ما هي وظيفة المخرج؟ كثيرا ما يتردد هذا السؤال، ربما لغموض وظيفة المخرج
وعدم وضوح ما يفعله بالضبط، فالكاتب يكتب، والممثل يمثل. ولكن المخرج لا
يعكس مسمى وظيفته، وغير واضح تماما ما يفعله بالضبط لبعض المتابعين
السينمائيين. كما أنه لا يقوم بتنفيذ أدواته السينمائية التي يتخصص في
توجيهها بنفسه، فلا يقوم هو بالتصوير، ولا بتصميم الديكورات، ولا بتأليف
الموسيقى. إذن ما الذي يفعله بالضبط؟
وهل لنا أن نرى المخرج كالطباخ الحاذق! إذ يأخذ وصفة عشوائية تحتوي على كل
المقادير والإرشادات، وليس من الضروري أن يتكفل بتجهيز عناصر ومقادير
الطبخة إذ من الممكن أن يتولى ذلك أي معاون له. ولذا فإنه يكتفي بمزج
العناصر بالطريقة المناسبة، فمجرد الزيادة أو النقصان الضئيل في أي عنصر من
هذه العناصر أو عدم ضبط توقيت إضافته أو عملية طبخه قد تربك الذائقة وتفسد
الطعم، ويعمل على التفاصيل الدقيقة التي يستطيع من خلالها إعطاء مذاق خاص
للوصفة التي لم يكتبها وللعناصر والمقادير التي لم يحضرها. وهو مذاق فريد
من نوعه قد لا تجده عند غيره رغم أن الوصفة هي نفس الوصفة والمقادير هي نفس
المقادير! هذا هو المخرج في السينما! الرجل الأخير في سلسلة الإنتاج
السينمائي الذي يتحكم بكل شيء، ويوجهه نحو ما يريد بكثير من الدقة
والمهارة، مستخدما أدق التفاصيل، وواضعا كل شيء في محله الصحيح، وبالطريقة
المناسبة. فالمخرج يمضي في عملية تصوير الفيلم محفوفا بمخاطر كبيرة، إذ
يتوجب عليه أن يشرح ما يريد لكل فرد من أفراد الطاقم. ومجرد الغفلة عن ما
قد يفعله المصور أو الممثل أو مصمم الديكور أو المونتير (الذي يتولى عملية
المونتاج) قد يجعله مجرد مراقب كما وصفه أحد النقاد. ولذا يجب أن يكون كل
شيء من حوله يصب في صالح ما أراده، ويمضي في سياق الصورة الكبيرة التي أراد
أن يخرج العمل مطابقا لها.. يجب على الجميع من حوله أن يعملوا وفق أفكاره
ورغباته، ولا يفترض أن يكون مجرد منسق بين جهات العمل، وإنما يجب أن يكون
هو المركز والجوهر. ورغم ذلك فإن مكانة المخرج الحقيقية كما وصفتها آنفا،
لم ترسخ أركانها إلا بعد مرور زمن من اختراع آلة التصوير السينمائي، حيث
كان المصورون هم من يتحكمون بعملية الإخراج، غير آبهين بسياق الأحداث
وتركيب العناصر وفرض الأسلوب وتطويع القصة وما إلى ذلك.. حيث كانت الأفلام
التسجيلية القصيرة عبارة عن ما يشبه (العملية الميكانيكية المجردة من أي
فكرة أو فن)، إلى أن خرج الأميركي ديفيد غريفيث بفيلمه العظيم
The Birth of a Nationالذي
منح مصطلح «الإخراج السينمائي» أبعادا لم تكن موجودة من قبله، تبعه في ذلك
الفرنسي لويس فويلاد. ولكنها أبعاد ظلت محدودة الأفق ومتقوقعة في زاوية
صغيرة من هذا الفن العظيم إلى أن جاء الروسيون بقيادة آيزنستاين وبودفكين
وأرفجنكو وغيرهم الذين ركزوا على المونتاج كواحد من أهم عناصر الإخراج
السينمائي. ومن بعدهم انفتحت الأبواب الموصدة أمام المخرج السينمائي ليتحكم
ويجرب ويتنوع، وبدأت تترسخ لديه قناعة أن الإخراج لا حدود له، يستطيع من
خلاله أن يفعل بعمله ما بدا له، لا يقف في طريقه سوى الإمكانيات وضوابط
الإنتاج. وهو الأمر الذي عانى منه لفترة طويلة حيث ظل المخرج مقيدا بقيود
الإنتاج، إذ كانت السينما حديثة العهد لا تمتلك مرجعية ثقافية قوية تكفل
لها التميز كشأن الفنون الأخرى، ولذا سيطر عليها المنتجون وخصوصا في
هوليوود، وتعاملوا معها على أنها وسيلة ترفيه ليس إلا. ولذا كان المخرج في
هوليوود يمنع من دخول غرفة المونتاج، مما أعطى المونتير صلاحيات كبيرة، إذ
أن المونتاج عنصر مهم في عملية تركيب الفيلم في صورته النهائية بشكل قد
يغير كثيرا من معالمه الأصلية. إلا أن المخرج وجد سبيلا للتغلب على الظروف
الإنتاجية والإمكانية والاجتماعية، واستطاع أن يمضي في ممارسة وظيفته
بأساليب مختلفة وتجارب غريبة وتوجهات فريدة ومدارس تجريبية لا حصر لها. كان
المخرج هو الطرف الأهم فيها، حيث أن العمل بكل تفاصيله يعتمد عليه. وهو ما
جعل السينمائي الروسي العظيم أندريه تاركوفيسكي يتحدث في كتابه «النحت في
الزمن» عن مفهوم مهم للغاية يتعلق بالمخرج والإخراج السينمائي.. وهو ما
أطلق عليه «سيناريو الإخراج»، إذ أن السيناريو في شكله الطبيعي قد يعتبر
نوعا من الأدب، إذ يحتوي على بناء خاص به وسرد للأحداث وتكوين للشخصيات،
ولذا يجب أن يتم تحويله من قطعة أدبية إلى شيء يشبه المخطط التفصيلي للعمل،
بمعنى أن يتم استبدال (الصور الأدبية بمرادفات سينمائية) كما قال. فالوصف
الأدبي للقطة يستبدل بصورة يكونها المخرج في ذهنه للمشهد من دون الرجوع إلى
اللقطة الموصوفة أدبيا، ولذا فإن التزامه بالسيناريو يكون شبيها بخطة عمل
لا تحتوي على أي عنصر أدبي جمالي. والسبب الرئيسي في هذه الفكرة أن أدبية
السيناريو قد تؤثر على سينمائية الإخراج، وهو أمر لا يمكن أن يحدث، إذ يجب
على المخرج أن يكون ملتزما بسينمائيته في كل عمله بلا استثناء.
كما أن المخرج يعمل في الواقع، ويتفاعل مع عفوية اللحظة، ولذا يجب أن يرتجل
في كثير من الأحيان، فالخيال الذي يوفره السيناريو ليس بثراء الحياة التي
يخترقها المخرج ليصور فيلمه، ولذا يجب أن يستسلم لإغراءات الإلهام بأن يعدل
ويحرف ويجرب.. ومادام السيناريو غير أدبي فسيكون حينها مفتوحا لإمكانيات
التعديل والإضافة. ولذا فهو يصف السيناريو بأنه (بناء حي، هش، متغير
دائما). والفيلم لا يأخذ شكله النهائي إلا لحظة اكتمال العمل. السيناريو
مجرد قاعدة، نقطة انطلاق، منها يبدأ الفنان في السبر والاستكشاف. ولا
يستثني تاركوفيسكي من هذا المنهج سوى السيناريوهات التي اشترك المخرج في
كتابتها، حيث أنها بالنسبة له تمثل وجهة نظر عملية لما سيكون عليه الفيلم،
بعكس حينما يكون المخرج مجرد متلق للسيناريو لم يتعايش مع صور كتابته.
أعتقد أن في رأي تاركوفيسكي الكثير من الأصالة السينمائية تجاه وظيفة
المخرج، إذ جعله متسيدا على جوهر العمل بأكمله ومنحه صلاحيات لا حدود لها
بخصوص السيناريو تحديدا. وسواء اختلفنا أم اتفقنا معه، ولكن رأيه يظل دليلا
على أن المخرج هو مركز العمل الذي تصب فيه جميع الأشياء الأخرى. ولذا يجب
عليه أن يعي هذا جيدا، وأن يتصرف بناء عليه!
الشرق الأوسط في
29/05/2009 |