التقطت السينما هذه النماذج"افرادا ومجتمعا"وطرحتها سينمائيا ، وسط
جدل آراء متباينة ، البعض يرى فيها تشويها لصورة المجتمع المصري ، من خلال
عرض نماذج شائهة وخارجة على القانون ، والبعض يرى ان وظيفة الفن تتمثل
بالتقاط الحالة واعادة انتاجها دراميا ، وتترك المعالجة لاصحاب القرار ، او
لدور القيمة المعنوية للمجتمع ، ووضع الكرة في مرمى الذين يملكون ولاية
الامر ، فما كان ممكنا ان تنشأ هذه الحالات بهذا التضخم لو انهم قاموا
حقيقة بمسوؤلياتهم تجاه المجتمع.
"ابراهيم" هو الصبي الصغير الذي تسبب بموت والده ، وقاتل والده ،
تفتحت عيناه على الدم ، واغمضهما في آخر لحظة في حياته على بركة من دمائه ،
بعدما اسال انهارا من دماء الناس عبر رحلة من العنف والقسوة ، واجادة
استعمال السلاح الابيض ، دون ان يلجأ للاسلحة النارية والرصاص ، فهو يجيد
استخدام البلطة والمطوى ، وله اسلوبه الخاص به في القتال بالسلاح الابيض.
"ابراهيم الابيض" ( احمد السقا ) الذي كان تشاجر مع طفل
معاق"منغولي"ليحضر والد الطفل ووالدته ، وينهالون ضربا على الوالد افضى الى
موته ، ليقوم الرجل باحتضان"ابراهيم"وضمه اليه ، ليتربى في حضن قاتل والده
، وهو يحمل في ذاكرته صورة ابيه القتيل ، ووصية امه له بأن لايسمح لاحد
بالدوس عليه ، هذه الوصية التي تحمل خبرة الام ، وتجارب سني عيشها ،
ومعرفتها بالبيئة التي تعيشها ، والتي سيترعرع فيها ابنها ، ومن ثم يتشاجر"ابراهيم"مع
الطفل نفسه ، ليتطور الامر الى قتل الاب ، بعد ان اتقن "ابراهيم"فنون
استخدام السلاح الابيض بمهارة عالية. هذا القتل اعطى شهادة مرحلة جديدة في
حياة"ابراهيم"من المطاردات والمتاجرة بالمخدرات والقتل ، وفي الوقت نفسه
تتم حالة احتضان ثانية له من قبل سيد المنطقة"عبدالملك زرزور"( محمود
عبدالعزيز ) ، الذي يضم تحت جناحيه اولاد القتيل: الطفل المعاق واخته"حورية"(
هند صبري ) ، لتعود لاحقا في شكل دورة جديدة من العلاقات التي تؤجج مشاعر
الحب والكراهية والانتقام بين الشخصيات التي بقيت على قيد الحياة.
مشهد طويل من المطاردات والقفز فوق السطوح ، واشتباكات في الازقة
الضيقة ، والدماء تغطي المكان والاجساد ، والسلاح الابيض يخرج لامعا ،
وينغرس في الاجساد كيفما اتفق ، ليعود مخضبا بالدماء ، وقتل بدم بارد وسط
سكان الحي الذي لم يحدد الفيلم هويته.. فاذا كان يرمز الى العشوائيات
والاحياء الشعبية ، فتلك مبالغة هائلة ومقاربة غير منطقية ، لانه ينزع عنها
انسانيتها ، وتنوعها. البيئة التي تدور فيها احداث الفيلم هي بيئة اما قاتل
او قتيل. ومنطق البلطجة ولغة القوة هو الذي يحكم الناس الذين يعيشون فيها
ولا يملكون الا ان يختبئوا من الموت الذي يلف حياتهم اذا استطاعوا. والبطل
هنا:"ابراهيم"خلق عالما خاصا به ، اختار طريقه ، والمخاطر حوله ، فالموت
قادم في اية لحظة من الغفلة. وهو ليس فتوة الحارات المصرية ، التي تحكمها
اعراف وتقاليد مقبولة الى حد ما ، فالبطل هنا يخلق غموض شخصيته ويصنع
اسطورته ، له عالمه الضيق ، وصداقاته المحدودة التي تخونه لاحقا.
" شيبا"احد رجال المعلم"زرزور"يسرق قطعة حشيش كان"ابراهيم" قد اخفاها
، يلاحقه في منطقة المعلم"زرزور" رغم معارضة صديقه"عشري"(عمر واكد ) ،
لكن"ابراهيم"يعتبرها جرأة تصل الى درجة الاهانة ان يتم الاقتراب منه بهذا
الشكل وسرقته ، فيخرج وسط الحي يضرب يمينا وشمالا يقتل ويجرح ، ويخلف
الدمار حوله اينما حل ، وعندما تقع عليه عين المعلم"زرزور"يدرك انه امام
صيد ثمين يمكن استثماره في بيع وترويج المخدرات وحماية المنطقة. وبفراسته
وحكمة السنين والتجربة ، يرى فيه الرجل الذي يمكن الاعتماد عليه وتشذيب
طيشه وتسرعه. ومنذ اللقاء الاول يقدم له نصائح في اصول التعامل مع الكبار ،
وانه من غير المنطقي ان يهجم رجل واحد على قبيلة ، ولذلك فانه يضحي برجله
"شيبا"ويعرض على"ابراهيم"العمل معه وتحت مظلته ، رغم معارضة ابنائه ، الذين
يدبرون مؤامرة للايقاع به وقتله ، لكنه ينجو منهم ويعود واحدا من اقوى رجال
المعلم الكبير.
الفيلم يضيف بعدا اخر للشخصية الدموية من خلال علاقة حب ، وان كانت
سلفا محكومة بالفناء ، فالحب يحتاج الى بيئة تحتضنه ، يتوفر فيها على الاقل
امل بشكل مستقبلي من الاستقرار ، ولكن ما يجري هو دوائر متداخلة من العنف
الذي لا يتوقف. تبدأ العلاقة عندما يلتقي"ابراهيم"الخارج لتوه من احدى
معاركه ، بالفتاة"حورية"( هند صبري ) ، وهي في حالة جدال مع اهل الحي ،
فيتدخل ويدفع المبلغ المطلوب منها ، ومنذ اللحظة الاولى يحاول التأثير
عليها واستمالتها ، وتعجب هي بشخصيته وشهامته ، فيحدد معها موعدا ، ويطلب
من صديقه"عشري"ان يؤمن له سيارة ، يتجولان بها ، وتحقيق رغبة"حورية" باللعب
في مدينة الملاهي ، التي - ورغم انها مغلقة - الا ان"عشري"، يفرض وبالقوة
على صاحب الملاهي ان يفتحها ، حيث يلهوان ، ويقضيان امسية على المراجيح
والالعاب.
لكن"حورية"تعرف من والدتها"سوسن بدر"، بأن حبيبها هو قاتل والدها ،
وتبدأ حالة من التشويش على العلاقة ، وتجاذب وتباعد المشاعر ،
وتشي"حورية"به الى الشرطة ، الذين يلقون القبض عليه بعد مطاردة طويلة
ويحتجزونه في احد المراكز الامنية ، حيث يشاهد التعذيب الوحشي والقاسي من
قبل الشرطة لاحد المشتبه بهم مما يفضي الى موته ، فيصاب ضباط وجنود المركز
بالارتباك ، فيستغل"ابراهيم"هذا الوضع ويهرب منهم.
حالة الحب مع"حورية"فيها كل اشكال التعقيد والتناقض ، يمتزج فيها الحب
والكره والانتقام والخيانة. فهي ابنة الرجل الذي ساهم بقتل والده واشرف على
تربيته لاحقا ، ليقوم "ابراهيم"بقتله. وكما عاش هو في رعاية المعلم
الاكبر"والد حورية"، فانها هي واخوها المعاق ، تعيش تحت رعاية المعلم
الجديد"زرزور" ، الذي يهدد بالموت كل شخص يفكر بالاقتراب من"حورية"، التي
بدأت تكبر وتظهر ملامح انوثتها تحت ناظريه. وكلما نضجت انوثتها كلما ازادت
رغبته بامتلاكها وتأججت مكامن الشهوة في داخله ، الى الدرجة التي صارت نقطة
ضعفه الوحيدة وسط مايمتلكه من قوة ونفوذ. وهو لايملك الا ان يستجيب لرغبتها
بعدم لمسها او الاقتراب منها الا بموافقتها ورضاها.
لكن"حورية"تخونه مع"ابراهيم"ولاحقا يقوم"عشري"بالتسلل الى
مخدعها"اغتصابا او تواطؤا منها"-لافرق - ، فيكون بذلك قد دخل منطقة محرمة
هي خيانة صديقه ، و تساهم بتسليم"ابراهيم"للشرطة ، وسرقة فلوسه ، وقلادة
الذهب التي ورثها عن امه ، والتي تمثل بالنسبة له قيمة معنوية كبيرة.
هذا النمط من العلاقات لابد ان يؤدي باصحابها الى نهايات فجائعية ،
حيث تطلب"حورية"من"عشري"ان يساعد المعلم"زرزور"في الوصول الى مكان"ابراهيم"
، بعد ان تعيد الفلوس المسروقة ، وتقدم مبلغا آخر ، مكافأة له على المساعدة
بترتيب لقاء مع"ابراهيم"بعد ان تعطيه وعدا ، بأن المعلم لن يؤذيه ، وانما
فقط يريد اعادة ترتيب العلاقة بينهما ، كما وعدها "زرزور ".
يدرك"عشري"ان خيانته لصديقه سوف تؤدي الى قتله ، فيحاول الانتحار ،
لكنه يفشل في ذلك ، وكان الموعد قد تحدد في المقهى ، وبحسه الغريزي
يدرك"ابراهيم"ان ثمة خيانة ما ، ويظهر رجال"زرزور"الذين جاؤا لينجزوا
المهمة النهائية ، في مواجهة دموية ، حيث يتم قتل"عشري"بعدما انجز المهمة.
وتدرك"حورية"ان"زرزور"لن يفي بوعده ، فتدخل المقهى لتجد رجال المعلم يجهزون
على"ابراهيم"الذي يلفظ انفاسه الاخيرة. وعندما تركض باتجاهه لانقاذه ، يطلق
المعلم النار عليها ، فتزحف باتجاهه فيحملها ويموتان معا وسط بركة من
الدماء غطت ارض المقهى ، وصبغت الشاشة باللون الاحمر معظم وقت العرض.
مشكلة الفيلم تكمن اساسا في السيناريو الذي خلق عالما افتراضيا ، وان
كانت الصورة قد اوحت وكأنه مستمد من واقع الاحياء المصرية الفقيرة ، او
واحدة من العشوائيات المنتشرة باطراف القاهره. فبالرغم من الديكور المهش
للمكان الذي رسمه"انسي ابوسيف" ، الذي يحمل روح المكان المصري ، الا ان
الاحداث والشخصيات وتعقيدات العلاقات التي تدور داخل المكان ، نزعت عنه
خصوصيته المصرية ، فظهر كأنه معزول تماما عن تجاذبات وتنوع ومكونات المجتمع
المصري. من هنا جاء التشويش في تلقي رسالة الفيلم. فالبطل لايمكن اعتباره
ممثلا لشريحة او نتاجا لحالة ما - باستثناء مشهد قتل والده امامه وهو طفل -
لكن هذا لايؤسس لنموذج يمكن تعميمه ، او يكون معبرا عن حالة قادمة من نسيج
اجتماعي ، او وضع سياسي ، فقد تم اختزال الفيلم في مساحة ضيقة ، بتركيز
شديد على الشخصنة. وحتى الشخصيات لم يتم بناؤها بشكل صحيح ، او رسم ملامحها
بحيث يستطيع المتلقي ان يشتبك معها ، قبولا او رفضا ، وبالتالي فان الفيلم
يسير نحو اللاشئ.. مجرد شخصية لها قوانينها ، وطقوسها ، وعالمها ، الذي
صنعه لها كاتب السيناريو من خياله بشكل معزول الى حد كبير عن الواقع. وحتى
علاقة الحب ، التي كان يمكن البناء عليها ، انهارت وسط متواليات الخيانة
والرغبة بالانتقام والتباس مشاعر الحب بالامتلاك والانتقام.
ان جماليات الصورة ، والمكان ، والتنفيذ الجيد لمشاهد الحركة
والمطاردات والقتال ، لم يقدم شيئا يذكر لصالح الدلالات ، وبقيت مجرد صورة
من الخارج لم تجذب المشاهد الى العمق ، او الاحساس بأن الشخصية قريبة منه
او تخصه بشكل او بآخر. لم يتمدد المشهد بكل دلالاته لأبعد من الشخصية
المرسومة ، ولم يظهر البعد الاجتماعي والسياسي في افعالها ومكوناتها ،
الامر الذي خلق مسافة بين الشخصية والمتلقي ، فلم يعد معنيا بافعالها او
التعاطف معها.
"محمود عبدالعزيز"يعود بدور يؤكد قدرته الهائلة على اقتراح اشكال
للاداء ، ويبرز كواحد من اهم ممثلي هذا الجيل بما يختزنه من ادوات التعبير
، وقدرته على توظيفها بشكل احترافي واحساس عال لصالح الشخصية. اما"عمر واكد"فهو
ممثل يسير بقوة. قدم شخصية"عشري"بكل هامشيتها ، واحباطها ، في توازن ما بين
احساس الشخصية الداخلي ومظهرها الخارجي. وقدمت"هند صبري"دورا مركبا لشخصية
متناقضة ، لم تستطع تحديد موقفها رغم قوتها ، الا انها استكانت لشهوة
الامتلاك عند المعلم. ولم تتذمر من"عشري"لا بل استغلت واقعة تسلله اليها
للوصول الى"ابراهيم"، وكانت تتنازعها مشاعر الانثى والرغبة بالانتقام.
اما"احمد السقا"الذي يبدو انه اصبح متخصصا بافلام"الاكشن"فانه من
ناحية الشكل والمظهر والحركة واستخدام السلاح الابيض ، كان موفقا الى حد
كبير.. لكنه على مستوى الاداء التعبيري ، كان الاقل جودة بين زملائه.
فيلم"ابراهيم الابيض"من تأليف "عباس ابو الحسن"واخراج"مروان
حامد"وبطولة"احمد السقا"و"محمود عبدالعزيز"و" عمر واكد"و" هند صبري"و"سوسن
بدر"وديكور المبدع"انسي ابو سيف ".
ناقد سينمائي اردني
Rasmii01@yahoo.com
الدستور الأردنية في
10/07/2009 |