فيلم احمد السقا ينجح في طرح قضية مسكوت عنها: العنف يتسيد،
والمنظومة الاخلاقية في مصر تبدأ بالسقوط.
دفعتني ردود الفعل
التي توالت منتقدة ومتهمة فيلم "إبراهيم الأبيض" للفنان أحمد السقا
بالدموية
المبالغ فيها، ومناقشة البعض حول القائه الضوء على ظاهرة البلطجة، والأسئلة
الساذجة
التي وجهت لأبطال الفيلم من قبيل: هل قابلت بلطجية حقيقيين في
حياتك؟ هل رأيت خناقة
بلطجية؟ إلى أن أذهب وأشاهد الفيلم.
الفيلم فيلم أكشن وإثارة، لكنه يحمل رسالة مضمونها يعلن ولادة العنف وموت
الحب
ويدين ذلك دون أن يتجاهل إدانة المجتمع. نجح أبطاله في تحقيق
أداء تمثيلي عال، لكن
ظل ما قدمه من أجواء فقر وجهل وإحباط ويأس وعنف وجريمة وبلطجة يتفوق عليه
-في جانب
منه- الواقع المصري في ظرفه الراهن.
فهذا الطفل الصغير الذي يقتل والده أمام عينيه، ويضطره القاتل إلى العمل
معه حتى
إذا كبر أخذ بثأر أبيه وهرب ليبدأ حياة السطو والإجرام
والبلطجة، ويخرج شاهرا
السلاح الأبيض "السنجة" (سكين حادة طويلة) أو المطوة تارة والسلاح الناري
تارة في
وجه مجتمع على شاكلته لا يبالي بأمثاله، وربما أجمل توصيف له هو قول عمرو
واكد عنه
في الفيلم "إبراهيم ما يخفش إلا من الغشيم لأن الغشيم يموتك"،
يحب لكن حبه يولد
مشوها مثله.
في مقدمة الفيلم نقرأ بيتا من الشعر يؤكد البعد الإنساني للشخصية المحورية،
وأن
ليس منا من لا يريد أن يعيش ويحب، لكن البيئة التي نولد وننشأ
فيها تلعب دورا
رئيسيا في تحقيق ذلك من عدمه وأنها ربما تنشئنا نشأ آخر، يقول:
مساكين أهل العشق حتى قبورهم
عليها تراب الذل بين المقابر
ثم أيضا "القاهرة 2008" التي تؤكد أننا أمام لحظة راهنة، وأن ما يعالجه
الفيلم
ليس بعيدا عما يجرى، أن الفقراء والمهمشين الذين غابوا عن أعييننا طويلا
فقدوا قيمة
الحب يوم فقدوا الرعاية والأمن الاجتماعيين، إن حورية (هند
صبري) التي يغرم بها
إبراهيم الأبيض عندما يقول لها أحبك ترد: مين فيهم إبراهيم، إبراهيم
البلطجي اللي
بيكسر بيوت الناس في أنصاص الليالي ولا إبراهيم المجرم اللي قتل أبويا.
لقد نجح أحمد السقا إذ جسد الشخصية بحرفية ممثل أكشن عالي المستوى، ربما
تدرب
عليها في أفلامه "مافيا" و"الجزيرة" و"حرب أطاليا"، لكن
الشخصية هنا ليست مجرد فيلم
أكشن فقط اذ يحمل جانبا إنسانيا عميقا يؤكد أن "إبراهيم
الأبيض" ومحيطه محصلة بيئة
مجتمعية مهملة ومتجاهلة، وأن اليأس والإحباط خلقا وحوشا لا ينهاها شيء عن
الافتراس،
وأن الإدانة لا ينبغي أن تنسحب عليهم وحدهم ولكن أيضا على أولئك الذين
تجاهلوا أولا
ثم غضوا الطرف ثانيا ثم كانوا شركاء ثالثا.
وحكمة البلطجي العتيق عبد الملك زرزور (محمود عبد العزيز) التي يرى فيها
الحياة
والموت ويطالب إبراهيم بالتفكير فيها جيدا: "لما تشوف نياب
الديب أوعه تفتكر إنه
بيبتسم"، وهذه حكمة تتلبس الكثيرين في الشارع الآن ويمكننا أن نلتقط من
أفواه
المارة والجالسين هنا وهناك الأغنياء والفقراء كلمات أشد من تلك قسوة.
لكن المشهد الأخطر من ذلك كله حين يؤم زرزور الصلاة على غنام معلنا "الله
أكبر"
ثم يلتفت إلى الوراء قائلا: ولا بلاش، الفاتحة لغنام، أهو من أتر الشياطين
يبقي
أخوكم، ليكشف غياب الدين.
إن مشاهد الشجار التي تشهر فيها الأسلحة البيضاء والسنج والجنازير ويسقط
فيها
القتلى وتمزق فيها الصدور وتشج فيه الوجوه، وتملأ الدماء فيه
الأرض، والحب الذي يتم
تشويهه ليصبح نسخة من حالة الحقد والكره التي تملأ الشجار، مشاهد صدمت
أولئك
الغائبين عن حقيقة ما يجري في الشارع المصري، فأخذوا يتساءلون عن تأثير هذا
العنف
الذي حملته الشاشة إلى الجمهور البريء، وعن السر وراء هذا
الظهور المتكرر لشخصية
البلطجي في الأفلام المصرية الأخيرة مثل "الجزيرة"، "حين ميسرة"، "دكان
شحاته"
وغيرها.
قد يدفع ذلك الجمهور خاصة من الشباب إلى تقليد "إبراهيم الأبيض"، وكأنهم لا
يقرأون الصحف وما تحمله من جرائم يشيب لها الولدان، والدراسات والبحوث التي
تؤكد
تفشي العنف قولا وفعلا، فضلا عن أن يذهبوا بأنفسهم لمناطق مثل
الدويقة ومنشية ناصر
وإمبابة والمنيب ودار السلام والملقه، وغيرها من المناطق التي لا تحظى
بأدنى
مستويات الرعاية الاجتماعية والأمنية، ويحكمها الفقر والمخدرات والجهل
والعنف
والبلطجة.
لم أندهش كثيرا مما جاء به الفيلم وخاصة ما حمله عنف دام، فقد رأيت مثل هذا
المشاهد، وكنت أقف مفزوعا مما يجرى، ليس من الأسلحة التي تشهر
والدم الذي ينزف ولكن
مفزوعا من أن خروج الأمن بعيدا، حيث هناك مبدأ عرفته بعد ذلك يقول"سيبهم
يخلصوا على
بعض"، رأيت هذا المشهد الذي كان يقوده أطفال في عمر 15 و16 عاما، ومشاهد
أخرى لشباب
في عمر 20 و25 عاما، في ميادين مهمة، وليس في شوارع خلفية.
لقد نجح المخرج مروان حامد في أن يركب مشاهد العنف من حركة الممثلين
وملابسهم
وماكياجهم والأسلحة التي يحملونها
وطريقة تحكمهم وحركتهم بها ولا مبالاتها واللهجة
التي يتحدثون بها وخسة القتال لتطابق إلى حد بعيد ما يحدث في الواقع، حيث
تنسحب
الحياة بل الحب ولا يبقى إلا الدم.
إن الفيلم يحمل رسالة واضحة لمن يريد أن يفهم، رسالة تحذيرية، أن العنف قاب
قوسين من التسيد، وأن البناء القيمي الذي حكم أخلاق وسلوك
وضمير المصري شرعت في
السقوط.
ميدل إيست أنلاين في
22/06/2009 |