|
تمتلئ سينما المخرج الايطالي فيدريكو فيلليني بتلك الاساليب البصرية
اللصيقة بأفكار خصبة تنهل من ايقاع الحياة اليومية وتحولات التاريخ القريب
في الحياة الايطالية لتصل الى المتلقي وعشاق السينما في ارجاء المعمورة،
بافتتان وعذوبة وحرارة الشخصيات والصور ذات المعاني والدلالات العميقة
المضامين.
نتيجة لدورها الابداعي الغزير في الفن السابع عموما وفي السينما الايطالية
خصوصا،الذي قدمته اعمال فيلليني من صنوف البهجة والمتعة على الصعيدين
الجمالي والدرامي، والتي تقف متفردة الى جوار تلك المدارس والتيارات
السينمائية الاتية من جعبة الواقعية الايطالية الجديدة،جاء اختيار لجنة
السينما في مؤسسة عبد الحميد شومان لاربعة افلام تعد من اواخر انجازات هذا
المبدع السينمائي (1920 - 1993) لتعرض بمعدل فيلم واحد مساء كل يوم ثلاثاء
وهي على التوالي: بروفة الاوركسترا وتبحر السفينة والمقابلة ووصت القمر
وجميعها تغلف أحاسيس المخرج التي سجلتها أفلامه العديدة وعدت من بين
القامات الرفيعة في الفن السابع .
تستمد تلك الافلام مواضيعها من رؤى المخرج الساحرة والمتفجرة بحراك الإنسان
داخل واقعه اليومي أمام لقيات وتحديات الظروف والتحولات الاجتماعية
والسياسية والاقتصادية في اكثر من حقبة زمنية، وهي مجبولة باشتغالات
فيلليني الفنية دون ان تحيد عن اهتمامات صانعها وهو المخرج القادم إلى
السينما من عالم الصحافة ورسومات الكارتون قبل ليغدوا واحدا من ابرز صناع
السينما العالميين وأكثرهم شهرة وتأثيرا وإعجابا وجدلا.
يحطم فيلليني في معالجاته وحلوله البصرية الكثير من ثوابت وقناعات الفرد
ومواقفه أمام سطوة وتعقيدات حراك الحياة،فهو يراوغ حينا ويصرح أحيانا بما
أملته عليه الذاكرة والعفوية الشاسعة الخيال، مستعيدا محطات من طفولته
ومراهقته وشبابه وعشقه لعالم السيرك والغناء الاوبرالي، فضلا عما لتقطه
وعيه الخاص من داخل انغماسه في أعمال مختلفة مبكرة من العمر، عبر ظواهر
تعايش معها بصبر وجلد قبل أن يقف وراء الكاميرا كمخرج.
واضح ان قيلليني صاحب تجارب وطاقات فريدة تحتشد الكثير من الأحداث والمواقف
الانسانية الشاعرية المؤثرة، حيث يكشف عن صوره السينمائية المستقاة من
مفردات واقع بلدته الصغيرة وتفاعل مجتمعه الغريب المتصل بين الواقع والخيال
وما يحيط به من غموض، أمكنه من تقديم اوجاعه في جرعات عالية من الصراحة
والجرأة في أفلامه التي كثيرا ما اعتبرها عشاق السينما مليئة بالتعقيد
والتشابك كونها مغايرة لأشكال السرد السينمائي المتعارف عليها في أفلام
السينما التقليدية التي تحتشد بها صالات العرض .
يسجل المخرج صورا بديعة لتلك التفاصيل الهامشية، ويركز عليها باندفاع تنكر
معرفة كل العوالم باستثناء عالم السينما، ومع ذلك يمضي في تحليل تلك
العوالم الأخرى بادراك شديد ونفاذ بصيرة حادة بحيث يضع المشاهد أمام مراة
تفضح له جوانب من حياة مجتمعه الإيطالي، وما يدور فيه من صراع بين الأجناس
المتضادة هناك : البشاعة والجمال وأوجه الفقر والثراء.. وقس عليها ذلك
الصراع المحتدم بين الأجيال وعوالم التناقضات بين الشباب والشيوخ أو بين
رجال الدين والسياسة والأبعاد السايكوبوتية للشخصيات ورمزيتها في خضم
التحولات التي تعيشها ايطاليا بين مد وجزر يجسدها على الشاشة وكأنه في لحظة
حلم.
إجابات فيلليني على أسئلة واقعه المجبول تاتي ببساطة وغير تقليدية مفعمة
بخصوبة الخيال، وبالرصانة الخطابية الهادئة المتوارية وراء الموروث القديم
والسلوكيات الغرائبية الفطرية لاناس عاديين، تقدمهم كاميرا فيلليني في صور
تبرز ملامحها، في مزيج بارع من الشفافية والسلاسة وكأنها غارقة في الاحلام
والحكايات والاغنيات الشعبية الشاعرية .
تنطلق تلك الأفلام من بؤرة ثابتة وهي تشتمل على ذلك التوظيف الحرفي المتين
لمفردات اللغة السينمائية، والقدرة في الانفلات من دوائرها الضيقة إلى فضاء
ابداعي متحرر يتفتح على دواخل وبواطن مبدع صاحب ثراء مدهش في عوالمه الرحبة
الشديدة الحضور في انطباعاته عن المدن والأفلام والأشخاص غريبي الاطوار
والمهمشين، وما علق في ذاكرته من تفاصيل خصبة من بحر الاحلام والروحانيات
داخل ثقافة بيئته .
والنتيجة هذه الحصيلة الوفيرة اللافتة من الابداع السينمائي التي عدها
النقاد من ابرز كلاسيكيات السينما العالمية لكل الازمان والامكنة .
الرأي الأردنية في
12/05/2009 |
