رقعة من الأرض في أوروبا البوهيمية يزورها طالبو
العلاج والنقاهة على مدار 51 اسبوعاً في
السنة. أما الاسبوع الـ52 منها، فتخصصه
المدينة من اجل العلاج بواسطة السينما.
فالمهرجان التشيكي الشهير الذي يمنح جائزة "كرة
الكريستال" منذ 44 دورة، يحتفي هذه السنة بالذكرى العشرين للثورة المخملية
التي اطاحت النظام القائم انذاك.
كارلوفي فاري من اكثر المدن الأوروبية
جمالاً في بوهيميا التاريخية حيث مصانع
الكريستال الشهيرة. مياه ينابيعها تتدفق من
باطن الارض بحرارة ما بين 13 و70 درجة مئوية. نحن في "الجناح الروسي" من
جمهورية
تشيكيا، حيث مهرجان غليظ ديكوراً وناعم روّاداً. مفعماً بالحياة، ها هو
ينهض
مجدداً، بعد سنة من الغياب، بدورة جديدة. قبل بضع سنوات، عندما تخطى
الأربعين من
العمر، أعتقدنا انه لن تكتب له قطّ ولادة ثانية تسمح بإعادة النظر في سبب
وجوده
وفوائده. لكنه بدا، غداة النتائج الملموسة لسقوط الستار الحديد ونهاية
الحقبة
الشيوعية، أكثر شباباً وانفتاحاً من مهرجانات أخرى لا تزال في سنواتها
الاولى.
كارلوفي فاري الذي تديره اليوم ايفا زاورالوفا، يؤكد علمانية دائمة بعد
سنوات من
التبعية السياسية بلغت ذروتها في منتصف الثمانينات من القرن الفائت حين
قاطعه
الجمهور وصارت صالاته في عزلة مخجلة. عاد المهرجان ليكون مرتعاً لعشّاق
السينما
الذين شاهدناهم يملأون الصالات على مدار الأيام التسعة للمهرجان، وأحياناً
مفترشين
الأرض، بعدما مضى في عملية وضع الأشياء في نصابها في اواسط التسعينات،
للقول بأن
اللحظة السينمائية التي تبقى ماثلة في الوجدان، هي لحظة الانوجاد في صالة
مع آخرين.
الايقاع الذي يفرضه المهرجان لا علاقة له بالايقاع الرتيب الذي يسود هنا
المدينة خارج ايام التظاهرة. فالمكان - الرمز، الأثير على قلوب
النوستالجيين الى
الحقبة الشيوعية، يعيش احتفالاً لا مثيل له. صالات، ومقاهٍ، وممرات، كلها
تنتفض وفق
وتيرة تسقط عليها من فوق. فوضى عارمة واضحة للعيان ما ان تدخل فندق "تيرمال"،
حيث
مجمل نشاطات المهرجان ومكاتبه ونقاط بيع البطاقات، لكن القلوب
كبيرة والمكان للجميع
من دون تمييز، خلافاً لمهرجانات أخرى جعلت
الدخول الى مقارها اشبه بالدخول الى
سفارات بلدان مستهدفة. العنصر الشاب هو
الذي يجعل المهرجان على هذا النحو. ومع ان
كثراً من المراهقين الذين يحملون حقائب على اكتافهم ويأتون الى هنا من مدن
بعيدة،
لا يتكلمون لغات أجنبية، فالصورة تصل اليهم بلا سوء فهم، وهي دليلهم نحو
ثقافات
الآخر. هذا الجمهور الذي عمره أكثر من عمر الـ"دي في دي" بقليل، المغيّب
عادةً في
مهرجانات أخرى لأسباب اقتصادية، هو عصب المهرجان، بلا شكّ.
هذا كله
جعل كارلوفي فاري مهرجاناً ذا وجه انساني ملموس يشكّل مرجعاً للسينيفيلية
الاوروبية، مع نزوع فطري الى الاشتراكية. وعلى رغم أن عدد النجوم الذي
يستضاف عادة،
لا يتعدى اصابع اليد الواحدة، الا ان المهرجان مصنّف ضمن اللائحة "أ"، وهو
تصنيف
نال عام 1958، ومذذاك يخضع للمراقبة السنوية بغية تجديده وفق
شروط، في مقدمها الا
تكون الاعمال المعروضة ضمن المسابقة
الرسمية قد قُدّمت في اي مهرجان آخر. أما
المعضلة التي يواجهها، وعلى رغم أن كثراً غيره يواجهونها ايضاً، فهي أن
كارلوفي
فاري يقع في الفترة الزمنية بين مهرجانين هما كانّ والبندقية. السينمائيون،
مهما
علا شأن المهرجان التشيكي، يفضلون الذهاب الى الكروازيت. نتيجة ذلك لا يبقى
أمام
المنظمين الا ان يختاروا من بين هذا اليمّ الوفير من الاعمال المصنفة "درجة
ثانية".
مجال الاكتشاف يكون مفتوحاً أمام العناوين الغامضة والاسماء غير المتداولة
حتى ضمن
الوسط. ولا تخفي زاورالوفا، التي تهتم بالمهرجان للسنة العشرين على
التوالي، "ان
المخرجين الذين يحضرون بأعمالهم الى هنا يعلمون ان لا مكان لهم في كانّ،
لأن
المسابقة هناك لا تستوعب أكثر من دزينتين من الأفلام". في المقابل، الأمر
الذي كان
المهرجان يتفرد فيه من قبل، اي ادراج تجارب أولى لمخرجين ضمن المسابقة
الرسمية، لم
يعد محصوراً به، لأن مهرجانات عدة باتت تنتهجه. أحياناً، في دورة من
الدورات، لا
يلمع ايٌّ من أفلام المسابقة الرسمية في كارلوفي فاري، ولا يلهب ايٌّ منها
حماسة
المشاهدين. في هذه الحالة ينبغي النبش في الاقسام الأخرى، حيث الجرأة تكون
في
أحايين كثيرة سيدة الموقف. أما بالنسبة الى المعايير التي يختار المنظمون
الأفلام
بموجبها، فهي، في الدرجة الاولى، حس المغامرة الذي يكون عند السينمائي، وهو
ضرورة
وواجب. مطلوب أيضاً الابتعاد عن الدروب المطروقة والنماذج السهلة
والمعلّبة، ولا
غنى عن ذلك إطلاقاً. في النهاية، لا سجادّ أحمر ولا مصورون من بلدان العالم
في
كارلوفي فاري، الا ان الصيغة المهرجانية قائمة على التوازن بين الاستهلاكي
والفكري.
قد يحتاج كارلوفي فاري هذه السنة الى الكثير من مشروبه التقليدي، بيشيروفكا،
ليحتفي بالذكرى العشرين على قيام "الثورة المخملية"، علماً ان هناك مناسبة
أخرى
ايضاً لشرب النخب وهي العيد الخامس لانضمام تشيكيا الى الاتحاد الاوروبي.
في ذكرى
ثورة 1989، تعرض مجموعة أفلام تحت شعار "20 عاماً من الحرية". ستة أفلام
ستكلل هذه
المناسبة التي لا تفوَّت، ومعظمها من البلدان التابعة سابقاً
للاتحاد السوفياتي. في
هذا السياق يبدأ المهرجان مساء غد ليستمر
حتى الحادي عشر من الجاري. 14 فيلماً،
معظمها يعرض للمرة الاولى في أوروبا،
ستتسابق لنيل جائزة "كرة الكريستال"، ضمن
مجموعة يبلغ عددها 220 فيلماً، وهي: "ملاك في البحر" لفريديريك دومون
(بلجيكا،
كندا)؛ "تصفيق" لمارتن بيتر زاندفليت (الدانمارك)؛ "خروف أسود" لأومبرتو
هينوجوسا
اوزكاريز (المكسيك)؛ "أرواح باردة" لصوفي
بارت (الولايات المتحدة)؛ "حريّة" لدافيدي
فيراريو (ايطاليا)؛ "هيمالايا" لتشون سو ايل (كوريا الجنوبية، فرنسا)؛ "لست
جارك"
لجيورجي بالفي (المجر)؛ "بيغيز" لروبرت غلينسكي
(بولونيا، المانيا)؛ "ارواح في
سلام" لفلاديمير بالكو (سلوفاكيا)؛ "عشرون" لعبد الرضا كهاني (ايران)؛
"فيلا
أماليا" لبونوا جاكو (فرنسا، سويسرا)؛ "ويسكي مع فودكا"
لأندرياس درايسن (ألمانيا)؛ "لن
نتوقف هناك" لفينكو بريجان (كرواتيا، صربيا)؛ "وولفي" لفاسيلي سيغاريف
(روسيا).
طبعاً، عدد كبير من هذه الأفلام تبقى رهناً للاكتشاف، وهي لا
تحمل اسماء سبق أن
أثبتت جدارتها، باستثناء اسم أو اثنين، في
مقدمها القدير أندرياس درايسن.
سبعة أفلام تُعرض خارج المنافسة في كارلوفي فاري، من بريطانيا
والنمسا وأميركا، الخ، من ضمنها آخر أعمال
أنطونيو بانديراس مخرجاً، "مطر صيف"، من
انتاج بريطاني - اسباني. في فئة الأفلام الوثائقية، أختارت الادارة 16
فيلماً، من
باكستان والصين وفرنسا وبلدان أخرى كثيرة، أما الوثائقيات التي تعرض خارج
المسابقة
فثمانية. في الخانة المخصصة للأفلام الآتية من اوروبا الشرقية والوسطى 14
فيلماً،
وكلها من انتاج العامين الأخيرين. هناك ايضاً ما يسمّى بـ"فوروم المستقلين"
الذي
يضّم 12 فيلماً، وفي محاذاته ثمة تحية يوجهها المهرجان الى
المخرج الأميركي المستقل
آلان رودولف تحت عنوان "ليس ثمة علاج
للحبّ"، ويضم التكريم خمسة أفلام، هي: "اخترني"؛ Love at large؛
"تذكر اسمي"؛ "الحيوات السرية لأطباء الأسنان"؛ "علة في
العقل". بيد ان الحدث الأكبر سيكون إطلاق
الفيلم الأخير لميلوش فورمان، فخر السينما
التشيكية والعالمية، في عرضه التمهيدي العالمي. هناك تكريمات كثيرة، واحد
منها
موجَّه الى المخرج والممثل الفرنسي باتريس شيرو، مطلاً على ستة من أفلام
هذه
الشخصية الفريدة في السينما الفرنسية: "غبريال" (2005)؛ "شقيقه" (2003)؛
"حميمية"
(2001)؛
"من يحبني يصعد الى القطار" (1998)؛ "الملكة مارغو" (1994)؛ "الرجل
المجروح" (1983). من جملة المكرمين، هناك ايضاً كلٌّ من الممثل الأميركي
جون
مالكوفيتش والمخرجين التشيكيين يان سفانكماير وبيتر سولان الذي يُرفع عنه
الحظر
للمرة الاولى في هذا المهرجان.
في زاوية "عيون مفتوحة"، يعرض المهرجان 11
فيلماً، معظمها اعادات لما عرض في كانّ.
يتباهى المهرجان، في موقعه الالكتروني،
بحيازته عرض الفيلم الصادم للدانماركي لارس
فون ترير، "المسيح الدجال". وثمة أفلام "كانيّة"
أخرى من مثل: "حوض سمك" لأندريا أرنولد؛ "العناقات الكسيرة" لبيدرو
ألمودوفار؛ "عطش" لبارك تشان ــ ووك. كذلك الفيلم الذي حاز
"السعفة" هذه السنة:
"الرباط الأبيض" للنمسوي ميكاييل هانيكه. أما في
قسم "آفاق" (26 فيلماً) الذي يلملم
شرائط من كل حدب وصوب، فنجد آخر أعمال سينمائيين بارزين مثل سام مانديس،
مانويل دو
أوليفيرا (عمره مئة عام وعام، ولا يزال يعمل)، كلير دوني، بول شرايدر، جيم
جارمش،
اندره فايدا، فرنسوا أوزون. بالاضافة الى فيلمين ذاع صيتهما في الدورة
الأخيرة من
مهرجان برلين: الاول، "حليب الاسى" (للبيروفية كلوديا ليوسا) نال "الدب
الذهبي"؛
والثاني "عن ايلي" لأصغر فرهادي، الذي اعتبر من أهم الاكتشافات
هناك.
"نظرة
أخرى" هي الخانة التي تضم 35 فيلماً، تلقي نظرة مغايرة على
العالم، والى جانبها خانة اطلقت عليها الادارة "نظرة أخرى - طوكيو فيلم اكس
تقدم"،
ويحتفي هذا القسم بذكرى مرور عشر سنين على تأسيس هذا المهرجان، من خلال عرض
ثلاثة
من الأفلام اليابانية. هناك ايضاً قسم "اختيارات فرايتي" السنوي الذي يفسح
في
المجال للمجلة الأميركية الشهيرة باختيار باقة من أفلامها
المفضلة التي بلغ عددها
هذه السنة، العشرة. والى الأفلام الستة
التي ترضي ذوق "وطاويط المشاهدة"، ضمن
برنامج يدعى "منتصف الليل"، هناك عروض لنحو من 11 فيلماً تشيكيا، هي خلاصة
الانتاج
المحلي للأشهر الماضية.
ثمة برنامج جميل أيضاً يشمل الأفلام التي أحدثت ثورة
جنسية في السينما الروسية، ومعظمها من توقيع سينمائيات روسيات. أفلام حديثة
العهد،
ابعدها زمنياً "السماء، الطيارة، الفتاة" لفيرا ستوروزيفا الذي يعود تاريخ
انتاجه
الى 2002. وفي اطار اهتمامه بالأفلام القديمة، لا ينسى
المهرجان اعادة الاعتبار الى
كلاسيكيات من السينما المنسية، يستعيرها من
المكتبة السينمائية التشيكية: "فتاة
الغلاف" لتشارلز فيدور؛ "من الآن الى الأبد" لفريد زينيمان؛ "غجر" لكاريل
انطون.
ومن اللقيات التي تثير الحماسة في هذه الدورة برنامج "2009:
أوديسة موسيقية" الذي
يضم ثمانية أفلام، بالاضافة الى مجموعات
أخرى صعبة الاحصاء والعدّ. أما لجنة
التحكيم فتترأسها المنتجة الفرنسية كلودي
أوسار، التي مولّت أفلاماً لكوستوريتسا
وبينيكس، وسبق أن نالت "كرة الكريستال" عام
2001، ولها اليوم في المهرجان "ريكي"
لفرنسوا أوزون. وينضم اليها في اللجنة كلٌّ من ماريا بونفي، سيرغي
دفورتسيفوي، نيكي
كريمي، رودريغو بلا، كينيث توران وايفان زاكارياس. ومن المشاهير الذين من
المتوقع
وصولهم الى المهرجان ايزابيل أوبير وانطونيو بانديراس.
مهرجان
"أسبوع
النقاد الدوليين" للمرة السادسة في
بيروت
تحلّ في بيروت بدءاً من الاثنين المقبل، النسخة
اللبنانية من "اسبوع النقاد الدوليين"
(بالتعاون مع البعثة الثقافية الفرنسية
و"بيروت دي. سي.") الذي يعتبر اقدم الاقسام الموازية في مهرجان كانّ. فقد
اختير 15
فيلماً طويلاً وقصيراً تعتبر التجارب الاولى أو الثانية لمخرجين صاعدين،
بعدما تم
استضافة هذه الاعمال في عواصم اوروبية منها باريس وروما، وقبل ان تقطع
الاطلسي في
اتجاه المكسيك، وذلك بغية عرضها على المشاهد اللبناني في صالة "متروبوليس"
التي
انبعثت مجدداً، منذ بضعة أشهر، في مقرها الجديد، أمپير ــ
صوفيل، مكملة مسيرتها
"النضالية" من أجل سينما مختلفة وبديلة. الإبحار في
العوالم الغريبة لـ"اسبوع
النقاد" كثيراً ما يُحسب ترفاً بالنسبة الى الذاهب الى كانّ، اذ من المفترض
أن
يتابع انشطة المسابقة الرسمية، التي تعتبر مركز الثقل في كل تظاهرة.
الخسارة كبيرة
أحياناً لأن هذا القسم المحاذي للتشكيلة الرسمية غالباً ما يلقي الضوء على
الأفلام
الأكثر غرابة وتجريباً و"تملقاً". اذاً، من 6 الى 14 الجاري، ينتقل "اسبوع
النقاد"،
من كانّ، مكانه الاصلي، الى بيروت، متيحاً
لحشد من السينيفيليين اللبنانيين أن
يتابع أهم أفلام الدورة الـ48.
مدى وجوده في واجهة المهرجان السينمائي الأكبر،
كان "الاسبوع" خلف اكتشاف اسماء كبيرة من
مثل كين لوتش (جائزة "السعفة الذهب" في
دورة 2006)، وبرناردو برتوللوتشي ("1900"، "التانغو الاخير في باريس")، ونغ
كار
-
واي الذي عاد وترأس لجنة التحكيم في دورة ماضية، فرنسوا أوزون
("8 نساء"، "الوقت
الباقي")، وغاسبار نويه الذي حلّ رئيساً
فخرياً لـ"الاسبوع" في احدى المرات، قبل أن
يدخل المسابقة من بابها العريض.
ستة أفلام طويلة تُعرض في "الاسبوع"، والباقية
متوسطة وقصيرة، والافتتاح مع "وداعاً غاري"
لنسيم عماوش الذي سيرافق فيلمه الى "متروبوليس"،
حيث تقدَّم العروض، الثامنة والنصف مساء، وهو كان قد نال في ايار
الفائت، جائزة "الاسبوع" الكبرى. تجري حوادث الفيلم في مدينة صناعية تركها
قاطنوها
منذ فترة ليست بقليلة. لكن البعض قرّر أن يبقى فيها ويصمد،
لأنها المكان حيث ولد
وتربّى. من هؤلاء فرنسيس الوفي للآلة التي
عمل عليها طوال حياته، لكنه اليوم يعاني
البطالة. هناك أيضاً ابنه سمير، الذي يعود الى تلك المنطقة بعد غياب. الى
جانبهما
نجد الجارة ماريا وابنها جوزيه الذي يريد الاعتقاد ان اباه ليس الا... غاري
كوبر،
وتالياً سينتظره في احد الشوارع الشبيه بديكورات الوسترن. وسط هذه الفوضى
كلها،
سيحاول سمير أن يشق طريقه ساعياً ان لا يلقى المصير الذي كان لغيره في بيئة
منغلقة.
الفيلم من تمويل فرنسي ويمثل فيه كلّ من جان بيار باكري، دومينيك ريمون
وياسمين
بلماضي، وهو الثاني الطويل لعماوش بعد الوثائقي "بضعة فتافيت للعصافير".
يتضمن
الفيلم قدراً كبيراً من الجنون الابداعي في وصفه البيئة المنغلقة التي تجري
فيها
الحوادث، ولا ينصاع قط الى منطق التباكي والبؤس. لا يلغي عماوش من حسابه
الاعتبارات
الاجتماعية التي تترجم من خلال سلوك شخصيات هي أسيرة بيئتها وخاضعة
لانتمائها
الديني والاجتماعي. يقدم هذا المخرج الجزائري الاصل عالماً محكوماً بأمل
الخلاص،
على رغم المعوقات التي أمام الشخصيات، مازجاًَ الواقعية الشعرية
بكوستوريتسا. يذكر
ان عرض "وداعاً غاري" عشية الافتتاح سيكون مصحوباً بفيلم فرنسي قصير (23
دقيقة)
لماري اماشوكيلي وكلير بورجيه. من انتاج مشترك بين الاوروغواي
واسبانيا، يأتينا
فيلم "يوم سيئ لصيد السمك" (الثلثاء 7)،
لألفارو بريشنر، وهو "رود موفي" تجري
حوادثه في أميركا اللاتينية، ابطاله مهمشون يتنقلون من مدينة الى أخرى
لتنظيم
مباريات في المصارعة الحرّة. في حين ان "صوت الأنفال" (الاربعاء 8) للكردي
الايراني
شهرام عليدي يروي عمليات الابادة الجماعية التي تعرض لها
الأكراد. لنا عودة الى هذا
الحدث الخميس المقبل لمراجعة ما تبقّى من
أعمال.
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
خارج الكادر
لا مراعاة
أياً تكن الانتقادات حيال
خيارات الدورة رقم 62 من مهرجان كانّ، فإنها أتاحت لنا ولكل
الوافدين الى الريفييرا
الفرنسية ان يطلعوا على كل مستجد ومثير من
اصقاع الارض كلها. حتى الأمس القريب،
وبعيد اختتام الدورة الفائتة، كانت لا تزال
أفلام المسابقة ولائحة الجوائز حديث
الصحف والمعنيين بالشأن السينمائي في امكنة مختلفة من العالم. منذ لحظة
صعود
ميكاييل هانيكه الى المنصة لتسلم "السعفة الذهب" والمعانقة الحارة التي
خصّته بها
رئيسة لجنة التحكيم ايزابيل أوبير في تلك اللحظة، والاتهامات
بـ"الصحبة والزمالة"
تسير الدرب المعتاد، وخصوصاً ان التلفزيونات سرّبت
بعض المشاهد الكوليشوفية (نسبة
الى نظرية ليف كوليشوف)، والتي كانت ربما
تعني عكس ما تظهره، نرى فيها نظرة جيمس
غراي في منحى غير مؤيد للنتائج. تعزز هذا
الاحساس لدى المشاهد، عندما قام مدير
المهرجان الفنيّ تييري فريمو من مكانه
ليجلس في مكان آخر، اثر اعلان فوز "الرباط
الأبيض". لكن فريمو كذّب هذه الخبريات، المدعومة بمدلولات وايحاءات، واضعاً
حداً
نهائياً لشائعات قالت ان ثمة تباينات في وجهات النظر على خلفية خلافات حادة
نشبت
بين اوبير والباقين، ومؤكداً انه لم يكن لأوبير، كرئيسة، الا صوت واحد،
شأنها شأن
الاعضاء الآخرين في اللجنة، ولو لم يُرد زملاؤها منح "السعفة" للفائز لما
استطاعت
هي أن تتخذ القرار بمفردها. مع هذا، لم يثر فوز هانيكه، كما عهدنا، موجة
انتقادات،
ولا سيما في فرنسا، لأن جزءاً كبيراً من الصحافة دعمه. أما الاعتراض فاقتصر
على بعض
الاصوات من هنا وهناك لا تأثير لها في الرأي العام. وفي خصوص إبعاد "نبيّ"
لجاك
أوديار من "السعفة"، فالواضح ان عدم تمكن المهرجان من تكريم فيلمين فرنسيين
لعامين
متتاليين لم يكن عائقاً، لأن لا مراعاة من هذا النوع في كانّ،
بحسب فريمو. في حين
أن اللجنة تتمتع باستقلالية تامة، ولا غبار
عليها، وهذا ما كانت أكدته الادارة
مراراً. اذاً، مهما يكن الفيلم بعيداً من ذائقتنا السينمائية، فلجنة
التحكيم اقتنعت
به، بأكثرية الأصوات، خطأً أكان ذلك أم صواباً، وهذا ما حدث. أما معرفة ما
اذا كانت
الديموقراطية اقل الحلول سوءاً في التقويم الفني، فهذا بحث آخر، ولكن مما
لا شك فيه
انها ليست أفضلها. في خاتمة المطاف، ما هي قيمة الجائزة في مقابل مشاركة
الفيلم، أي
فيلم، في مسابقة مثل هذه، والانشراح أمام أعين العالم بأسره؟! أياً يكن،
كانت
الدورة الفائتة من كانّ، غريبة جداً في الخيارات التي اتاحها، اذ ان
المهرجان
دائماً في طور توسيع مجال استيعابه. وما كان محرّماً في الامس، صار هو
القاعدة
اليوم. أما العباقرة الذين ينبذهم المهرجان بين الفينة والفينة، فالأسماء
تتغير لكن
الاهانة تبقى هي نفسها.
موضة قديمة؟
مهرجان سينمائي آخر
في باريس؟ لمَ لا، وخصوصاً اذا كان في عاصمة أوروبية على دراية جيدة
بالعالم
العربي، وهناك علاقات تاريخية تربطها به، وهي أساساً أحد الأمكنة المثالية
للمشاهدة
والاحتفاء بفن سابع ولد فيها قبل 114 عاماً. لكن لا يمكن الحديث عن
المهرجان، ولا
عن أي حدث سينمائي هدفه العرض فقط، وأيضاً الحديث عن الحجم الذي سيكون له
والغوص في
تفاصيل تنظيمه والعناوين والاسماء التي خلفه، من دون أن يتبادر الى ذهننا
السؤال
الذي بات هاجساً: هل السينما العربية في حاجة الى مهرجانات، وخصوصاً اذا
كانت بعيدة
من الجمهور الذي من المفترض تثقيفه ومخاطبته؟ فالفرنسيون ليسوا في حاجة الى
مهرجان
عربي لمشاهدة أفلام عربية ولا لمشاهدة أي فيلم من أي بلد من العالم. لنتفق
على هذه
النقطة: هم لهم مهرجاناتهم ولقاءاتهم السينمائية وصالاتهم حيث يُعرض الغث
والسمين
من كل أصقاع الأرض. أما الفرنسيون من أصول عربية والجاليات الأخرى القريبة
من
العرب، فالسينما آخر همّ عندهم. ليس المقصود من هذا الكلام التجني على أحد،
لكن
الايرادات التي كان يسجلها، على سبيل المثال لا الحصر، بيينال العالم
العربي الذي
أوقف نشاطه قبل أكثر من عام، يحيلنا على هذا الاستنتاج. وللتأكيد، فإن أحد
المسؤولين في المهرجان المذكور، ولن نسمّيه كي لا نحرجه، قال لنا ذات مرّة
ان
البيينال لم يبذل ما يكفي من جهود لجذب الجاليات العربية المقيمة في باريس
وضواحيها. لذا، كنا نرى الصالات في أوقات كثيرة خلواً حتى من المدعوين
الذين من
المفترض ان يكون المهرجان شغلهم الشاغل؛ ولم يكن يزور الأمكنة المعتمة الاّ
بعض
المهمشين الفضوليين. فهل يضع المهرجان الجديد، بإدارة فريق البيينال
وبرئاسة ماجدة
واصف، في لائحة أولوياته اقناع الجمهور العربي بأهمية الصورة وكيف يجب على
كل ذي
شأن صناعة صورته بذاته، أم انه يبقى في اطار التظاهرة التي سرعان ما تقفز
الى
احتفالية عابرة ومظاهر ابتهاج فارهة؟ أما المشكلة الأخرى فتتمثل في
المضمون. فمن
أين يأتي المهرجان بأفلام عربية، علماً ان عددها صار أقل من التظاهرات
السينمائية
المعقودة في عام واحد. فمن المحطات السنوية التي اعتدناها، هناك القاهرة
ومراكش
ودبيّ وتطوان ودمشق وبيروت وأبو ظبي وقرطاج ووهران وعدد لا يحصى من
اللقاءات
السنوية المتواضعة والاسابيع المخصصة لهذا أو ذاك، وهي بالكاد تجد من
يدعمها بأفلام
عربية لائقة. واذا فاتك فيلم في هذا المكان فستجده في مكان آخر، ودائماً
الاسماء
نفسها، علماً ان الجميع، بلا استثناء، يسعى لافتتاح فيلمه في مهرجان دولي
كبير،
واذا لم يحالفه الحظّ يبدأ بتقديم التنازلات، ويذهب الى المهرجان العربي،
مطأطئ
الرأس، ومستعداً للقبول بأي حلّ لمشكلته. اذاً، التحدي ليس في قيام
المهرجان، انما
في العثور على ما يُعرض فيه. المسؤولية ضائعة في هذا الشأن. لكن الواضح
اليوم انه
مذ تقرر أن يكون لكل عاصمة عربية مهرجان، فتنظيم مهرجانات للفولكلور
والتراث في
الخارج (لا نقصد المهرجان الوليد) بات موضة قديمة، قد ينبغي اعادة النظر في
حوافزها
الحقيقية، بعيداً من لغة البيانات الصحافية.
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
02/07/2009 |