«لحن
جنائزي» فيلم سينمائي قصير للمخرج المغربي الشاب محمد مفتكر. هذا الفيلم
صور بكاميرا سينمائية، ويقدم في خمسة عشر دقيقة حكاية الشاب صالح بن مهدي
بن رقية
بنت العربي كما يرد في التحقيق الذي يدور معه، وهو كما سنعرف يقضي محكومية
في السجن
منذ تسع سنوات، ويتأهب للخروج كما توحي لنا الصورة، فيما تتآكله الظنون
والهواجس في
خصوص زوجته التي نتاهى إلى مسامعه وهو في زنزانته أنها «تخونه»، وأن طفلهما
كما
تؤكد له هذه الظنون المفترسة، ليس من صلبه. رسائل الزوجة إليه في السجن
تقول عكس
ذلك، فهي تؤكد له والرسائل بين يديه أنها بشوق عارم إليه، وأن الطفل يحمل
العينين
اللتين يحملهما هو، ويشبهه، وقد سمته باسم والده هو، وتطلب إليه في رجع صدى
الصوت
المستثار ألا يعير التفاتة لكلام الناس و «القيل والقال». يطلق سراح صالح،
ويذهب من
فوره إلى البيت الجبلي الذي يحتل موقعاً مميزاً في الصورة الى جانب شجرة
وحيدة،
ويتسلل إلى البيت ويلطي لها. تعود الزوجة هي وطفلها بعد شراء بعض الحاجات،
وتدخل
بيتها ليلفت انتباهها وجود أثر لمخلوق ما، فثمة تبدلات طفيفة في موجوداته
تدل الى
وجود أثر لإنسان ما. ها هنا ابريق شاي يغلي على بابور غاز صغير، وثمة بقايا
أطعمة
على الطاولة. المشهد يؤكد هواجس معاكسة لدى الزوجة ويثير الخوف في أعماقها،
وهو خوف
له ما يبرره، فسرعان ما ينقض عليها صالح ويقوم برميها على الأرض ويخنقها
بحبل حتى
تلفظ أنفاسها الأخيرة. ويقوم نتيجة الجهد بالارتماء الى جانبها في مشهد
معبّر وكأنه
انتهى للتو من أداء واجبه الزوجي نحوها، ويصبح هو بدوره جثة هامدة لا تختلف
كثيراً
عن جثة الزوجة.
القصة إلى حد ما عادية، ويمكن البحث عنها في الكثير من الأفلام، وهي قد لا
تشكل
ذلك الإغراء حتى تتم عملية إخراجها الى الشاشة في فيلم قصير عادة ما يبحث
عن ألق
الفكرة والتكثيف ووهج الرمز والدلالة. ولكن التوليف الحر لهذه الدقائق
الخمس عشرة
يكشف في جانب منه عن قدرات في التشكيل البصري والسمعي عند هذا المخرج الشاب
استطاع
من خلاله ترجمة الأثر العادي لها إلى أثر جدير بالاحتفاء به. منذ الدقيقة
الأولى
يجبر مفتكر مشاهد فيلمه على الاستسلام تماماً للأسلوب الذي اختاره. فمنذ
لحظات
استجوابه في السجن وإجابته عن الأسئلة وتنهداته وحرقته وحتى القطع الموصل
إلى بريد
زوجته، وحبل الشنق الضروري الذي يتدلى
في مقدمة الكادر يوحي أكثر ما يوحي بأنه قد
يطاول رقبته هو، سيولد الايهام الذي تحصن وراءه مفتكر وهو يعبر
الجسر العادي في
قصته لدرجة أننا سنصدق أنه هو من سيشنق في
اللحظات التالية وأن ما يدور أمامنا لا
يتعدى محاكمته هو.
قوة «لحن جنائزي» تكمن في تركيب الصورة، وما سنشاهده من رسوم وتخطيطات
بالقلم
الرصاص لبعض الصور التي تتكرر أمامنا ويمثل وجهة نظر الطفل الصغير مهدي. من
هذه
الرسوم سينبثق المصير المأسوي الذي ينتظر أمه. وكأن هذا الطفل الذي يمكنه
تخيل أبيه
وهو يخنق أمه يعبر بدوره نحو أن يكون ضمير الفيلم (المتكلم) على رغم صمته
وحياديته
البادية حيال القصة منذ الكادرات الأولى، وهو ينسج في خياله «رؤية» لكل هذا
بملاعبته الخنفساء البرية تحت الشجرة الوحيدة التي لا تفقد وظيفتها هنا،
والتي ينجح
مفتكر بتوظيفها في فيلمه لتغير قليلاً من قتامة المكان ورمزيته وربما تشحن
خيال
الصبي نفسه.
ربما يبدو «العيب» الوحيد في هذا «اللحن الجنائزي» الجميل هو استخدام محمد
مفتكر
بعض اللقطات المتأرجحة بفعل استخدام الكاميرا المحمولة لسقف البيت
وموجوداته في
مستهل الفيلم، وهي كما سنكتشف في نهاية الفيلم تمثل وجهة نظر الزوجة وهي
تُخنق وإن
جاء توظيفها متقناً ومعللاً، وهذه تظل على أية حال وجهة نظر المؤلف نفسه
الذي اعتمد
كثيراً على تركيب فيلمه ليتخلص من قصة عادية كان يمكنها ألا تبوح بشيء عكس
ما ظهرت
عليه في الفيلم. بعد أن ينتهي صالح من خنق زوجته ولعب دور «الجثة الموازية»
سيخرج
راكضاً على أنغام أهازيج غنائية لبعض القرويات اللواتي يعتلين ظهر شاحنة
لتلتقي
عيناه بعيني الولد الصغير وهو يستمر بملاعبة الخنفساء، وسيتأمله هذا
بغرابة. ونحن
سنحاول أن نقرأ لغة العيون المشتركة بينهما في لقطات قريبة لنعرف ما إذا
كان ثمة
شبه بينهما بالفعل، وبعد ذلك ستمضي الخنفساء في حالها، والشاحنة القروية
أيضاً،
وصالح سينصرف الى حاله وكذلك الصبي... فيما نشاهد من وجهة نظر أخيرة له
البيت
والشجرة وقد تحولا إلى تخطيط بالقلم الرصاص. تخطيط أخير هو كل ما بقي له من
خياله
المفترض في هذه البقعة الجبلية الجرداء.
الحياة اللندنية في
15/05/2009 |