هذه جريمة ثالثة عرفتها الحياة الهوليوودية، زمنها هذه المرة، سنوات
الخمسين،
وضحيتها رجل مافيا، شاء سوء حظ النجمة لانا تورنر أن تتخذه
عشيقاً لها، فسامها من
العذاب والضرب والابتزاز ما جعل سكيناً، قالت المحكمة: إن ابنتها شيريل
كانت هي من
يحمله، تدخل بطنه وتقضي عليه. المحكمة برأت شيريل، والجريمة لم تقضِ على
نجومية
لانا تورنر، بل العكس زادت من شعبيتها. فهل جرت الأمور حقاً
كما تقول الرواية
الرسمية؟ أم إن في تلك الجريمة ألغازاً لا تزال في حاجة إلى أن تكشف، على
رغم مرور
أكثر من نصف قرن عليها، وسنوات على رحيل لأنا تورنر؟
في العام 1922 حين قتل
الممثل والمخرج ويليام ديزموند تايلور، بسبب تشابك علاقات نسائية، كما
روينا في
الحنانة السابقة انتظر المعنيون بالأمر أكثر من ستين سنة، قبل
أن يخلصوا إلى
الفرضية التي قالت: إن القاتلة إنما هي السيدة شارلوت شلبي، التي أجهزت على
تايلور
أمام عيني ابنتها، عشيقته ماري مايلز منتر، الذي أخفت الحقيقة «متسترة» على
أمها
طوال كل تلك العقود.
فهل، يا ترى، يمكن القول، إن تلك الحكاية نفسها، كانت
هي التي تكررت بعد ذلك، وأيضاً في هوليوود، بعد 35 سنة من مقتل تايلور، وفي
حي لا
يبعد كثيراً عن الحي الذي يقع فيه كوخه، وفي ظروف تبدو متماثلة إلى حد
بعيد؟
ما نتحدث عنه هنا هو مقتل جوني ستومباناتو، رجل المافيا وزير النساء
المعروف، يوم 14 أبريل/ نيسان 1958. والحقيقة أن أحداً ما كان
من شأنه ليأبه بمقتل
ذلك «الأزعر» لولا أن القاتلة كانت شيريل كرين، ابنة لانا تورنر. ولولا أن
هذه
الأخيرة كانت متورطة في الحادثة، وربما بأكثر مما قيل في حينه. ولانا تورنر
التي
كانت واحدة من أشهر نجوم هوليوود في ذلك الحين، لم تكن فقط أم
«القاتلة» بل أيضاً،
عشيقة القتيل. ومن هنا شكل ما حدث فضيحة ما بعدها فضيحة، وظلت صحافة
هوليوود، تتحدث
عن الجريمة والمحاكمة طوال سنين. بل إن هناك من لا يزال يبحث ويحقق حتى
اليوم، وهو
على يقين، يبحث عن إثبات، بأن شيريل كرين، ابنة الرابعة عشر لم
تكن هي القاتلة. بل
إن الفاعلة الحقيقية كانت أمها لانا تورنر، وإن الفتاة قبلت أن تلصق بها
التهمة، من
ناحية لإنقاذ أمها وسمعتها، ومن ناحية ثانية، لأن اعترافها كان من شأنه أن
أوصل
المحكمة إلى الحكم ببراءتها، إذ اعتبرت المحكمة أن الفتاة إنما
قتلت رجل «المافيا»
دفاعاً عن أمها لا أكثر ولا أقل.
أحداث ذلك اليوم وما سبقه
في
العام 1957، كانت لانا تورنر، التي عرفت كمزواجة تنافس
اليزابيت تايلور في عدد
أزواجها (8 أزواج) كانت وقعت في غرام جوني ستومباناتو. كان هو في التاسعة
والعشرين،
وهي كانت في السابعة والثلاثين. وجوني، الأنيق والوسيم، كان رجل عصابات سبق
له أن
عمل حارساً شخصياً لزعيم المافيا الكبير ميكي كوهين، الذي كانت
هوليوود مقر نشاطه
في ذلك الحين. ولانا تورنر، ما أن تعرفت على جوني وأغرمت به حتى دعته على
الفور لأن
يقيم معها في الفيلا التي كانت تعيش فيها معها ابنتها المراهقة شيريل كرين
في نورث
بلفورد درايف. وجوني استجاب للدعوة ثم بدأ يتصرف كسيد للبيت، يصرخ، يأمر،
ويبتز
المال من لأنا. ولسوف يقال لاحقاً إنه أيضاً أقام علاقة مع
الابنة (وهذا التفسير
كان المهيمن على فيلم مصري عن الحادثة، مثلته تحية كاريوكا، وشهد بداية
ماهر
العطار!!). وطوال الشهور التالية صارت حياة لانا تورنر جحيماً لا يطاق. إذ
إنها
زادت من انفاق المال على عشيقها، وكان عليها أن تراعي نوبات
غيرته، كما كان عليها
أن تنتبه دائماً لكي لا يفسد ابنتها. أما هو فلن يكل أو يمل، صراخ وعربدة
وأوامر
ونواه... وكان الأمر يصل به إلى حد ضرب لانا كلما حاولت مجابهته. وكانت
شيريل تراقب
هذا كله بغضب، كما ستقول لاحقاً أمام المحكمة، وهي تشعر بأنها
عاجزة عن فعل أي
شيء.
سكين في يد الابنة
وكان من الطبيعي لذلك كله أن يتفاقم،
حتى وإن كانت شهادات عديدة، لصالح ستومباناتو، ستؤكد أن الأمر لم يكن كذلك،
بل إن
هذا الأخير «أشعر المرأتين بالسعادة طوال شهور». المهم أن خناقة زائدة
العنف، بين
لانا وجوني، ليلة 24 نيسان من العام التالي 1985، أيقظت شيريل من نومها،
كما ستقول
في إفادتها. وحين دخلت الغرفة الزهر، حيث تقيم الأم مع العشيق، «وجدته
يضربها ويكاد
يقتلها فيما هي تصرخ طالبة النجدة». فماذا فعلت شيريل؟ بكل
بساطة توجهت إلى المطبخ
حيث تناولت، لاهثة، سكيناً قاطعة، وعادت إلى الغرفة لتجد أمها تكاد تلفظ
أنفاسها
الأخيرة وجوني منكباً عليها كالثور الهائج يضربها ويشتمها. فأسرعت شيريل
وغرزت
السكين في بطن عشيق أمها مرتين ما أدى إلى قتله على الفور. إثر
ذاك استجمعت لأنا
قواها واتصلت بالشرطة، كما اتصلت بمحاميها جيري جيسلر. وأتت الشرطة والطبيب
الشرعي.
وهذا الأخير سرعان ما وضع تقريراً أكد فيه
كل ما أفادت به لانا وشيريل. أما المحامي
فكان من النباهة والقوة بحيث أدار الدفاع وعلم لأنا تورنر، تلك
المرافعة العصماء،
التي ألقتها أمام هيئة المحلفين، وسيقال لاحقاً إنها تبدت فيها ممثلة من
طراز نادر.
كما قيل: إن المرافقة كانت أعظم ما قدمته
في تاريخها الفني.
ولأن القتيل رجل
عصابات، ولأن لأنا تورنر ممثلة محبوبة، ولأن الابنة شيريل بكت أمام المحكمة
مؤكدة
أنها أنما قتلت لكي تدافع عن أمها، انتهى الأمر بهيئة المحكمة،
بعد تداول لم يزد
على ربع الساعة، إلى طلاق سراح شيريل معتبرة قتل ستومباناتو «جريمة مبررة»
بمعنى أن
شيريل إنما تصرفت دفاعاً عن نفسها وعن أمها.
على الفور أطلق سراح شيريل التي
جاء أبوها، صاحب المطعم، ستيفن كرين وتسلمها. وتحولت الفتاة إلى نجمة
الصحافة وراحت
صورها تنتشر فيما تنبأ لها كثيرون بأنها سوف تصبح نجمة سينمائية. ولكن، لئن
كانت
لانا تورنر خرجت منتصرة بل رابحة مما حدث (كما سوف نرى)، فإن
الحادثة كلها صدمت
شيريل صدمة قوية، جعلتها تسارع إلى الابتعاد عن الأضواء... وكذلك عن
الرجال، إذ
سرعان ما انتقلت بعيداً عن هوليوود، وصارت مناضلة من أجل القضية النسوية،
وشاذة
جنسياً.
غير أنها لم تحقد على أمها أبداً. بل إن هذه الأخيرة، حين ماتت،
بالسرطان، في العام 1995 بعد اعتزال دام طويلاً، ماتت بين
ذراعي ابنتها. فهل تراها
ماتت حاملة معها سرهما إلى القبر.
وهل أن سرهما لم يكن غير أن لانا تورنر
كانت هي القاتلة الحقيقية، وأن شيريل قبلت بأن تتحمل عبء ما حدث انقاذاً
لأمها؟
الجمهور معها
الغريب أنه حتى لو كان الأمر على ذلك
النحو، فإن هذا ما كان من شأنه أن يؤثر سلباً على لانا تورنر كممثلة.
فالحال أن
استفتاءات صحافية أجريت في هوليوود في ذلك
الحين أكدت أن الناس كانوا يتعاطفون مع
الأم وابنتها، مهما كان الأمر. فالقتيل رجل مافيا، وزير نساء يعيش على
حسابهن، وهو
عاش شهوراً لا يرحم الأم ولا ابنتها.
والغريب أيضاً أن ما حدث رفع من شعبية
لانا تورنر، التي كان الجمهور يأخذ عليها قبل ذلك زيجاتها الكثيرة، وكثرة
عشاقها،
وكون أخلاقها لا تستجيب كلياً للمقاييس المعروفة في أميركا ذلك الحين. فحتى
إذ كان
ميكي كوهين، زعيم العصابة التي ينتمي إليها جوني، قد عمد على
سبيل الانتقام من
لانا، التي كان يعتبرها المسئولة الأولى عن مقتل حارسه السابق، إلى نشر
الرسائل
الملتهبة التي كانت تبعث بها إلى عشيقها، فإن الجمهور لم يخفف من تعاطفه مع
لانا.
وهنا، تحديداً، يمكن الحديث عن سحر السينما وتأثيرها في الناس. فما
الذي حدث.
حدث على سبيل الصدفة أن لانا تورنر كانت مثلت في العام نفسه الذي
التقت فيه بجوني ستومباناتو، في فيلم «بايتون بالأس» من إخراج
مارك روبسون، دور
أرملة قوية وباردة لا يهمها في الدنيا سوى الحفاظ على شرف ابنتها وعذريتها
وسط غابة
من الذئاب. وهكذا إذ عرض الفيلم، ربطه الناس سريعاً بجريمة قتل ستومباناتو،
وصارت
المسألة في منتهى الغرابة: لقد فسرت الجريمة على ضوء الدور
الذي تلعبه لانا في
الفيلم. وتدافع الناس لمشاهدته، وكانوا يخرجون وهم يذرفون الدموع على مصير
الدور
وصاحبته. وما إن مرّ عام تال حتى مثلت لانا في فيلم «ما يشبه الحياة»
(1959) ، من
إخراج دوغلاس سيرك ويُعد واحداً من أكثر أدوار حياتها
ميلودرامية. كان ذلك حيث لعبت
دور أم تسيل دموع المشاهدين من خلال صعوبة علاقتها بابنتها. وهذا ما بدا
واضحاً في
فيلمين تاليين مثلتهما. في كل هذه الأفلام بدت لانا تورنر، أمام أنظار
الجمهور،
سيدة بائسة حطمها الدهر ولا يهمها سوى أن تضحي بنفسها في سبيل
سعادة ابنتها (ثم
ابنها في فيلم تال عنوانه «مدام إكس»)... والحقيقة أن هذه الصورة الجديدة
التي حرصت
المكنة الهوليوودية على أن تسم لانا تورنر بها، فعلت فعلها وساعدت الأم على
تجاوز
محنتها، ولو لسنوات قليلة.
غير أن الجمهور لم يدرك، بالطبع، مدى التناقض
التام، بين صورة لانا تورنر السينمائية الجديدة، وصورتها الحقيقية في
الحياة.
ففي حياتها العادية لم تكن لانا تورنر من الذين يضحون بأي شيء من
أجل أي كان. ولئن كان هذا الأمر قد شكل جوهر حديث الصحافة عنها
في فترات متقطعة من
دون أن يميل الجمهور إلى تصديقه، فإنه لانا نفسها التي ستقول: إنها عادت
إلى الله
وتابت في العام 1980، أصدرت في العام 1982 سيرتها الذاتية، وفيها تحدثت دون
أدنى
حرج عن حياتها الجنسية وكشفت المستور من أخلاقها. واعترفت
بأنها حاولت الانتحار
مرة، وأنها أجهضت مرتين، وغاصت في الكحول سنوات طويلة.
غير أنها في المقابل
أصرت على ألا تكشف ما سيقال أنه السر الحقيقي في مقتل جوني ستومباناتو. عن
جوني،
قالت: إن ما سحرها فيه وسامته وشهرته الجنسية في هوليوود،
مؤكدة أنها ارتبطت به في
لحظة كانت تشعر خلالها بالوحدة وبالسأم.
في كتابها ذاك تحدثت لانا تورنر كيف
أنها تزوجت ثماني مرات (مثلما فعلت ليز تايلور)، منها مرتان من ستيفن كرين
نفسه،
والد ابنتها شيريل، وكان أول زواج لها مع عازف الكلارينيت آرتي شو، الذي
تزوج أيضاً
من أفا غاردنر وكان عشيق بيتي غريبل. وزوجها الثالث كان لكس
باركر، الذي لعب دور
طرزان أكثر من مرة على الشاشة الهوليوودية، والرابع كان الثري هنري توينغ،
أما
الخامس فكان فرد ماي، وهو ملياردير تزوجته العام 1961 بعد جريمة قتل
ستومباناتو،
أما السابع فكان روبرت ايتون (34 سنة) الذي تزوجته بين 1965
و1969. وأما الأخير
فكان حاوي الكاباريه والمنوم المغناطيسي رونالد دانتي، الذي طلقته بعد
ثمانية شهور
من الزواج.
غير أن هؤلاء لم يكونوا كل الرجال الذين عرفتهم لانا تورنر خلال
حياتها الصاخبة، هؤلاء كانوا أزواجها فقط، أما في خانة العشاق،
فيجب أن نضيف تايرون
باور، الذي كان الحب الأكبر في حياتها، والذي على رغم علاقته بها، كان
معروفاً
بشذوذه الجنسي هو الآخر، ورفض أن يطلق من أجلها زوجته الفرنسية أنا بيلا.
ومن عشاق
لانا تورنر أيضاً كان هناك فرناندو لاماس (وهو ممثل من أصل
برازيلي كان زوجاً لأستر
ويليامس...) بين آخرين.
أن ما روته لانا تورنر في كتابها، الذي جاء على شكل
اعترافات كان معروفاً في معظمة من قبل الجمهور. ومن هنا لو أن هذا الجمهور
ارتأى
محاكمتها والتنديد بها حين قتل ستومباناتو، لما كان أحد لامه. لكن معجزة
السينما،
وكون هذه الأخير شريراً ورجل مافيا، عمل لصالح لانا، فنسي ذلك
كله وانطبعت في
الأذهان صورة المرأة/ الضحية، التي أرادت أن تحافظ على ابنتها (كما في
الفيلم) فشاء
عشيقها أن يدفعها الثمن... فتدخلت الابنة وسكينها، وعاشت هوليوود سنوات تحت
وطأة
الفضيحة.
ومهما يكن من الأمر فإن من المؤكد أن تلك الحادثة كانت أهم ما في
حياة ممثلة تحدث كثيرون عن جمالها وسحرها، لكنهم أكدوا دائماً
أنها لم تكن ممثلة من
طراز استثنائي، بل إن معظم أفلامها نسي اليوم... باستثناء ذلك «الفيلم»
الواقعي
الذي وصل إلى ذروته في غرفة زهرية اللون، وانتهى أمام هيئة محكمة تحدثت
لانا تورنر
إليها، حديث الأم والمرأة المظلومة فانطلقت الدموع من مآقيها،
بينما رجم رجل
المافيا ولم يترحم عليه أحد.
@
من كتاب «حكايات صيفية»
الوسط البحرينية في
18/06/2009 |