حَاسَب الجميعُ المخرج
الكوري بارك تشان – ووك على جديده «ظمأ» (المسابقة الرسمية في الدورة
الثانية
والستين لمهرجان «كان» في أيار الفائت) بقسوة لا نظير لها، إذ
راعهم خطابه
الإيديولوجي الصاعق، ولم يرضهم مُنجزه التقني والفني، مثلما لم يستمرئوا
النكتة
التي جمع فيها الدين ومؤمنيه وأنياب
البطل المقدّس التي تُلوِّث رداءه وتحوّله إلى
مصّاص دماء حداثي. فصاحب ثلاثية الثأر الذائعة الصيت واجه عداء
متسرّعاً وغير منصف،
جاء استكمالا لسوء الفهم الذي تعرّض له فيلمه السابق «أنا سايبورغ، لكن لا
بأس» (2006)،
إذ اعتبره النقّاد مضيعة للوقت والمال والجهد، وفاتهم أن حكايته الملتبسة
تحاملت على النُظم المؤسّساتية التي تُحيل البشر على مجانين، أو تُرغمهم
على أن
يكونوا معتوهين.
إرهاب التحوّل
يجد مُشاهد الفيلمين أن الرابط الدرامي
بينهما قائم على «إرهاب التحوّل» واستحقاقاته البدنية لأبطاله. ففي النص
الأخير،
تتلبّس البطلة الشابة حالة من القناعة غير السوية على أنها وُلدت كآلة
«أتمتة»
إلكترونية تحرّكها دوائر «السَّبْرَنة». لا ينفع معها الغذاء العادي بل
الصعقات
الكهربائية، ولا يُحرّك قلبها الحب بل الانتقام من موظفي المشفى الذين
تسبّبوا بموت
جدّتها المتّهمة بالجنون. ويُرافق المُشاهد بطل «ظمأ» القسّ
المحبوب سانغ ـ هايون (النجم
الشعبي كانغ ـ هو سونغ)، الذي يجد إعجاب أهالي البلدة الصغيرة ورضاهم
مزروعاً في طريقه أينما ولّى وجهه الطفولي. فعمله التطوّعي في
المستشفى المحلي جعله
إيقونة شعبية، خصوصاً بعد قراره السفر إلى افريقيا لاختبار فيروس قاتل غريب
الأصول
وشديد العدوى. بعد إصابته بأعراضه، تتدهور صحته ويموت، فيضخّ الأطباء دماً
بديلاً
في عروقه تعيد الحياة إلى كيانه، لكن على شكل مصّاص دماء. إثر انتشار خبر
معجزة
انتصاره على ميتته وعودته إلى الحياة، يطوّبه الأهالي قدّيساً،
يسعون عبره إلى
مكرمات شفاء وغنى، وهم عميان عن الوحش الذي يتربّى في داخله. عندما يلتقي
سانغ –
هايوان صديق طفولته، يقع سريعاً في وله
زوجته الحسناء تاي – جو، ذات السحنة الحزينة
والكيان المكسور تحت جبروت الوالدة الأرستقراطية الملامح.
يقوم سرّ الحبّ
بينهما على أرضية الفرار الذي تقترحه المرأة وينكره الثاني، والإقناع الصعب
في
تصفية الزوج الصديق والتخلّص من عائلته المريضة النفوس، وهو
الاقتراح الذي يرفضه،
لكنه يقع في براثنه بعجز واضح. في لقائهما الجنسي الأول، الذي يتمّ في غرفة
مشفاه،
تكتشف الزوجة أن الحبيب «فامباير» مُعاصر، لا يترك آثار جريمته على رقبة
ضحيته
البدينة، إذ يقطّر دمه في حاوية طبية ويشربه كعصير أحمر. تُرى،
كم ستكون كلفة حب
آثم؟ الجواب: إيمان القسّ الشاب، الذي نراه لاحقاً وهو يغتصب شابة معاقة،
ويحقّق
مقتلة الصديق وشرب دمه. عليه، يكون على سانغ – هايوان أن يُعلن تبرير
بشاعاته،
ويصرخ «الآن، أنا ظمآن إلى المتع الآثمة. لكن، كيف أحصل على
الدم البشري من دون أن
أقتل؟». أول الدم هو الخاص بالحبيبة التي تنتقل عدوى التلوّث إلى نفسها
البريئة،
وتحوّلها إلى وحش متعطّش للجريمة والدماء. ويُثبت تلوّثهما الثنائي أن خنوع
البطلة
إلى عبوديتها العائلية جعل من وحشيتها خلاصاً ذاتياً، فيما
يأتي استمراء القسّ
البطل إلى شرب الدماء إثباتاً على قصر عقيدته وانتفاء قوتها التي يجب عليها
منعه من
ارتكاب معاصيه. وكلّما غلّت المرأة بسفك الدم، سعى القسّ، الذي ترك باب
عودته إلى
الرب مفتوحاً، إلى طلب المغفرة عبر تدمير جسديهما المريضين
بأشعة شمس الفجر
الربّاني، التي تحوّلهما إلى رماد تحت نظرات الأم المشلولة، التي تشي
بالامتنان إلى
الطبيعة التي لا تنتج في العادة حيوانين مثلهما في الواقع.
تلطيخ سُمعة
إن
القسّ في المفهوم الإيديولوجي للفيلم سارق الإيمان من تابعيته،
كما هو سارق الدم من
أقرانه البشر. وإذا اعتبرنا أن البطلة الشابة «السَّبْرَنية» في «أنا
سايبورغ...»
قيمة إنسانية سُرقت بدورها من العالم العاقل، وأُلقيت بغلّ وحقد جبّارين في
جُبّ
الجنون، سعياً إلى شطبها من القطيع الصالح كما هي حكاية يوسف
وإخوته؛ فإن بطل «ظمأ»
ينشر عطشه الذي لا يمتلئ في أرجاء واسعة من محيطه، زارعاً شرّاً شيطانياً
هو، في
رؤية صاحب «تعاطف مع السيد ثأر» (2003)، تعبير فيزيولوجي عن سلطة دنيوية
تعاظَم
جبروتها. والمفارقة أنها بدأت مهنتها الربّانية وهي تردي
قلنسوتها وثوبها اليسوعي
البسيط، قبل أن ترتدي حلّتها الغربية الأنيقة، وتتحوّل مرّة أخرى إلى مواطن
عادي
يتحصّن بعدم وجود شبهات على تصرّفاته المريبة. ففي المشهد الأخير من «أنا
سايبورغ...»، تُفرج البطلة الشابة شفتيها لتبرز من بينهما فوهة
رشاش أوتوماتيكي،
وتتحوّل ذراعاها إلى بندقيتين قاتلتين تصوّب رصاصهما إلى موظفّي المشفى،
لترديهم في
مشهد تهكّمي لمجزرة جماعية مريعة، وتحقّق لقاءها مع جدّتها وسط الحقول
المرسومة
بألوان طفولية زاهية. ذلك أن نهايات العسف محكومة بدم زاخر،
وهو ما نراه في
الانقلاب الحيوي الذي أصاب شخصيتي «ظمأ»: ينوء الرجل بالحمل الثقيل لجرائم
الحبيبة
المتعطّشة إلى الدم بأي ثمن، حتى لو كان دمه شخصياً، فيختار وقف الشراهة
وشدّتها
الجماعية، ويقرّر قتلها. ما يعني أن القسّ يتيقن من عدم فائدة
الحساب والعقاب،
فكلاهما أذنب إلى الحدّ الذي لا يُمكن الرأفة بكيانيهما.
سرد تشان ـ ووك سيرة
دم آثم من نوع آخر، لطّخ به سمعة الكنيسة والإيمان وكهنة الألفية الثالثة،
الذين
يمارسون الموبقات عن قصد إيماني يعلن أن الذود عن الآخرين يكمن
في تلبّس كفرهم.
لكن، لا يذهب التخمين السهل إلى الحكايات التقليدية لمصّاصي الدماء، لأن
المخرج
الكوري الجنوبي يملك نباهة كثيرة، ما يبعده عن الوقوع في السذاجة. هنا، لا
توجد
أنياب وحوش الـ «فامباير» الشهيرة، ولا مخالبهم وصرخاتهم
الذئبية، بل إشارات حاسمة
تتحامل على الإيمان الكاذب والفساد العائلي واللؤم الإنساني وجشعه ومرارة
أكاذيبه.
)لندن(
السفير اللبنانية في
02/07/2009 |