انقسم فيلم Che «تشي»
إلى جزأين، الجزء الأول معروض الآن في دور
العرض المحلية على أن يتبع لاحقاً بالجزء الثاني، في تعقب لحياة الثائر
الأرجنتيني
أرنستو تشي غيفارا، وتقديم حياته الثورية تحديدا، والتي لن تكون إلا حياته
نفسها،
والتي يرصدها الفيلم متخذاً من ثورة 26 يوليو الكوبية نقطة ارتكاز رئيسة
لهذا الجزء
الأول، والتحرك من خلالها في خطين زمنيين لن يكونا إلا حول الثورة، الأول
يعود
بغيفارا (جسد شخصيته بينسيو دل تيرو واستحق عليه جائزة أفضل
ممثل في الدورة 61 في
مهرجان كان) إلى علاقته بفيدل كاسترو (دميان بيتشر) قبل بدء الثورة، بينما
يمضي
الخط الثاني متقدماً عن زمن الفيلم الرئيس حيث يقدم زيارة غيفارا للأمم
المتحدة في
نيويورك وخطابه الشهير.
القول بأن الفيلم يوثق حياة غيفارا رصاصة برصاصة له
أن يكون توصيفاً دقيقاً إلى حد بعيد، مع استبعاد أية آراء مسبقة أو تغليب
لوجهة نظر
على أخرى متعلقة بمقاربة غيفارا وأسطورته، لا بل إن الأمر يدفع إلى السؤال
عن دافع
المخرج والمنتج ستيفن سودربورف لتقديم هذا الفيلم، والذي عرض
كاملاً وبما يتجاوز
الأربع ساعات ونصف الساعة في الدورة ما قبل الأخيرة من مهرجان «كان»، وعلى
شيء
يقودنا إلى الاعتقاد بأن الفيلم يلهث خلف تفاصيل حياة غيفارا في الأدغال،
البناء
على مذكراته وشهادات جمعها كاتب السيناريو بيتر بوتشمان على
مدى سبع سنوات حسب ما
يقول، تضمنت لقاءات موسعة مع من بقي من رفاق غيفارا، ومن بينهم ثلاثة
قاتلوا معه في
كوبا وبوليفيا.
يبدأ الفيلم المصنوع بإتقان ـ ليس غريباً عن سودربورف ـ من
وصول غيفارا مع فيديل كاسترو ورفاقه على متن قارب حملهم من
المكسيك إلى جبال سييرا
في كوبا، والتي بدأوا منها حرب عصابات ضد نظام فولجنسيو باتيستا.
ينتهي
الجزء الأول بانتصار الثورة الكوبية، ويمضي الجزء الثاني مباشرة إلى
بوليفيا وتخلي
غيفارا طبعاً عن مناصبه وكونه وزيرا للصناعة في كوبا في مسعى لتوثيق عمله
الثوري في
ذلك البلد وصولاً إلى نهايته المأساوية، طبعاً بين المرحلتين
هناك مرحلة غامضة لا
يتعرض لها الفيلم في حياة هذا الطبيب الثوري وربما لأنها غير موثقة تماماً،
أمضاها
في إفريقيا في مسعى منه لتصدير نموذج الثورة الكوبية إلى القارة
السمراء.
فيلم سودربورف مأخوذ تماما بتعقب تلك الفترة من حياة غيفارا، بعد
فيلم المخرج البرازيلي والتر سالس «مذكرات دراجة نارية» انتاج
عام 2004 عن حياته في
شبابه والبذور الأولى لنزوعه الثوري والتمردي، والفيلم الفاشل المملوء
بالكليشهات
الجاهزة والمشوهة الذي أخرجه ريتشارد فليشر عام 1969 وحمل عنوان «تشي»
أيضاً وجسد
فيه عمر الشريف شخصية غيفارا.
للتنويه هذه المرة الثالثة التي أكتب فيها عن
هذا الفيلم، ولعل ذلك بدافع تقديم دعوة حقيقية لمن يريد أن يتعرف إلى
غيفارا كما لو
أنه يقرأ مذكراته لكن على سطح شاشة بدل الكتاب، ومقاربة حياته اليومية
والمعارك،
إضافة لمعالجة المرضى والمصابين بوصفه طبيبا كما هو معروف،
وعند الزحف نحو هافانا
يتكشف الأمر عن مقاتل شرس ومحترف، كل ذلك يمضي أمامنا دون دخول سودربورف
وكاتب
السيناريو بأي شيء على علاقة بأحلام غيفارا، بقناعاته الماركسية، ودوافعه
نحو المضي
إلى أقصى النضال، أو حتى صراعاته النفسية ربما.
أكثر من بدهي القول بأن
غيفارا شكّل ولايزال أيقونة ثورية متعددة الجوانب والمستويات، ورمزاً
للكفاح ضد
الظلم والفقر والتميز الطبقي، وليتخطى الأمر ماركسيته ويساريته
إلى تحوله إلى رمز
للتمرد بغض النظر عن الانتماءات أو حتى الأعراق والجنسيات، وعليه تحول إلى
أسطورة
صار يطوعها البشر حسب رؤيتهم، لدرجة اقتربت من الديني حين رأى فيه فلاحو
أميركا
اللاتينية «مسيحاً» كل ذلك وأكثر سيكون خارج حسابات الفيلم،
فعين سودربورف على
أنسنة غيفارا، على حقيقة ما قام به دون الاتكاء على ما أحيطت به شخصيته حول
العالم،
لكن وللمفارقة سرعان ما نخلص إلى أن كل هذا الإصرار على اتباع حياته دون
رتوش أو
منكهات لم تفض إلا إلى تأكيد شخصيته الاستثنائية، لا بل
أسطورته.
يدفع
الفيلم إلى البحث في ما صارت إليه هذه الشخصية في ظل العولمة، خصوصا أن
«الخطر
الشيوعي» ما عاد وارداً، وربما هذا واحد من أسباب أن يخرج فيلم
أميركي بإنتاج ضخم
يتغنى بمعارك رمز شيوعي، الأمر الذي كان من رابع المستحيلات إبان الحرب
الباردة،
كما أن الآلة الإعلامية الرأسمالية الآن ما عادت مهتمة بوصفه بـ«قاطع طريق»
أو
اعتباره قاتلاً وسفاحاً، مبعدة عنه صفات مثل شهيد العدالة
الإنسانية أو ملهم حركات
المقاومة... إلخ، بل وجدت من الأجدى تحويله إلى «براند» (ماركة تجارية) عبر
تكريسه
كصورة موجودة على الألبسة، على زجاج السيارات، أو غطاء عجلة احتياطية
لسيارة دفع
رباعي، واسم عطر، وسيجار كوبي مرتبط به، وكل ما صار على صراع بين كونه
أيقونة ثورية
أو سلعة، على اعتبار أن كل شيء تطاله يد التسليع، ولعلها
الحقيقة الوحيدة المتسيدة
كل شيء، وأفضل ما يمكن أن تجابه به أسطورة ثورية، هو اختزالها إلى صورة
نجدها معلقة
في غرف شباب يجهلون أي شيء عنها، لكنها أي الصورة على شيء من ما يرضي غريزة
التمرد
الشبابية، ولنقول نهايةً الفيلم يمتلك القدرة على أن يوضح تلك
الصورة.
الإمارات اليوم في
02/06/2009 |