تناول «انتقام»، الفيلم
الأخير للمخرج الصيني جوني تاو (مواليد هونغ كونغ، 22 نيسان 1955)، موضوعاً
أثيراً
لدى السينمائي المهموم بقراءة العنف من خلال شخصيات إنسانية:
العلاقة الملتبسة بين
الذاكرة والثأر، من خلال قصّة قاتل مأجور (الفرنسي جوني هاليداي) اعتزل
مهنته هذه
قبل عشرين عاماً، لكنه وجد نفسه في مطاردة خبيثة وعنيفة ودموية في هونغ
كونغ، بحثاً
عمن قتل زوج ابنته وحفيديه، وأصاب ابنته بجروح خطرة.
شارك الفيلم في المسابقة
الرسمية الخاصّة بالدورة الثانية والستين (13 ـ 24 أيار الفائت) لمهرجان
«كان»
السينمائي. بهذه المناسبة، نشرت المجلة السينمائية الفرنسية المتخصّصة
«دفاتر
السينما»، في عددها الصادر في أيار الفائت، حواراً مع تاو أجراه جان ـ
ميشال
فرودون، هنا ترجمة عربية لمقتطفات عدّة منه.
بالنسبة إليك، هل ارتبط فيلمك
هذا بإخراجات سابقة لك؟
ـ إنه الجزء الثالث من سلسلة «قتلة مشتركون»، التي بدأت
إنجازها في العام 1999 بـ «المهمّة»، ثم «المنفي» (2006)، والآن «انتقام».
ما دمت
لم أعثر على فكرة جيّدة، فإن السلسلة مستمرة.
ما هي ميزات أفلام هذه السلسلة؟
ـ في أفلامي، تشتغل الشخصيات دائماً مع بعضها البعض إزاء هدف ما. مثلاً، في
«وحدة
الشرطة التكتيكية»، كان على رجال هذه الوحدة أن يتعاونوا معاً للعثور على
السلاح المفقود؛ وفي «العصفور الدوري»، وحّد النشّالون قواهم وجهودهم
لمساعدة أمرأة
تعاني صعوبات؛ وفي الثلاثية المذكورة أعلاه (المهمّة، المنفي، انتقام) يعمل
قتلة مع
بعضهم البعض لحلّ مشكلة.
تحية
هل شكّلت مسألة كون الشخصية الأساسية غربية
أصل مشروع «انتقام»؟
ـ نعم. عندما تصوّرنا، السيناريست واي كا ـ فاي وأنا،
المشروع، أردنا إسناد الدور إلى آلان دولون. في هونغ كونغ، تأثّرنا كثيراً
بأفلام
رجال العصابات في مرحلة الموجة الجديدة، في الستينيات والسبعينيات
المنصرمة. وجدنا،
واي وأنا، الأمر مثيراً للحماسة: أنّ يُثني مخرجٌ من هونغ كونغ
على أفلام تلك
الفترة، وأن يُكرّمها، بتصويره فيلماً مع نجوم أثّروا به.
منحت الشخصية اسم بطل «ساموراي»، مع أن «انتقام» ليس إعادة ولا
تتمة. هل إن فيلمك هذا مرتبط بمشروعك،
المُعلن عنه منذ وقت طويل، والمتمثّل بإخراج إعادة لـ «الدائرة
الحمراء» لجان ـ
بيار ميلفيل؟
ـ إن «ساموراي» والأفلام الأخرى لملفيل كانت محبوبة جداً في هونغ
كونغ في فترة شبابي. قبل أن أدرك من هو مخرجها، كنتُ معجباً
بدولون، ككثيرين من
أبناء هونغ كونغ. بعثتُ، في «انتقام»، ذكرى تلك الإثارة المراهِقة.
هل كنتُ
تعرف جوني هاليداي سابقاً، رجل الاستعراض وممثل السينما؟
ـ كلا، لم أكن أعرفه،
إلى أن جعلني لوران وميشال بيتان (المنتجان الفرنسيان المشاركان في إنتاج
«انتقام»)
أكتشفه. شاهدتُ ما فعله في «رجل القطار»،
وشاهدتُ أيضاً جولتيه الموسيقيتين
الأخيرتين مسجّلتين على شريطي «دي في دي»، غير أني كنتُ مأسوراً بوجهه،
وخصوصاً
بعينيه اللتين تجعلانني ألتقط قصصاً وانفعالات بشكل كبير.
كيف حدث اللقاء
بينكما؟ كيف قدّمتَ له المشروع؟
ـ شركة الإنتاج الفرنسية (آ. أر. ب.) رتّبت
لقاء معه في آذار 2008، أثناء زيارتي إلى باريس للمشاركة في تظاهرة
استعادية
لأفلامي في «السينماتيك الفرنسية». تناولت عشاء رائعاً في مطعمه، وغنّينا،
هو وأنا،
بعض الأغاني العائدة إلى الزمن القديم والجميل. لقائي به
أقنعني بإسناد دور
كوستيلّو إليه. فتنتني عيناه اللتان، عندما تراهما شخصياً، تظهران ملوّنتين
بأزرق
لا يُصدّق.
معضلة الحياة
ما الذي انتظرته منه؟ هل أعطيته توجيهات خاصّة
بطريقة تحرّكه؟
ـ لم أشأ أن يُبدِي كوستيلّو فوراً ملامح قاتل. بدا لي أن
الأهمّ كامنٌ في جعل المُشاهدين ينظرون إليه كعجوز حذر ورزين،
يحمل ماضياً مجهولاً.
طريقته في التمثيل ضمن الحدّ الأدنى كانت مثالية بالنسبة إلى الدور. إنه
يجعل مشاعر
الشخصية قابلة للإدراك بطريقة حاذقة، بأن تكون مؤثّرة وواقعية في آن واحد.
هل
كنتَ راغباً في العمل مع منتج فرنسي، أم محتاجاً إليه؟
ـ إنها المرّة الأولى
التي تعمل فيها «ميلكيواي» (شركة الإنتاج الخاصّة بجوني تاو) مع شركة
فرنسية. أثناء
سيرورة العمل كلّه، اعتبرنا دائماً، أنا وشركائي الفرنسيين، أن المسألة
متعلّقة
بإنجاز فيلم حركة وتشويق من هونغ كونغ. أنا فخور لأني استطعت
إنجاز الفيلم بطريقتي،
بطريقة هونغ كونغ. أنا جاهز للعمل مع شركات ومواهب غربية، إذا اتفقنا على
مشروع
مشترك.
كيف تُحدّد مادة «انتقام»؟
ـ يسعى الناس إلى الثأر لأنفسهم بسبب
ذكرياتهم، وبسبب أفكار تتسلّط على أرواحهم من دون أن يستطيعوا التحرّر
منها. أردتُ
طرح سؤال: ماذا يعني الانتقام إذا فَقَد المرء ذاكرته.
بالنسبة إلى الشخصية، إن
فقدان الذاكرة عبء، لكنه أيضاً نوع من إنقاذ. هل يُمكن مقارنة هذا بحاجتك
أنت،
كمخرج، إلى نسيان كل ما فعلته أصلاً كي تتمكّن من الذهاب في
اتجاهات جديدة؟ أليس
هذا احتمالا للعثور مجدّداً على براءة لفيلم النوع، أو للسينما نفسها؟
ـ هذه
معضلة يواجهها الجميع في الحياة: بمقدار ما نشيخ، نتورّط في مسؤوليات جمّة
وشبكة من
العلاقات. هذا ما يجعلنا إنسانيين/ آدميين، ويفتحنا على أنواع
مختلفة من الانفعالات
والتجارب. لكن، ألا يكون عزاء أن يستطيع المرء الابتعاد عن هذا كلّه دفعة
واحدة، كي
يُصبح كائناً حياً أبسط؟ بطريقة ما، هذا يصنع صدى للمفهوم البوذي للتنوير.
في
النهاية، نشاهد كوستيلّو وقد بات حرّاً، ونراه يضحك للمرّة
الأولى في الفيلم.
أنتوني وانغ لافت للانتباه في الفيلم. هل طلبتَ منه شيئاً مميزاً؟
ـ أنتوني
واحدٌ من أفضل الممثلين في هونغ كونغ. لم أشعر بحاجة إلى إعطائه توجيهات
كثيرة،
أبداً. هو نفسه يضبط الشخصية وطريقة تعاملها مع الآخرين. في
«انتقام»، بلغ قمة
جديدة قهرت ما فعله سابقاً في «المهمّة» و«المنفي». أثناء التصوير، كان
متواضعاً
وظريفاً.
إلى أي مدى كان السيناريو مُنجزاً عند بدء التصوير؟
ـ عندما بدأنا
العمل، كان ستون بالمئة من الفيلم الذي شاهدتموه مكتوباً. الباقي تبدّل أو
أعيدت
كتابته أو أضيف أثناء التصوير. معروفٌ عنّي أني لا أصوّر أبداً
مع نصّ سينمائي تام.
مع ذلك، كان النصّ السينمائي الخاصّ بـ «انتقام» كاملاً، غير أن السيناريست
وأنا
عدّلناه، بعد ملاحظتنا كيف يتصرّف الممثلون وما أحدثوه. إن أداءهم جعلنا
نوسّع
حدودنا.
كلاكيت
خارج النقد
نديم جرجورة
هناك سببان اثنان
يحولان دون كتابة تعليق نقديّ سينمائي خاصّ بفيلم ما: إما لبلوغه حدّاً
كبيراً من
جمال إبداعي فائق وآسر، يجعل أي كتابة عاجزة عن إيفائه حقّه
الفني والفكري
والجمالي؛ وإما لسقوطه المدوّي إلى أقصى درك، ما يجعل المفردات النقدية
«ضائعة»
أمام فراغ بنيته الفنية وشكله البصري
وسياقه الدرامي وحبكته القصصية. مع هذا، «قد»
يتغلّب كاتب التعليق النقدي على انبهاره إزاء فيلم منتم إلى الفئة الأولى،
فيكتب
مقالة تجمع انفعاله، الذي يحتلّ مساحة أكبر من أي شيء آخر في المقالة ربما،
بالمعطيات النقدية والثقافية، بينما تواجه الكتابة عن أفلام
الفئة الثانية صعوبة (هل
أقول استحالة!) في العثور على جمل «تليق» بهذا النمط الاستسهالي والمسطّح
والمفرّغ من أي دلالة جمالية، فإذا بالمعلّق النقديّ يتوغّل، قليلاً،
بالمادة
الدرامية المختارة، لعلّه يجد ما «يستحقّ» بعض نقاش، إذا
تشكّلت المادة الدرامية من
معطيات قابلة لتحليل وسجال.
إثر مشاهدتي فيلمين عربيين منتميين إلى الفئة
الثانية مؤخّراً، وهما «دكان شحاته» للمصري خالد يوسف و«أمريكا» للفلسطينية
شيرين
دعبس، من دون تناسي الأفلام السابقة عليهما، المنضوية هي أيضاً
في الفئة نفسها،
التي علّقت عليها بقسوة، أحياناً؛ وجدت نفسي أطرح تساؤلات عدّة حول هذه
المسألة،
على الرغم من كثرة أفلام الفئة الثانية في الآونة الأخيرة، خصوصاً
اللبنانية
والمصرية منها (التي تُعرض في الصالات المحلية، بين حين وآخر):
هل أتغاضى عن
الكتابة على فيلم سيئ إلى أقصى حدود السوء، أم أبحث في مادته الدرامية عمّا
يمدّ
الكتابة بشيء من التعليق؟ إذا اخترتُ الاحتمال الثاني، فهل أعثر على ما
يُفيد
النقاش في فيلم مليء بكمية كبيرة من العناوين والثرثرة، وواقع
في عدد ضخم من
المشاهد الملتصقة بعضها بالبعض الآخر، من دون فائدة إبداعية غالباً؟ هل
يكفي
التغاضي عن جانبه التقني والفني، لفشله الواضح في استيفاء شروطه المطلوبة
في صناعة
فيلم سينمائي؛ أم ان التسطيح والفراغ محتاجان إلى مواجهة حادّة
وصارمة؟ هل يُعتبر
التقديم هذا كلّه صالحاً لفيلم مشوّه وتائه وسط الصراع الأبديّ بين
الايديولوجيا
المعلّبة وصناعة الصورة السينمائية، المحتاجة أساساً إلى مخيّلة خصبة
وثقافة معرفية
كبيرة واحتراف واضح لاستكمال بنائه الدرامي والجمالي
والإبداعي؟ ألم تقتل
الايديولوجيا كل إبداع وثقافة سجالية وفن متنوّع الأشكال والهواجس، لأنها
صارمة في
طرح أفكارها، ولأن معتنقيها عاجزون عن تحرير المخيّلة من سطوتها؛ علماً
بأني مقتنعٌ
تماماً بالحقّ المطلق للفنان المبدع في اختيار الموضوع الذي يريد، وإن كان
ملتزماً
إيديولوجيا معيّنة، شرط أن تُطوِّع المخيّلةُ السينمائية
الإبداعية هذا الالتزام
لصالح الفن والإبداع؟
يختلف الفيلمان العربيان هذان عن بعضهما البعض، قليلاً،
لأن «أمريكا» مصقولٌ سينمائياً بلغة أفضل من «دكان شحاته». لكنهما واقعان
في
المشكلة نفسها: الخطابية والإيديولجيا، أخطر أداتين على سلامة الإبداع.
السفير اللبنانية في
02/07/2009 |