لكل داء دواء يستطاب به .. الا الحماقة أعيت من يداويها عادل
إمام حقا يثير الشفقة بظهوره وحديثه في السياسة وامور لا يفقه
فيها شيئا ويبدو اعجز
واجهل من ان يحاجج دفاعا عن مواقف حمقاء يتخذها يحاول ان يغلفها كذبا على
انها
مواقف 'شجاعة' وجريئة لأنها تختلف عن السائد عن إجماع غالبية الناس، فيما
هو في
حقيقة الأمر أجبن من أن يعترف ان هذه المواقف إنما تنبع اصلا
من تماهيه مع موقف
النظام في مصر. كان واضحا ان مقدم برنامج 'واحد من الناس'، عمرو الليثي،
على قناة 'دريم' أخطأ باستضافة عادل إمام - ربما مع
سبق الاصرار والترصد - لأن النتيجة التي
يخرج بها المشاهد من الحلقة هي ان عادل امام لم يعد واحدا من
الناس بل من أزلام
النظام. استضافه المذيع على ما يبدو ليمنحه الفرصة اولا وقبل كل شيء ليثوب
الى رشده
ويتراجع عن الآراء التي اثارت ضده الكثيرين الذين لم يستطيعوا ان يدركوا
دوافعها
الحقيقية ولا توقيتها خاصة حين كان العالم العربي والاسلامي
والمجتمع الدولي بقده
وقديده- باستثناء ادارة الرئيس بوش- يتعاطفون مع الفلسطينيين الذين يتعرضون
لمذابح
في غزة. لكن عادل امام ابى وتمسك بآرائه بعناد كان من الواضح انه ليس نابعا
عن اي
قناعة او ايمان حقيقي بما يقوله، وإنما عز عليه وهو 'الزعيم'
ان يتراجع عن اراء
تبين حمقها قبل مضي وقت قليل، ولكن ماذا يمكن ان تقول او تفعل حيال الداء
العضال
سوى قول الشاعر 'لكل داء دواء يستطاب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها'.
وهذا مجرد
تفسير واحد لعناده، وهناك آخر أشرت اليه على صلة بمن يهدف هو
اصلا ان يدافع عنهم من
وراء هجومه على المقاومة. كل مرة يمنح المذيع ضيفه فرصة للتراجع بأن يفتح
له كوة
ولو صغيرة لكي ينفذ منها مثل قوله 'لكن انت فنان الشعب لا الحكومة.. وكان
الناس
جميعهم يتوقعون منك ان تساند المقاومة'، وكأنه يقول له كان من
واجبك على الأقل ان
تساند المقاومة اثناء المعركة في العلن، فيما رجالها وذووهم من مئات
الفلسطينيين
يسقطون كالذباب بقذائف المدفعية والطائرات والصواريخ المنهمرة على رؤوسهم.
اوليس
هذا ما تفعله امريكا مع اسرائيل حين ترفض توجيه النقد لها
علانية حتى تضمن لها دعما
سياسيا وديبلوماسيا، وتؤجل النقد والاعتراضات لما وراء الابواب. حتى هذه
المرة كانت
وزيرة الخارجية آنذاك كوندوليزا رايس هي التي قادت حملة صياغة قرار وقف
اطلاق النار
في مجلس الأمن بعد ان ادركت ان كل يوم يمضي والعدوان مستمر يخصم من رصيد
اسرائيل
ومن ادارة بوش وهي في النزع الأخير، وبعد ان تبين لها ان
العدوان لن يحقق ايا من
اهدافه المعلنة وأنه سينتهي الى نفس فشل حرب حزيران/ يونيو 2006 على لبنان.
لكن
رئيسها الفذ شاء ان يحرجها ويضغط عليها في اللحظة الأخيرة ويطلب منها
الامتناع عن
التصويت على القرار الذي صاغته.
حتى هذه الفرصة الأخيرة التي منحها المذيع،
عمرو الليثي لضيفه ليصحح موقفه من المقاومة ذهبت ادراج الرياح،
إذ رد عليه امام
بإصرار 'لأ بقى ياسيدي.. أنا ضد المقاومة.. انا مش مع المقاومة.. المقاومة
الوحيدة
هي مقاومة الشعب المصري.. ولما حاربنا حاربنا بقى بجد جيش لجيش. انما تقولي
مقاومة
وتروح ضارب بتاعة يروحوا لبينك بقى بالصواريخ'. نسي عادل امام نفسه ربما
وتصور انه
يصور مشهدا كوميديا من احد افلامه او من مسرحية 'شاهد ماشافش
حاجة'، لأنه فعلا اعمى
البصر والبصيرة. وما علاقة مقاومة الشعب المصري بالمسألة هنا؟ وهل يعني انه
اذا
الشعب المصري قاوم تحرم المقاومة على من عداه، او ان أي مقاومة غير مقاومة
المصريين
لا تعتبر مقاومة؟ او ان على الفلسطينيين ان يرضخوا للاحتلال
حتى يتمكنوا من تكوين
جيش لديه دبابات وطائرات كالجيش المصري في الألفية القادمة؟ او ربما يجدر
بحماس
الانتظار حتى تفتح مصر معبرها ليتمكنوا من ادخال بضع طائرات اف 16 ومروحيات
ودبابات
وصواريخ من تلك التي يستخدمها الاسرائيليون في ضربهم؟
وفجأة وبدون مقدمات،
يتفوق عادل امام على نفسه في الحماقة ويقفز الى نقطة اخرى تماما متسائلا 'اين
ذهبت
الأموال التي تبرع بها الملك عبد الله في اتفاق مكة؟' وما علاقة هذه بتلك،
أم أن
الزعيم حين يشعر بالحصار وضعف حججه وتهافتها وتفاهتها يلجأ الى
'الهلفطة' واللغو
الفارغ الذي لا اول له من آخر. ام انه مرة ثانية يتماهى مع موقف محور
'الاعتدال'
الذي تتزعمه مصر والسعودية؟ ام انه يريد ان
يهاجم حماس وبأي طريقة ولأي سبب؟ وهذا
ما فعله بعد قليل حين راح يهاجم انقسامات الفلسطينيين، فهل
انقسامهم سبب او حجة لكي
لا يدعم المقاومة او فصيل من الفلسطينيين حين يتعرضون للعدوان؟
وحين انتقل
الحديث الى دفاع 'الزعيم' عن النظام قال غاضبا 'بيهاجمو الرئيس مبارك
واسرته
ويشتموه ويشتمو ابنه، وهو ساكت، طب ليه، هي دي الديمقراطية'.
هل نفهم من ذلك ان 'الزعيم'
يريد استعداء النظام على اولئك الذين يتجرؤون على نقده او مهاجمته؟ ثم من
يعني بالضبط باولئك المهاجمين؟ هل يعني مثلا صحافيا مثل عبد الحليم قنديل
الذي تعرض
للضرب المبرح وظل النظام - وليست الحكومة- اذا كان 'الزعيم' مضحك الجماهير
لا يفهم
الفرق بين الاثنين- ممثلا في رئيس الجمهورية يطارده من صحيفة
الى أخرى، ويمارس
ضغوطا متواصلة على مالكي هذه الصحف حتى يتخلوا عن خدماته. يعني الرئيس 'مش
ساكت'
كما يزعم مضحك الجماهير. ام انه يعني رؤساء
تحرير صحف المعارضة الاربعة الذين صدرت
ضدهم احكام بالسجن (حتى يتدخل الرئيس لاحقا ويلغيها!) لمجرد
انهم نشروا خبرا لم يكن
كاذبا- عن اعتلال صحة الرئيس؟ الرئيس ليس ساكتا إذن؟
يتساءل الزعيم 'هو ده ثمن
ان احنا (لاحظوا ضمير المتكلم هنا وكأنما توحد بالحكومة والنظام)، قلنا
حايبقى
عندنا حرية تعبير'؟ وماذا تعني حرية التعبير اذا لم تكن مهاجمة
الرئيس وابنه الذي
يشغل عدة مناصب رسمية؟ ام ان الزعيم لا يجد غضاضة في ان يتعرض رئيس الوزراء
والوزراء وما لا حصر له من المسؤولين ورجال الأعمال للهجوم كل يوم تقريبا،
ولا يثير
ذلك غضبه او حفيظته، وإنما يقشعر بدنه فجأة وتستيقظ مشاعره
الوطنية فقط حين يهاجم
الرئيس وابن الرئيس، في بلد 'تأتي حبة القمح فيه بمرسوم من السلطان' بينما
رئيس
الوزراء ووزراؤه مجرد كومبارس او غارقون في فضائح البيزنس وصفقات النهب
واستنزاف
البلد من استيراد القمح الفاسد الى 'تسقيع' الأراضي، وتصدير
الغاز لاسرائيل بأبخس
الأثمان؟ وهل ينفذ نظيف وشركائه إلا السياسات العليا 'للجنة السياسيات'
التي يرأسها
ابن الرئيس؟ أم أنه يرى ان ذات الرئيس (الملك) مصونة لا تمس، كما كان في
العهد
الملكي؟
مرة ثالثة يحاول المذيع ان ينبهه الى خطل آرائه فيذكره ان 'اليونسكو'
اختارته ممثلا لها او سفيرا للنوايا الحسنة، لأنه فنان الشعب وليس فنان
الحكومة او
النظام (الكلمة التي لا تعجبه، لأنها ببساطة تفرق بين الشعب وحكامه، وهو
يريد ان
يطمس حقيقة انه مع الحكام وليس الشعب)، فيتدخل مصححا للمذيع
و'ايضا لأنني ضد
الديكتاتورية وضد حكم الفرد'. حقا؟ كيف إذن لا يرى في ذلك أي تناقض مع
تأييده أن
يأتي جمال مبارك 'خليفة' لأبيه، ولا تناقضا بين معارضته للديكتاتورية وحكم
الفرد
وبين ان تحكم مصر برئيس واحد لسبعة وعشرين عاماً، تغير خلالها
الرئيس الامريكي ثلاث
مرات، والرئيس الفرنسي ثلاث مرات، ورئيس الوزراء البريطاني
ثلاث مرات، والمستشار
الألماني ثلاث مرات، والإيطالي والأسباني والاسترالي، فإن كانت
المقارنة لا تصح مع
هذه البلدان لأنها تنتمي لكوكب زحل او المريخ، فما رأي الزعيم في إيران
التي تغير
رئيسها ثلاث مرات والرابع في طريقه، او في جنوب افريقيا التي أجبر حزبها
الحاكم
رئيسها على الاستقالة؟ كل هؤلاء تغيروا فيما العرض عندنا لا يزال مستمرا،
ولكن ليس
بناء على رغبة الجماهير، بل رغما عن انف الجماهير.
في بلد لا يوجد فيه
مستقبل
في نفس الحلقة استضاف المذيع شابا في مقتبل العمر اسمه معتز فاروق،
وبالأحرى التقاه على نفس المقهى الذي يعمل فيه الشاب خريج كلية
'دار العلوم' ليلا
فيما يعمل نهارا مدرسا للغة العربية. يتقاضى معتز مرتبا قدره 350 جنيها
مصريا، يدفع
منها ايجار شقة 300 جنيه. ويتبقى معه 50 جنيها للمأكل والملبس والشراب
والعلاج
لأسرته التي تضم زوجته وولديه ووالديه اللذين يعولهما، وفوق
هذا وذاك مصاريف العلاج
الذي يتلقاه هو من مرض عضال الم به. محمد يعمل مساء في قهوة 'قهوجي'، حتى
يتمكن
بالكاد من تغطية كل هذه التكاليف التي تبهظ كاهل اي انسان صحيح معافى، فما
بالنا
برجل مريض. كيف يمكن لشاب في مثل سنه ومثل مرضه ان يعمل 8
ساعات 'قهوجي' ليعود الى
منزله منهكا مساء فينام بالكاد خمس ساعات ليستيقظ في اليوم التالي ليبدأ
عمله مدرسا
لثمان ساعات اخرى؟ ترى اي تعليم سيلقنه محمد لتلاميذ تكتظ بهم الفصول؟ وبأي
تركيز
وأي ذهن واي جسد واهن يهده المرض وينهشه سوء التغذية وهموم لا
حصر لها. (فهل نعجب
بعد كل هذا من تدني مستوى التعليم والطلاب والخريجين يوما بعد آخر). كان
بوسع محمد
ان يتكسب من الدروس الخصوصية لكنه ابى، وكان بوسعه ان يتكسب مئة جنيه على
الطالب
الواحد إذا وافق على طلبات أولياء امورهم وتساهل في عمل
واجباتهم المدرسية وفي
مساعدتهم على تجاوز الامتحانات نهاية العام. لكنه رفض. وفضل العمل قهوجي.
وهو فخور
بعمله كأستاذ وكهقوجي، ولا ينكر ايا منهما امام زملائه في المدرسة او
زبائنه في
المقهى. ظل معتز مبتسما طوال الحوار يجاهد ان يتحلى بالشجاعة
والصبرعلى البلاء و 'الرضا'،
إلى ان سأله المذيع عما إذا كان هناك شيء بعينه يريد ان يقوله في نهاية
اللقاء فقال 'أشعر انني مظلوم'، ثم انفجر باكيا. هذه قصة شاب واحد لا أقول
انه فقط
نموذج لملايين من امثاله يكابدون شظف العيش، بل الأسوأ من ذلك
أنه أفضل حالا من
ملايين آخرين أسوأ حالا منه لا عمل لهم اصلا، لا يتذكرهم المجتمع الا حين
يسمع بغرق
بعضهم وهم يحاولون الهروب في قوارب الموت من الجحيم الى عالم آخر أكثر
رحمة، فينتهي
بهم الأمر الى العالم 'الآخر'، لعله يكون بالفعل اكثر رحمة بهم.
لفت نظري ان
المذيع اختتم لقاءه مع الشاب معتز فاروق بابيات الشاعر الراحل صلاح عبد
الصبور ' في
بلد تتعرى فيه المرأة كي تأكل.. لا يوجد مستقبل.. في بلد يتمدد
فيه الفقر في
الطرقات لا يوجد مستقبل.. يا اهل مدينتنا انفجروا او موتوا.. رعب اكبر من
هذا سوف
يجيء'.. تخيلوا من استشهد ايضا بأشعار صلاح عبد الصبور في نفس الحلقة؟ عادل
إمام،
ولكن في الموضع الخطأ وللسبب الخطأ، حين قال 'الناس في بلادي طيبون'.. ليس
لأنهم
كما يظن هو، بل لأنهم مقهورون، مقموعون، ومجوعون، وإذا مرضوا
لن يجدوا من ينقلهم في
طائرة خاصة مجهزة للعلاج في فرنسا، ولا حتى في سيارة إسعاف. ولأن الشاعر
يقول في
القصيدة ذاتها من الديوان الذي يحمل اسمها:
الناس في بلادي جارحون كالصقور
غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة الشجر
وضحكهم يجز كاللهيب في الحطب
خطاهم
تريد أن تسوخ في التراب
ويقتلون، يسرقون، يشربون، يجشأون
لكنهم
بشر
وطيبون حين يملكون قبضتي نقود
ومؤمنون بالقدر
فالناس في بلادي لم
يعودوا طيبين
ناقد سينمائي من مصر
القدس العربي في
01/06/2009 |