يتحدث الأدباء لدى تقديمهم شهادتهم الإبداعية عن “تجربتهم” الأدبية، يحلل
النقاد بدورهم ما يسمونه “التجارب” الأدبية للمبدعين من كتاب رواية أو شعر،
لكن بالمقابل، لا يتحدث الأدباء والنقاد عن التجريب في الأدب ولا يتداولون
مصطلحا من نوع “الأدب التجريبي”، أما في مجال السينما، فإن مصطلح الفيلم
“التجريبي” مصطلح مستحدث صار منذ أواخر القرن العشرين وصولاً إلى أيامنا
هذه قائماً ومنتشراً باطراد متزايد ومستعملاً بكل أريحية من قبل صانعي
الأفلام والنقاد السينمائيين، خاصة من الجيل الشاب. لماذا يحصل ذلك في مجال
السينما وحدها دون غيرها من الفنون والآداب؟ وهل حقا تصح تسمية التجريبي
على أي فيلم منجز؟
من البديهي أن الجواب عن هذين السؤالين يحتاج إلى العودة إلى تاريخ السينما
وخاصية منشأ السينما المتمثلة، من حيث المبدأ، في كونها نشأت نتيجة
اختراعات تقنية كان على صانعي الأفلام أن يتعلموا كيفية استخدامها، أو
بالأحرى، أن يتعلموا كيفية الاستفادة منها لاستكشاف إمكانات السينما كوسيلة
تعبير فنية. التقنيات كانت متلاحقة الظهور ومتنوعة، منها ما يتعلق بآلة
التصوير ومستلزماتها من أجهزة الإضاءة، ومنها ما يتعلق بنوعية الفيلم
الخام، ثم التحميض والطباعة، وتاليا، بعد مرحلة اكتشاف الصوت، كان على
صانعي الأفلام أن يتعلموا كيفية استخدام أجهزة تسجيل الصوت والمونتاج
والمكساج وغير ذلك من تقنيات كانت تكتشف تباعا من قبل مخترعين وعلماء، وما
كان يمكن تعلم استخدامها بإتقان حرفي إلا بالتجربة. هذا يعني أن التجريب في
السينما أساسه ومجاله تقني بامتياز، وهو تجريب سابق بالضرورة على البحث
الفني التعبيري مع الاعتراف بأنه ساعد على تحفيز الإبداع السينمائي الذي
صار يهدف إلى استكشاف حلول فنية لقصص الأفلام ووسائل سرد وتعبير مبتكرة
وملائمة لخاصية السينما، وصولا إلى ما بات يطلق عليه بعض المنظرين تسمية
“لغة السينما”. وهذا النوع من البحث لا علاقة له بالرغبة بالتجريب، بل له
علاقة بالاتجاهات والمدارس الفنية التي بدأت تظهر في الأفلام بعد العقد
الثاني من ولادة السينما تقريبا متأثرة بما ترسخ سابقا نتيجة تطور تاريخي
متصل، وما صار ينشأ في ذلك الزمن في عالم الأدب والمسرح والفن التشكيلي من
مدارس واتجاهات نتيجة مواقف أيديولوجية وفلسفية ومفاهيم فكرية وفنية من
الفن وعلاقته بمادته وبالواقع الذي يعبر عنه، لهذا تسمت هذه المدارس
والاتجاهات السينمائية، مثلها مثل المدارس والاتجاهات الفنية والأدبية
الأخرى، بأسماء تعبر عنها وعن مضامينها، تعبيرية، واقعية، سريالية، ولم
يعتبرها أو يسمها أحد أفلاما تجريبية.
بعد أن تجمعت خبرات كثيرة في مجال صناعة الأفلام ترسخت واستخدمت فيها وسائل
تعبير عدة لا تحصى، ضمن أساليب فنية متنوعة بعضها ينتمي لمدارس واتجاهات
فنية وفكرية وبعضها الآخر يعكس شخصية إبداعية لمخرجين متميزين، بحيث يمكن
الظن بأنه ما عاد سهلا ابتكار وسائل تعبير جديدة مميزة تضاف إلى مخزون
وسائل التعبير التي تراكمت عبر أكثر من قرن على عمر السينما، ثم انه ضخت
دماء جديدة في عروق صناعة الأفلام وكان ذلك نتيجة انتشار التقنيات الرقمية
الجديدة، التي أفسحت المجال أمام إمكان الجمع، داخل الفيلم الواحد، بين
الأجناس السينمائية المختلفة فصار الفيلم ككل، وحتى داخل المشاهد المفردة،
يجمع ما بين الروائي والتسجيلي والرسوم المتحركة، وما بين الواقع الحي
والواقع الافتراضي في وحدة متجانسة، كما أفسحت المجال أمام إنجاز مؤثرات
بصرية وسمعية تلبي أغرب شطحات الخيال، وهذا كله وضع بين أيدي السينمائيين
المحترفين، كما بين الهواة أو الراغبين في خوض هذا المجال من دون خبرة
سابقة، إذ بات تعلم استخدام هذه التقنيات من قبل عامة الناس المهتمين أمرا
سهلا، إمكانات يسيرة الاستخدام لدرجة أنها لا تحتاج لجهود جماعية، كما هو
الأمر في صناعة الأفلام، ولا تحتاج لربط إنتاج هذه الأفلام بمستحقات سوق
العرض والتوزيع التجاري.
نتيجة هذا كله بدأت تُصنع أفلام قصيرة من قبل الهواة المفتونين بالتقنيات
وما توفره لهم من إمكانات يجربون من خلالها مهاراتهم التقنية، من دون أن
تتمتع هذه الأفلام بالنضج الكافي من ناحية تكوين الفيلم ككل وبنائه الدرامي
إضافة إلى القيمة الفكرية أو عمق المضمون، وهذا يعني أن هذا التجريب ذو
طبيعة تقنية بالدرجة الأولى، ولأنه كذلك، يجد هذا النوع من الأفلام نفسه
بحاجة للبحث عن تبريرات تضفي على وجوده الشرعية المطلوبة، وهكذا برز وظهر
إلى العلن مصطلح السينما التجريبية الذي يصنف هذه الأفلام كنوع سينمائي
مستقل.
لكن، وبغض النظر عن مستوى جودة هذا النوع من الأفلام الحرفية أو قيمة
إنجازه الفني، فإن المصطلح بحد ذاته يظل ذا طبيعة هلامية عصية على التعريف
الدقيق.
الخليج الإماراتية في
06/06/2009 |