كل شيء أسوة بالوحدات
الفدرالية الأخرى (دستور وبرلمان إلخ) ، ومن ذلك مؤسسة للسينما تنتج وتوزع
الأقلام. وهكذا ولدت "كوسوفا فيلم" في 1968 التي تولى إدارتها الكاتب حازم
شكريلي (توفي )1996 وانضم إليها أكرم كريزيو.
ومع هذه المؤسسة كان من المطلوب أن تنتج كوسوفو فيلمها الأول الناطق
بالألبانية. ونظراً لعدم وجود إمكانيات كافية في كوسوفو فقد عهد للمخرج
الصربي الشاب ميكي ستامنكوفيتش بأن يخرج هذا الفيلم (الذي كان الأول له بعد
أن كان يعمل مساعداً للمخرج الصربي المعروف جيسكا ميتروفيتش) وأن يكون أكرم
كريزيو مساعداً له. وبعد هذا العمل السينمائي الأول توجه كريزيو للأفلام
الوثائقية حيث أخرج للتلفزيون الكوسوفي عدة أفلام إلى أن عهد إليه في 1978
بإخراج فيلم "حين يتأخر الربيع" الذي كان أضخم إنتاج كوسوفي من نوعه.
ويستذكر كريزيو الآن أن هذا الفيلم كان يعبر عن تلك المرحلة السياسية.
فحتى ذلك الحين كانت حوالي %30 من الأفلام اليوغسلافية تدور حول "حرب
التحرير الشعبية" التي كانت تحاول أن تبث روح "الأخوة والاتحاد" بين الشعوب
والقوميات في يوغسلافيا. ولكن قبيل موت تيتو (1980) اشتدت النزعة الكيانية
في الوحدات الفدرالية وأصبحت كل وحدة تريد أن يكون لها فيلمها الخاص عن
"حرب التحرير الشعبية". وهكذا فقد فوجئ أكرم حين استدعته القيادة السياسية
آنذاك (جاويد نعماني) وقالت له أنها تريد لكوسوفو أن يكون لها فيلمها الخاص
في هذا المجال.
وبهذا المعنى فقد كان الفيلم سياسياً ، حيث أن السيناريو أعد
بالاستناد إلى يوميات فاضل خوجا رفيق تيتو في السلاح والذي كان يمثل كوسوفو
في مجلس الرئاسة اليوغسلافي ، كما أن القيادة السياسية وفرت له كل الدعم
المادي المطلوب. كان على هذا الفيلم أن يوصل رسالة إلى المشاهد الكوسوفي
واليوغسلافي في أن كوسوفو شاركت أيضاً في "حرب التحرير الشعبية" (على عكس
ما يقال) وقد استحقت لأجل ذلك ما تتمتع به من مكانة جديدة في يوغسلافيا
التيتوية.
ويستذكر كريزيو بتندر كيف أن المسؤولين الحزبيين والسياسيين كانوا
يزورون أماكن التصوير ويتفقدون سير العمل في الفيلم بالإضافة إلى الحضور
الخفي لاجهزة الأمن للتأكد من أن كل شيء يسير كما هو مطلوب.
كان عرض هذا الفيلم في 1979 إنجازاً كبيراً لأكرم كريزيو وللقيادة
السياسية في كوسوفو التي حرصت على أن تكون موجودة في العرض الأول للفيلم.
ولكن بعد عدة شهور من التمتع بالنجاح جاء موت تيتو في أيار ليبدأ سيناريو
الاتجاه المعاكس بالنسبة إلى كريزيو. فبعد مظاهرات ربيع 1981 وصعود المد
القومي في كوسوفو وصربيا ألقي القبض على كريزيو في تشرين الثاني 1981 وحكم
عليه في حزيران 1982 بالسجن لمدة ثماني سنوات بتهمة إثارة المشاعر القومية
، ولكنه أطلق سراحه في ,1985
بعد إطلاق سراحه خاض تجربة الإنتاج والإخراج حيث أسس مع أولاده
الثلاثة شركة "لابيا" ، التي أنتجت عدة أفلام فنية ووثائقية منها "ضحايا
تيفار" و"طريق دون عودة" و"الخبز المر" و"حب الجبال الملعونة". ومن هذه فقد
شارك الفيلم الأخير في مهرجان أفلام المتوسط الذي عقد عام 1998 في مدينة
كرانيا بسلوفينيا.
بعد حرب 1999 تغيرت الأوضاع في كوسوفو بعد انسحاب القوات الصربية
منها. فقد تأسست شبكات تلفزيونية متنافسة ودخل مجال الإخراج والإنتاج جيل
جديد نشأ ودرس في أوربا والولايات المتحدة خلال الحكم القسري في كوسوفو
1981 - ,1999 وقد عاد هؤلاء من أوربا والولايات المتحدة بخبرة جديدة ونظرة
مختلفة إلى مجتمعهم الذي نشأوا بعيداً عنه.
ومن هنا يلاحظ أن المخرج كريزيو يعاين بقلق عمل هؤلاء الشباب الذين
يمثلون الجيل الثاني والثالث من المخرجين في كوسوفو. ففي مقابلته الأخيرة
مع جريدة "شكولي" الألبانية (عدد 2 ـ 3 ـ )2009 يعبر كريزيو عن قلقه البالغ
للوضع الحالي للسينما في كوسوفو نتيجة لأن الألبان انتقلوا من "رقابة
صربية" إلى "رقابة دولية". فخلال الإدارة الدولية لكوسوفو 1999 - 2008
"لدينا الكثير من الأعمال في السينما والمسرح التي ليست بلحم ولا سمك ولا
نبيذ ولا ماء".
وفي اتهام مباشر لبعض زملائه الذين يقبلون بشروط المانحين الجدد يقول
كريزيو: "إن بعض المبدعين الكوسوفيين المعروفين يتحولون إلى كائنات هجينة
بارتباطاتهم مع صناديق المنظمات غير الحكومية التي تريد تغيير هويتنا ، بأن
تجعلنا أوربيين أكثر وألبانيين أقل".
ومع هذا الاتهام يصل كريزيو إلى نتيجته بأن زملائه يتهددهم الضياع بين
فقدان ذاتهم وكسب العالم ، ويؤكد على أنه "لا يمكن أن نكون من العالم إذا
لم نكن نحن أولاً ". ويستشهد كريزيو في هذا السياق بالكاتب الألباني
المعروف إسماعيل كاداريه "الذي أصبح عالمياً بفضل ألبانيته".
أستاذ في كلية الاداب بجامعة آل البيت
الدستور الأردنية في
10/07/2009 |