كل شيء في سيرة جيمس وال ونهايته يؤكد أن صاحب أهم أفلام الرعب في
تاريخ هوليوود
مات انتحاراً، بعدما يئس من شفائه من مرض ألمّ به في آخر سنواته. والشرطة
يومها
أقفلت تحقيقاتها على ذلك. ولكن بعد نحو نصف قرن، أوصل العناد بعض الناس إلى
تقديم
فرضية مختلفة تماماً: فرضيته تقول إن جيمس وال مات قتلاً، وعبر
إخراج يليق بموت
ويليام هولدن في حوض سباحة غلوريا سوانسون في فيلم «سانست بوليفار» أحد
أشهر
الأفلام التي تحدثت فيها هوليوود عن نفسها.
تبدأ الحكاية عند نهاية فيلم كان
في حينه من أشهر أفلام هوليوود، ولكن من المؤكد أنه من الصعب
تلمُّس العلاقة بينه
وبين الحكاية الهوليوودية التي سنرويها هنا، إلا ضمن إطار فرضية بدأت تفرض
نفسها
خلال السنوات الأخيرة. الفيلم الذي نعنيه هو «سانست بوليفار»، الذي يعتبر
الفيلم
الأساسي الذي صور عالم هوليوود من الداخل، ووجه إلى هذا العالم
أصابع الاتهام، فكان
الأكثر قسوة بين الأفلام التي تحدثت فيها هوليوود عن نفسها. أما النهاية
التي هي
أيضاً بداية الفيلم، فترينا ويليام هولدن الذي يلعب دور البطولة في الفيلم،
ميتاً
ملقى على بطنه في حوض السباحة في فيلا النجمة الغاربة غلوريا
سوانسون. وتسمع صوت
هولدن (الميت) وهو يروي لنا حكايته، الحكاية التي قادته إلى تلك النهاية.
ولعل صورة
جثمان هولدن ميتاً وسط الحوض، واحدة من أقسى الصور الهوليوودية في ذلك
الحين.
«سانست
بوليفار» صورة العام 1950.
بعد ذلك بسبع سنوات، اي في العام 1975،
شهدت هوليوود مشهداً مماثلاً، لكنه كان حقيقياً هذه المرة، غير
منتزع من فيلم جثمان
رجل آخر ملقى وسط حوض سباحة على الشاكلة نفسها التي ألقى فيها جثمان ويليام
هولدن.
الرجل الميت هذه المرة كان المخرج المخضرم
جيمس وال. ونهايته تلك اعتبرت انتحاراً،
إذ إن شرطة هوليوود عثرت بين أوراقه على رسالة كتب فيها: «إن
المستقبل ليس أكثر من
شيخوخة وألم». فهل هناك دليل أقوى من هذا الدليل على ان الرجل مات
انتحاراً؟ مهما
يكن من الأمر، واضح انه من مصلحة هوليوود دائماً ان تختار الحلول الأسهل.
فالانتحار
أقل قسوة من القتل.
ثم أوَلم يقل وال في رسالته تلك، أيضاً: «إلى كل الذين
أحبهم. لا تتألموا من أجلي. لقد نفدت أعصابي كلها، وخلال العام الأخير كنت
أعاني
ليلاً نهاراً، كنت أعاني كل الوقت باستثناء المرات التي أتناول
فيها حبوباً منومة.
لقد عشت حياة رائعة... لكن كل شيء انتهى اللآن. وها هي أعصابي تفسد أكثر
وأكثر، وبت
أخشى ان يأخذني هذا كله بعيداً... إذاً، سامحوني. فليسامحني كل من أحبني
وليغفر
الله لي. وداعاً وشكراً لكم على الحب الذي أعطيتموني. عليَّ
الآن أن أخلد إلى
الهدوء وتلك هي الطريقة الوحيدة التي أجدها أمامي».
هكذا يبدو كل شيء
واضحاً: جيمس وال سئم من مرضه وانتحر. ولم يكن أمام الشركة إلا أن تقفل
تحقيقها.
ومع هذا، جرب أن تقرأ شيئاً عن جيمس وال في
أية موسوعة سينمائية وستفاجأ بعبارة
تختتم ما يكتب عنه وتقول: «... وهو انتحر في العام 1975، في
حوض سباحته، في ظروف
غامضة».
فلماذا، «الظروف الغامضة» إذاً؟
بكل بساطة لأن كثيرين
في هوليوود، ومن المقربين إلى جيمس وال، لم يقتنعوا بحكاية الرسالة،
واستثارهم
دائماً ذلك «الإخراج» المسرحي لعملية انتحار جعلها شبيهة بمقتل ويليام
هولدن في
«سانست
بوليفار». وهؤلاء تذكروا أن جيمس وال حين شاهد الفليم قبل سنوات من رحيله
كان تعليقه واضحاً: «يا لها من طريقة للموت!». إذاً، كيف يقتل امرؤ نفسه
بتلك
الطريقة التي كان هو يراها سخيفة؟ ثم كيف يضع حداً لحياته
كفنان، كان ترك السينما
منذ عقد من الزمن، لكنه بدأ على الفور يعيش مغامرة فنية جديدة، حين استعاد
علاقة
قديمة له بالرسم وراح يحقق لوحات كانت تسعده؟
وأخيراً، تساءل أصدقاء وال:
لماذا تبدو هذه الرسالة مرتبة أكثر مما يجب؟ واضحة أكثر مما يجب؟
وعلى ضوء
تلك الأسئلة، على ضوء رفض المقربين من جيمس وال لنظرية الانتحار، راحت
الشكوك
تزداد. وراح كثيرون يتحدثون عن جريمة قتل مرتبة بحذف ودقة، مغلفة بفكرة
الانتحار
التي مالت الشركة إلى الأخذ بها تسهيلاً للأمور.
وأخيراً، منذ سنوات قليلة،
تمخض البحث، لدى بعض أصحاب العناد عن حكاية مختلفة تماماً،
حكاية تميل إلى فكرة
الجريمة: بالنسبة إلى هؤلاء، ليس ثمة أدنى شك في أن جيمس وال مات قتلاً.
أما القاتل
فلا يمكن أن يكون أحداً آخر غير صديقه، الذي أمضى في رفقته آخر سنوات
حياته. ولقد
وصل الأمر بهذه النظرية إلى أن تنتج رواية وفيلماً، يحملان
عنوان «آلهة ووحوش».
والفيلم عرض منذ سنوات ونال بطله ايان ماكلين، الذي لعب دور جيمس وال في
الفيلم،
جائزة الأوسكار. وأعاد شياطين الجريمة إلى ساحة البحث في مصير ذام الذي،
سينمائياً،
يعتبر من أبرز الذين حققوا أفلام الرعب في تاريخ السينما
الهوليوودية. وحسبنا هنا
أن نذكر أنه هو صاحب أفلام مثل «فرانكشتاين» و»الرجل غير المرئي» و»عروس
فرانكشتاين» و»البيت المظلم العتيق» حتى ندرك أهميته في تاريخ
هوليوود.
ولد
جيمس وال في دادلي بإنجلترا العام 1896. وهو، على رغم أنه حقق معظم أفلامه
ضمن إطار
السينما الأميركية، اشتهر دائماً بأنه حقق مواضيع أوروبية، وتعاون مع
ممثلين
رئيسيين من مواطنيه، ما جعله في الثلاثينيات وكأنه زعيم جالية
إنجليزية في
هوليوود.
بدأ وال حياته رساماً صحافياً. وخلال الحرب العالمية الأولى إذ جند
في الجيش الانجليزي وقع في أسر الأمان. وخلال إقامته في السجن اكتشف فن
التمثيل
فراح يتمرن عليه مع رفاق السجن. بعد ذلك حين عاد إلى بريطانيا
انصرف إلى العمل
المسرحي، مخرجاً وممثلاً ورسام ديكور. وفي العام 1928 زار نيويورك حيث عرض
على
مسارحها مسرحية «نهاية الرحلة» من تأليف ر.س. شريف. وبعد ذلك بعام طرأ تطور
أساسي
على حياته حين ذهب إلى هوليوود حيث كلف بتحقيق فيلم سينمائي
مأخوذ عن تلك المسرحية
نفسها. وهكذا كانت بدايته كسينمائي وبدأت الحياة تبتسم أمامه جدياً. بل إنه
وجد في
هوليوود إمكانية أن يعيش حريته كلها، بعيداً عن محافظة المجتمع البريطاني،
وخصوصاً
أن وال كان مثلياً جنسياً... وهكذا قرر أن يبقى في الولايات
المتحدة.
وفي
العام 1930 انضم وال إلى ستوديوهات يونيفرسال ليحقق أكبر نجاح من نوعه حين
نقل
رواية «فرانكشتاين» إلى السينما، ليصبح الفيلم المحقق مرجعاً، ويبني شهرة
بوريس
كارلوف الذي قام بدور الوحش. وهكذا، بين ليلة وضحاها، صار جيمس
وال، وممثلوه
الانجليز (ومنهم كولين كليف ثم إلسا لانكستر)، قبلة أنظار أهل هولييود، وفي
الوقت
الذي راح فيه مخرجون ومنتجون كثيرون يقلدون فيلم وال، منتجين بالعشرات،
لأفلام رعب
مذهلة، كان وال يتابع مسيرته. وهكذا حقق في العام 1933 «الرجل غير المرئي»
عن رواية
ه. ح. ويلز الشهيرة، من بطولة الانجليزي الآخر كلود رينز. ثم بعد ذلك
بعامين، أي في
العام 1935، حقق فيلمه الأشهر «عروس فرانكشتاين» الذي لايزال
يعتبر حتى يومنا هذا،
من أبرز وأجمل أفلام الرعب في تاريخ هوليوود. ومن جديد كان العاملون في
الفيلم من
الانجليز، إذ جميع الفيلم بوريس كارلوف (في دور الوحش مرة أخرى) وكولن
كليف، وإلسا
لانكستر في دور الخطيبة الوحشة التي تنصع، حسب رواية ماري شيلي الأصلية،
قطعة قطعة،
وتثير الرعب. وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً، وخاصة أن جيمس وال
تعمد أن يجعله مرحاً
فيه شيء من الكوميديا السودءا على الطريقة الانجليزية، وإضافة إلى هذا طعّم
المخرج
فيلمه بأبعاد قربته من عالم التعبيرية الألمانية المحبب لدى النقاد والفاتن
بالنسبة
إلى الجمهور.
وهكذا بعد هذا الفيلم صار جيمس وال قيمة حقيقية في هوليوود.
وراحت تنهال عليه العروض لتحقيق أفلام
مشابهة. لكنه هو كان أعلن أنه بدأ يسأم ذلك
النوع من الأفلام، معتبراً أنه إذ وصل إلى ذروة التعبير في هذا
المجال في «عروس
فرانكشتاين» بات عليه أن يغير اتجاهه. وهكذا حقق على التوالي فيلمين هزليين
موسيقيين «تذكر الليلة الماضية» و «شوبوت» (الاثنان في العام 1936).
والمؤسي أن
الفشل الذي كان من نصيب هذين الفيلمين أزّم جيمس وال في حياته،
ودفع ستوديوهات
«يونيفرسال»
إلى التخلي عنه. والملفت أنه في تلك الفترة نفسها بدأ ينصرف إلى عوالمه
الداخلية، وبدأت تتزايد - بالتوازي مع ذلك - مشاكله العاطفية، وبدأت صحافة
هوليوود
الشعبية تركز على تلك الأمور. فكان أن عاش أزمة حقيقية، فنصحه
أصدقاء له بأن يعود
إلى انجلترا التي كانت مستعدة لاستقباله، بدلاً من العيش طويلاً وسط بيئة
شديدة
العداء له، بسبب مسلك حياته، ولكن أيضاً لأنه كان من المبدعين القلائل
الذين أصروا
على أن يبقوا غير أميركيين. وهو أمر لا يمكن لهوليوود أن تغفره.
وهكذا مع
اقتراب نهاية الثلاثينيات، كان مجد جيمس وال قد أضحى وراءه. وهو إذ حقق
فيلمين
استقبلا بشكل جيد خلال تلك السنوات وأبرزهما «الرجل ذو القناع الفولاذي»
حصد في
فيلمه التالي «التل الأخضر» (1940) فشلاً ذيعاً. فشلاً كان من
الضخامة بحيث إن
صحيفة «نيويورك تايمز» اعتبرت الفيلم «أسوأ ما حقق في هوليوود هذا
العام».
وكان هذا أقسى مما يمكن لفنان مرهف الحس أن يتحمله. فقرر أن يعتزل
السينما. وبالفعل بعد فيلم أو اثنين تاليين لم يتمكنا من أن يعيدا إليه
مجده
القديم، ترك وال السينما، وتفرغ في فيلته الهوليوودية الفخمة
للرسم. وراح يحقق
لوحات عبّر من خلالها عن هواجسه وأحلامه الخائبة. وهو في تلك الآونة
بالتحديد،
ارتبط عاطفياً وجنسياً بذلك الشاب اليافع والمشاكس الذي أتى به ليعتني
بحديقته،
فإذا به يولع به. طبعاً ليس هنا مجال الخوض في تفاصيل تلك
العلاقة، التي ظلت لسنوات
طويلة أشبه بأن تكون «حديقة جيمس وال» السرية. ولكن من المؤكد، وحسبما تشير
التفسيرات اللاحقة، أن العلاقة بين الاثنين كانت على الدوام علاقة متوترة.
فلئن كان
جيمس والد قد تعلق بالجنيناتي حقاً، وراح يعامله كصديق وابن
وصاحب في الوقت نفسه،
فإن الشاب بعد مرحلة صداقة حقيقية أولى، راح يشمئز من نزوات المخرج
المتقاعد ويعاني
من شخصيته القلقة. بل بدأ ينزعج من محاولات جيمس وال إرغامه على التمعن في
فن
السينما وفن الرسم: لقد أراد وال أن يعيد اختراع الشاب من
جديد، وأن يحوله إلى
مثقف، والشاب بدلاً من أن يكون ممنوناً لذلك، أحس أن جيمس وال إنما يحاول
أن يغيره
لأنه أصلاً لم يعتبره في مستواه، وأنه لكي يكون جديراً به، لابد له من أن
يغيره لـ
«يرفع
مستواه». وهذا - على أية حال - ما قاله جيمس وال للشاب مرات ومرات. وهكذا
بالتدريج نشأ ذلك التناحر، ولعبة الجذب والنبذ، التي انتهت كما تقول هذه
الفرضية،
ذات يوم، إلى شعور الشاب بالسأم. وهو إذ كان شاهداً مع جيمس وال، قبل فترة
يسيرة
فيلم «سانست بوليفار»، وتناقش طويلاً في شأنه مع معلمه، فإنه
ذات يوم تذكر ذلك كله -
كما يبدو -، وخلال مشاجرة بينهما، انقض عليه وقتله ورماه في الحوض ليقتل
تماماً
على الشاكلة التي قتل بها ويليام هولدن في الفيلم. فالجنيناتي الذي كأنه
ذلك الشاب،
ما كان في وسع مخيلته أن تقوده إلى أكثر من ذلك!
المهم، أن هذه لم تكن أكثر
من فرضية. فرضية لم ترد شرطة هوليوود تصديقها، وخاصة أن تلك
الشرطة كانت تعرف أن
الرأي العام الهوليوودي لا يحب وال، بسبب صلفه وإصراره على اختلافه. لذلك
يفضل قبول
فكرة انتحاره، بدلاً من فكرة قتله. وهكذا أُغلق التحقيق. ولكن...
ولكن، إذا
كانت هذه الفرضية - فرضية القتل - صحيحة... يبقى في الأمر لغز يجب حله وهو
لغز
الرسالة.
«بسيطة» يقول أصحاب النظرية: من الواضح أن الرسالة كتبها وال خلال
العام السابق لرحيله، في لحظة يأس، والشاب «القاتل» اطلع عليها بالتأكيد...
واستفاد
من وجوده لينفذ لمعلمه أمنيته بالرحيل.
غريب أليس كذلك؟ ولكن أليست هوليوود
عالم الغرابة بامتياز؟
@مأخوذ من كتاب «حكايات صيفية»
الوسط البحرينية في
09/07/2009 |