في العام 1929، أنشأ الايطالي جوردانو بيدوتي أول معمل لتحميض الافلام
السينمائية وطبعها في بيروت. ولم يكن هذا المعمل مشروعاً تجارياً، بل أداة
مكّنت صاحبه عامذاك من تظهير اللقطات الاولى لأول فيلم لبناني صامت، أخرجه
بنفسه في عنوان "مغامرات الياس مبروك".
استغرق العمل على الفيلم أكثر من عام وامتنع أصحاب الصالات مراراً عن عرضه
بسبب انتهاء حقبة السينما الصامتة. فكان ان تدخل رئيس الحكومة وقتذاك أوغست
باشا أديب، وأسفرت وساطته أخيراً عن إطلاق الفيلم في العام 1932 اي بعد
ثلاث سنوات على انجازه على شاشة الـ"أمبير" في ساحة البرج.
هاجر جوردانو بيدوتي مع عائلته الى بيروت في سن الرابعة والعشرين وكان يحمل
معه كاميرا سينمائية فرنسية الصنع. بعيد استقراراه في بيروت، أخذ في تطوير
هوايته في التصوير ملتقطاً المناظر الطبيعية والاثرية وتحركات جيش الانتداب
الفرنسي التي استغلت في الجريدة السينمائية المصورة التي كانت رائجة
وقتذاك. ساعده ذلك في تطوير قدراته التقنية وتأسيس معمل لطبع الافلام
وتحميضها في منطقة الزيتونة. عاد بيدوتي الى معمله هذا لتحقيق فيلمه الثاني
والاخير "مغامرات أبو العبد" (1934) ليتبين بعد ذلك عجزه عن الاستمرار
بمشروعه السينمائي بواسطة موارده المادية المحدودة.
يرجع الفضل الى هيرتا غرغور في تأسيس شركة "لمنار فيلم" عام 1933 بالتعاون
مع أصحاب سينما "أمبير" آل قطان وحداد. لم تشأ تلك السيدة الالمانية معاداة
بيدوتي فطلبت مساعدته على تقديم مهاراته الفنية كما عقدت اتفاق تعاون مع
استديوات "باتيه" الفرنسية الامر الذي سمح لها بإرسال موظفيها الى باريس في
دورات تدريبية في المختبرات السينمائية. وكان من بين هؤلاء جورج كوستي
اليوناني الأصل الذي يُعد أب المصورين السينمائيين وأول من بنى المعامل
والاستديوات السينمائية في لبنان. بعد قضائه ستة أشهر من التدريب المكثف في
باريس، بدأ كوستي الذي لُقب "باباتي" ببناء استديو لحساب شركة "لمنار فيلم"
متخذاً من شقة في عمارة تمتلكها السيدة غرغور مقراً للبلاتوه الذي زوده
بعوازل الصوت. بينما استغل الطبقة السفلية من المبنى وحوّلها معملاً للطبع
والتحميض. تعاون كوستي في عملية البناء مع فريق ايطالي مؤلف من فنيين
مستخدماً وسائل بدائية في تجهيز المعمل مثل اطارات خشبية للف الاشرطة
المصورة تمهيداً لتحميضها ومن ثم تجفيفها على جسم اسطواني.
تمكنت "شركة لمنار" بواسطة ذلك المعمل البدائي من انتاج اول فيلم ناطق في
لبنان "بين هياكل بعلبك" من اخراج المصور الايطالي جوليو دي لوكا عام 1934.
ولكن الشركة لم تصمد طويلاً فتابع كوستي عمله كمصور قبل ان يتوصل الى تأسيس
"استديو الارز" داخل بيت ايضاً استأجره في منطقة الاشرفية واستمر في ادارته
حتى وفاته.
الى "استديو الارز" شهدت السينما اللبنانية في تلك الآونة انشاء عشرات
المعامل والمختبرات من مثل "معمل تليان" في الزيتونة قبل ان ينتقل الى عين
المريسة، وآخر في الحدث أنشأه المخرج السوري جوزيف فهده وثالث أقامه المخرج
الارمني العراقي الاصل غاري غرابتيان في منطقة عين الرمانة وغيرها. مع
تزايد عدد الاستديوات والمختبرات، انقسمت الاخيرة الى قسمين: الاول مخصص
بتنفيذ عمليات النسخ من أشرطة 35 ملم الى اشرطة 16 ملم، والثاني متخصص
بتقنيات الصوت وأعمال المونتاج والدبلجة. من معامل النسخ كان هناك معمل
لإميل تركية في الاشرفية وآخر لآل اللبان في رمل الظريف وسواهما. ومن بين
استديوات الصوت والمونتاج يبرز "استديو الشرق الادنى" لصاحبه ريمون عواد في
جوار فندق "فينيسيا" و"استديو الاتحاد الفني" لمؤسسه الفلسطيني صبحي أبو
لغد.
ولكن تسمية الاستديو لا تنطبق على تلك المنشآت بالمعنى السينمائي الدقيق
للكلمة لجهة افتقارها الى البلاتوهات وعدم امتدادها على مساحات جغرافية
واسعة تسمح باستثمارها لبناء ديكورات خارجية. على ان هناك ثلاثة استديوات
احتضنت تركيب مئات الافلام السينمائية التي أنتجت على امتداد نحو أربعين
سنة وشكلت في النهاية تراث لبنان وإرثه من الصورة السينمائية هي استديوات
العصري وهارون وبعلبك.
الاستديوات الاساسية
يعود تأسيس "الاستديو العصري" الى العام 1947 حيث تم انشاؤه عند مدخل مخيمي
صبرا وشاتيلا من قبل مجموعة شركاء لبنانيين وسوريين أطلقوا عليه اسم
"العصري" تدليلاً على احتوائه على المواصفات الحديثة للاستديو السينمائي من
مساحة واسعة وتجهيزات فنية اشرف عليها جوزيف كرامة. كان "العصري" أكبر
الاستديوات في لبنان والمؤهل لتصوير المناظر الداخلية كما حدث مع يوسف
شاهين في فيلمه "بياع الخواتم" عام 1965 حيث استغل بلاتوات "العصري" لتصوير
معظم مشاهد الفيلم.
في أحد أحياء الفنار، أنشىء استديو هارون على يد الرائد السينمائي ميشال
هارون الذي أخرج فيلماً يتيماً علم 1957 في عنوان "ورود حمراء" منجزاً
عملياته التقنية في الاستديو المذكور ومن ثم متفرغاً للاشراف بنفسه على
تنفيذ كافة المهام الفنية للافلام. مازال الاستديو قائماً اليوم بعهدة
اولاده.
أما "استديو بعلبك" فيرجع تاريخ تأسيسه الى الخمسينات ويعود الفصل في ذلك
الى رجلي اعمال فلسطينيين ثريين، الأول بديع بولس والثاني يوسف بيدس. يرجح
بعض المخضرمين من اهل الصناعة السينمائية في لبنان ان الاستديو قام محل
دارة فخمة امتلكها بديع بولس في منطقة سن الفيل وكان بولس للمناسبة صاحب
مؤسسة "غرانديغ" لاستيراد الأدوات الكهربائية والالكترونية وبيعها الى جانب
الاجهزة الاذاعية والتلفزيونية وفي مقابلة اجراها المخرج والناقد محمد سويد
قبل أكثر من 15 عاماً (نُشرت في جريدة "السفير" اللبنانية)، مع احد رجال
الرعيل الأول في اذاعة "الشرق الأدنى" المخرج كامل قسطندي روى الأخير ان
فكرة الاستديو ولدت اصلاً من رغبة رجال "الشرق الأدنى" في تطوير عملهم
الاذاعي وتطبيعه بنشاطات فنية اخرى: "في البداية، أنشأنا "الشركة اللبنانية
للتسجيلات الفنية" وتوزعت المهام الفنية والادارية في المرحلة التأسيسسة
بين كل من توفيق الباشا، نزار ميقاتي، زكي ناصيف وكامل قسطندي، وفيما تولى
صبري الشريف منصب المسؤول عن الدائرة الموسيقية، انيطت الاعمال الادارية
بسميح الشريف".
بحسب كامل قسطندي، بدأت عملية التأسيس عام 1957 وسرعان ما تحولت "الشركة
اللبنانية للتسجيلات الفنية" "استديو بعلبك" للاسباب الآتية: "ذات يوم اتصل
بي بديع بولس ثم اطلعني على تشييد استديو سينمائي في الشركة المتخصصة بفنون
الصوت والموسيقى. بعد البحث اتفقنا على التنفيذ، لكن حصل انني اجريت
اتصالاً بالمغفور له اميل البستاني الذي كان يشغل آنذاك رئاسة مجلس ادارة
شركة "كات". طلبت منه الدخول في مشروع الاستديو سألني: "كممثل لشركة كات؟"
اجبته: "لا وانما بصفتك الشخصية" فوافق وكانت موافقته كافية لاثارة الريبة
لدى بديع بولس حتى آثر الاستقلال بفكرته وانتهى الامر بانسحابي من المشروع
وتحولت شركة التسجيلات الفنية شيئاًَ فشيئاً استديو سينمائياً عرف باسم
"بعلبك" واقترن اسمه أخيراً بالمصرفي الراحل يوسف بيدس.
ينقل عن بيدس قوله انه لطالما نظر الى لبنان وافتتن بمشاهده الطبيعية
ومواصفاته المناخية المعتدلة التي تؤهله لان يكون بيئة ساحرة للتصوير وجنة
سينمائية في الشرق تجتذب المنتجين على غرار هوليوود في للولايات المتحدة
الأميركية.
بحكم موقعه في رئاسة مجلس إدارة بنك انترا، وقع بيدس في اغراء المشروع الذي
انطلق به بديع بولس، واخذت فكرة تبنّي "انترا" استديو بعلبك طريقها الى
التنفيذ انطلاقاً من امتلاك بولس اسهماً في البنك. ولا شك في أن ما اتسم به
يوسف بيدس من جهد ومثابرة واخلاص في متابعة عمله حمل الازدهار لاستديو
بعلبك حتى باتت السينما في وقت ما رهاناً شخصياً على قوة بيدس، وكان
طبيعياً بعد سقوط انهيار بنك انترا وافلاسه غير المنتظر ان تتهاوى معه
امكانات تطور الاستديو الى اكثر مما كان عليه حتى أتت الحرب واخذت بالقضاء
عليه تدريجياً ولم تعد الدولة قادرة على تحمل أعبائه ما أدى في الختام الى
إقفال أبواب الاستديو والاستغناء عن خدمات موظفيه.
من بعد ذلك انطفأ كل شيء. راح الاستديو العصري قصفاً بالطائرات الاسرائيلية
ابان اجتياح لبنان في صيف عام 1982 وتوقف استديو بعلبك عن العمل، فيما تحول
شقيقهما الثالث "هارون" الى الاعمال التلفيزيونية ولم يبق من آثار استديو
الارز القديم سوى غرف مهجورة وعلب المنيوم فارغة من الافلام.
في لبنان اليوم، معامل سينمائية تقوم بأعمال تقنية جزئية ولكن عملها يقتصر
على الاشرطة الموسيقية المصورة (فيديو ـ كليب) والاعلانات في ظل غياب حركة
الانتاج السينمائي المتواصلة ولجوء أصحاب المشاريع في معظم الأحيان الى
الأعمال الفنية في أوروبا بموجب عقود الانتاج المشترك او طلباً لسوية فنية
غير متوافرة محلياً.
المستقبل اللبنانية في
15/05/2009 |