ولاشك عندما يتصدي أي ناقد لتناول حياة المخرج كمال الشيخ الفنية المولود
في 15 فبراير 1919 فإنه يجد نفسه أمام معضلة ما فإذا نحينا جانبا إسهامه
الكمي «نحو ثلاثة وثلاثين فيلما ما بين 195 ـ 1987، حققت معظمها نجاحا
هائلا ومثل بعضها مصر في مهرجانات برلين وكان. فسنتبين أن سمعته المهنية
المدوية والتي بنيت في وجدان الجمهور طوال عقود علي تخصصه في صنع أفلام
الغموض والتشويق لم تكن دقيقة جدا في الحقيقة إذ إنه إنصافا للحق قدم
نوعيات مختلفة تجعله أبعد من أن يكون هيتشكو ك وأقرب لكونه جون ه -ي وستون
آخر... مثل الدراما الإنسان -ي ة «ح -ي اة أو موت 1954 -: الملاك الظالم
1958» أو الغنائ -ي ة «من أجل حب -ي 1959» ـ أو العاطف -ي ة «الغر -ي ب
1956 ـ س -ي دة القصر 1958» أو ذ -ي الرؤية االس -ي اس -ي ة «الرجل الذ -ي
فقد ظله 1968 ـ م -ي رامار 1969 ـ ش -ي ء ف -ي صدر -ي 1971» أو -الخيال
العلمي «قاهر الزمن 1987» وهي أعمال مختلفة من حيث المبدأ والهدف حيث لا
تحتوي علي أي نوع من الجريمة المباشرة لكنها تشتمل علي إثارة ما في مشاهد
محددة بعينها، وربما كان استخدام كمال الشيخ أسلوبه الخاص في سبيل تحقيق
رؤية اجتماعية أو رومانسية، أو حتي أخلاقية في هذه الأفلام بدلا من
استخدامه كغاية في حد ذاتها كما هو الحال في أفلامه البوليسية الخالصة هو
السبب الذي يجعل مثل هذه الأفلام لا تبدو في نظر العديدين تحمل أياً من
سمات النوعية التي يجد المخرج فيها نفسه بالتلقائية ذاتها، تلك النوعية
الغامضة المشوقة ذات الأفكار الترقب -ي ة الت -ي طالما أخلص لها معظم ح -ي
اته. : 0 0 0 وتعد النقلة الت -ي انتقلها كمال الش -ي خ من المونتاج إل -ي
الإخراج تنطو -ي ف -ي حد ذاتها عل -ي نوع من الاعتراض فقد ظل -ي عمل كمونت
-ي ر لأكثر من عشرة أعوام «194 ـ 195» ب -ي نما كان قد حدد مستقبله من قبل
منتظرا الفرصة ل -ي نتقل إل -ي الإخراج.: :--:: :: ولعله كان محظوظا إذ بدأ
مهنته في قسم ا -لمونتاج حتي ولو لم يكن راضيا عن ذلك فقد أهلته خبرة كل
هذه السنوات لأن يكون علي دراية كاملة بكل دقائق صناعة الفيلم من مجرد
لقطات منفصلة وحتي خروج شريط الفيلم بشكله النهائي إلي الجمهور وبعمله -:
تحت إدارة مخرجين مختلفي الاتجاهات من ثقل أحمد بدر خان وأنور وجدي وكمال
سليم ونيازي مصطفي وأحمد جلال تعلم أصول وقواعد لغة الصورة والتتابع الزمني
والمشاهد الحوارية وكذلك التركيبات المعقدة للاستعراضات والتي تعتمد
بالأساس علي قطعات المونتاج لتحقق نقلا سريعا ومثاليا بين أركان الاستعراض
وأعتقد أنه هنا تب -ي ن ف -ي المونتاج وس -ي لة عمل -ي ة لوضع -ي ده عل -ي
الخلل أو الضعف ف -ي تكو -ي ن دراما مشاهد مع -ي نة من الف -ي لم وذلك من
خلال خبرة ما -ي تراوح ما ب -ي ن الخمس -ي ن إل -ي الست -ي ن ف -ي لما قام
بعمل المونتاج لها وه -ي مرحلة وضع خلالها أسس أسلوبه الفر -ي د الذ -ي س
-ي نتهجه بعد - ذلك دون أن يباريه أحد، ولعلي بسبب هذا لا أكون مبالغا إذا
قلت إنه ما من نوع كلاسيكي في السينما المصرية منح صيغته البالغة الخصوصية
إلي أحد مخرجيه مثل هذا الحزم والدقة مثلما منح نوع التشويق صيغته إلي اسم
كمال الشيخ.:: إننا نلمح في سينما هذا الفنان تيمات أساسية مهما ذهب بعيدا
عنها فإنه يعود دائما أبدا لمعالجة نفس الموضوعات الأثيرة بطرق مختلفة وذلك
علي مدي حياته الإبداعية. في عام 195 نفذ كمال الشيخ أول مشاريعه «المنزل
رقم 13» الذي يعد علي المستوي الفني أحد أجود ما قدم في سينما الخمسينات من
دراما الجريمة الغامضة وقد استوح -ي المخرج فكرة الف -ي لم من خبر صغ -ي ر
نشرته جر -ي دة المصر -ي عن عالم نفسان -ي هولند -ي أراد أن -ي ثبت
بالتجربة أثر التنو -ي م المغناط -ي س -ي عل -ي أفعال البشر فقام بالتجربة
عل -ي أحد مرضاه بأن أوح -ي له بالتقاط سلاح نار -ي فارغ و -ي طلقه عل -ي
أحد شهود التجربة وتحت التأث -ي ر المغناط -يسي نفذ المريض الأمر ومن هذا
الخبر نسج كمال الشيخ الخيط الرئيسي للفيلم وبمشاركة من كاتب السيناريو علي
الزرقاني تم زحزحة بؤرة الأحداث ليجعلها جريمة قتل يرتكبها مريض بالهلاوس
يدفعه إليه طبيبه النفساني الشرير بجعله وسيطا عن طريق التنويم المغناطيسي
حتي يقتسم قيمة بوليصة التأمين مع عشيقته زوجة القتيل. إن كمال الشيخ يضعنا
من أول لقطة في حالة ترقب وسط أجواء شديدة الرهبة تنذر بقرب وقوع الجريمة
ونحن نتابع البطل المتسلل إلي المنزل المنعزل ليجهز علي العجوز الكائن فيه
دون سبب مفهوم هل هو حقيقة أم مجرد حلم؟ كما يظن البطل نفسه ف -ي الصباح
التال -ي ؟ : 0 0 0 إن إثارة اللغز تتصاعد بعد ذلك عندما -ي طارد البطل
المرأة الغامضة الت -ي تتلاش -ي فجأة أمام ع -ي ادة الطب -ي ب إن شواهد
وأدلة عد -ي دة تؤكد أن الحلم المفزع وما تبعه قد -ي كون حق -ي قة واقعة
لكن الطب -ي ب -ي سوق بمنطق -ي ة وسلاسة تحل -ي لاً للأمر بما -ي تماش -ي
مع كونه - حلما ويسري لدينا شعور م -زعج بأن شيئا مفزعا ومجهولا يختص بهذا
الطبيب وباللغز ككل.:: وفي النهاية يحل اللغز في العيادة أيضا حيث الحوائط
البيضاء المتقاطعة بالظلال القاتمة تلقي بمسحة من الشك وعدم اليقين علي كل
الشخصيات بينما يجبر البطل المرأة الغامضة علي الاعتراف. إن كل مشهد ينسجم
مع ما قبله وما بعده بصورة تكشف لنا عن جدارة واقتدار في استخدام المخرج
لأدواته وتجعل من هذا الفيلم قطعة فنية كلاسيكية قائمة بذاتها قد تذكرنا في
أحيان كثيرة بسلسلة أفلام الجريمة السوداء في السينما الأمريكية والتي قام
ببطولتها الممثل همفري بوجارت عل -ي وجه التحد -ي د ف -ي الأربع -ي ن -ي ات
مثل الصقر المالط -ي 1941، والنوم العم -ي ق 1946 . : 0 0 0 إن ت -ي مة
الرجل الخطأ أو المتهم البر -ي ء المطالب بإثبات براءته و -ي نزلق ف -ي سب
-ي ل هذا ف -ي عدة مآزق قد أسس لها كمال الش -ي خ هنا بعنا -ي ة فائقة ونحن
نجد أنفسنا مه -ي ئ -ي ن لرؤ -ي تها ح -ي ن تتكرر مرة - في فيلم لن أعترف
1961 ومع نفس السيناريست علي الزرقاني حيث يصل خطاب مجهول إلي إحدي -
-الزوجات فتجده يحوي تهديدا لزوجها بفضح علاقته القديمة بجريمة قتل وتتشابك
الخيوط بإحكام حول شخصية الزوج وتتورط الزوجة في المسألة حتي النهاية
المثيرة التي تكشف الفاعل الحقيقي وهو أخو الزوجة. هذه التيمة نراها بنبرة
مرتفعة في فيلم المخربون 1967 الذي صوره كمال الشيخ بالسكوب والأبيض
والأسود عن المهندس الذي يحقق في أسباب انهيار مبني حديث البناء فيتم تلفيق
تهمة له ويسجن ثم هرب لمطاردة الفاعلين. وكذلك في فيلم وثالثهم الشيطان
1978 عن ال ممثل المسرح -ي الذ -ي - -ي صاب بنوبات من التقمص للشخص -ي ات
الت -ي - -ي ؤد -ي ها وكاد -ي قتل زم -ي لته خنقا ذات مرة ثم -ي تهم بأنه
وراء اختفاء أخر -ي والدلائل تش -ي ر إل -ي أنه قتلها وأخفاها حت -ي النها
-ي ة المفاجئة. : الأسرة كضح -ي ة لهجوم مفاجئ : 0 0 0 ف -ي ف -ي لم ملاك
وش -ي طان 1960 الذ -ي كتب له الس -ي نار -ي و صب -ري عزت يبدي كمال الشيخ
اهتماما بالحياة الأسرية الهادئة عندما يمارس ضدها عنفاً فجائياً فتضطرب
وتدافع عن نفسها.:: كانت ملامح هذا الاهتمام قد ظهرت بشكل غير قاطع في
أفلامه السابقة مثل « -المؤامرة 1953» حين يتآمر ال أ -قارب الطامعون علي
زوجين سعيدين، وفي فيلم «حب وإعدام 1956» يذهب الزوج ضحية جريمة قتل
للاستيلاء علي أموال الأسرة. وفي فيلم «أرض الأحلام 1957» حيث الشاب الذي
يقع في شرك لانتزاع حبيبته والاستيلاء علي أرضه التي تقع فوق منجم حديد
ولكنه اهتمام لم يكن بمثل هذه الكثافة والثراء التي نراها في ملاك وشيطان
أو بعد ذلك ف -ي ف -ي لم «الش -ي طان الصغ -ي ر 1963» فل -ي س هناك أعنف من
أن تفقد الأسرة طفلها الصغ -ي ر بالفعل كان قصار -ي ما -ي هم المخرج هو أن
تكون هذه الحبكة مدخلا إل -ي الخط العام الحاد والجازم للقصة البول -ي س -ي
ة ذات الأبعاد الإنسان -ي ة فالف -ي لم الأول -ي دور حول الطفلة الت -ي
تنتزع من أسرتها قس -را بهدف الحصول علي فدية ضخمة وتودعها العصابة لدي أحد
أفرادها وهو أكثر الجميع عنفا وغباء وتهورا وكيف تبدل الطفلة الرقيقة من
طبيعته الجافة حتي يقرر إعادتها لأسرتها ويموت في مواجهة مع زملائه.::
ويحكي الفيلم الثاني كيف تورط أعمال الشقاوة أحد الأطفال ليصبح شاهدا علي
جريمة قتل وهدفا لمطاردة مثيرة من البداية إلي النهاية. إن كمال الشيخ
يواصل تطوير أسلوبه التشويقي في الفيلمين بشكل يثير الدهشة والإعجاب فقد
لجأ إلي إلهاء المتفرج بنقطة تبدو لوقتها مهمة قبل أن يفاجئه بعناصر أخري
لا يتوقعها كما أنه في فيلم الشيطان الصغير ق د بدا أكثر تسج -ي ل -ي ة بعد
أن هجر حرارة البلاتوهات واتجه إل -ي حرارة الشمس الحق -ي ق -ي ة ف -ي
مشاهد خارج -ي ة تلتهم أغلب أحداث الف -ي لم وه -ي تجربة تع -ي د إل -ي
الأذهان رسالة الحب لمد -ي نة القاهرة ف -ي ف -ي لمه «ح -ي اة أو موت
1954». : 0 0 0 نحن نلحظ ندرة الحوار ف -ي الف -ي لم -ي ن رغبة ف -ي خلق
تصاعد -ي للتش -ويق لجعل التوتر في ذهن المتفرج يسبق الحدث الجاري علي
الشاشة وهي أمور تتجلي هنا بشكل نموذجي.:: إن فكرة الفيلمين بسيطة للغاية
بل تبدو كموعظة غير مباشرة.. لا تنشغلوا عن أطفالكم أو لا تتركوهم أبدا دون
صحبة . - . إن هذا قد يقود الأسرة إلي أشياء رهيبة... أولا تعامل صغارك علي
أنهم كذلك لأنهم أذكي وأعلي إدراكا مما يبدو عليهم. رجال ضد التيار علي
الرغم من أن فيلم «اللص والكلاب 196» يبدو في ظاهره فيلما نمطيا مأخوذا عن
رواية أدبية إلا أنه جاء في مجمله من حيث البناء فيلما يحمل بصمات كمال
الشيخ فقد عمل علي حذف كل التفريعات الت -ي لا تخدم صلب القصة مركزا عل -ي
الموضوع الأساس -ي فاللص الذ -ي - -ي خرج من السجن لتسد ف -ي وجهه الأبواب
وتنتزع منه ابنته، و -ي ؤد -ي رد فعله الموتور إل -ي أن -ي لقب بالسفاح
لدرجة أن الناس تشغف بأخباره وكأنها مسلسلة إذاع -ي ة هو نفسه ض -ي عة هذا
المجتمع الذ -ي سلبه الحق ف -ي استعادة ح -ياته الأولي بعد أن سدد دينه عما
اقترفه.:: إن براعة الفيلم تكمن في طرح أفكاره بإسهاب دون أن يقلل ذلك من
إثارة أحداثه، إن الفروق الاجتماعية الحادة قد تكون سببا في الانحراف ولكن
التعامل الإعلامي الخاطئ يساهم في تحويل الانحراف إلي اعتياد أو تيار يلقي
قبولا من مجموعات تبرر هذه الأفعال كردة فعل غاضبة علي الأوضاع. إن المجتمع
المسئول عن انحراف أفراده هو نفسه الذي يطاردهم لمعاقبتهم. إن تيمة رجل ضد
التيار أو الرجل ضد مجتمع نجدها تتكرر في فيلم «الهارب 1974» ويزيد عليها
إشارات واضحة إلي الصحفيين المتسلقين وإلي صحافة الفض ائح وك -ي ف أن الخلل
إذا أصاب مجتمعا ما فإنه -ي قلب طبقاته ل -ي صبح الانتهاز -ي ون هم وجهاء
المجتمع و -ي جعل من المخلص -ي ن مجرم -ي ن ف -ي نظر ذات المجتمع إن البطل
السج -ي ن الهارب -ي صبح شاهدا عل -ي فساد أحد أساط -ي ن الصحافة وتكون نها
-ي ته المأساو -ي ة العن -ي فة كمظاهرة تحذ -ي ر -ي ة لنا بدرجة كاف -ية.::
لعل أفكار المخرج المحافظة مثل الخير ينتصر نهائيا علي الشر والأبيض أبيض
ناصع والأسود أسود قاتم، تنبع من خلفيته الاجتماعية المحافظة إذ لم يثبت لي
أن تحليل الأفكار الفرويدية كان ضمن اهتماماته السينمائية عموما علي الرغم
من أنه عالج بعضا منها بصورة صريحة في فيلم «بئر الحرمان 1969» المأخوذ عن
رواية إحسان عبدالقدوس حول الفتاة المصابة بانفصام نتيجة عقدة نفسية
والطبيب النفسي حائر بين شخصيتها كفتاة مهذبة وفتاة ليل. إن النساء في
أفلام كمال الشيخ هن نوعيات مختلفة في الظاهر ولكننا عندما ندقق لا نشك
كونهن متشابهات بصو رة أو بأخر -ي عدا المرأة ف -ي بئر الحرمان الت -ي تقف
منفردا من هذه وتلك أن الأنث -ي المعتادة ف -ي أفلامه ه -ي الت -ي تقع ضح
-ي ة خداع وتحا -ي ل «تجار الموت 1957 ـ حب -ي الوح -ي د 1960» أو ه -ي ذات
العقل الإجرام -ي «من أجل امرأة 1959» أو ه -ي شر -ي كة ف -ي الفعل الشر -ي
ر «الخائنة 1965 ـ غروب وش -روق 1970» والتي تقع تحت اضطراب نفسي يكاد يذهب
بعقلها «الليلة الأخيرة» أو هي فريسة للذكور «قلب يحترق 1959» و«الطاووس
198» أو الجاسوسة الحسناء «الصعود إلي الهاوية 1978».:: إن كمال الشيخ وعلي
الرغم من ابتعاده لأكثر من خمسة عشر عاما متتالية عن السينما قبل وفاته أي
منذ «قاهر الزمن 1987» إلا أنه يشار إليه بلا جدال كأحد أهم رواد صناعة
السينما في عصرها الذهبي والرجل الذي شارك في جعل السينما المصرية تبدو في
أفضل حالاتها. : 0 0 0
جريدة القاهرة في
12/05/2009 |