بعد البداية العادية لرحلة يوسف شاهين الاخراجية خصوصا في فيلم ( بابا امين
- 1950 ) حاول شاهين جاهدا ان يكون متمكنا من ادواته السينمائية، وبالتالي
يكون قادرا على استعمال هذه الادوات في كتابة سينمائية محكمة وباسلوب
مميز.. خصوصا وان سينما شاهين وان كانت حادة في ما تعبر عنه من رفض وتمرد.
فهي ليست حادة في النظر ( اذ لا يمكن تقسيم المجتمع بحد السكين ) ، كما
يقول شاهين نفسه. كذلك فسينما شاهين غنية بالمنطلقات الانسانية فالنزعة
الانسانية طاغية على كل افلامه ، فهي تجعل من ابطاله بشرا يجسدون النفس
البشرية في لحظات ضعفها وقوتها. النابعة من حالة الصراع مع نفسها هي، او مع
محيطها ا لخارجي. هذا الصراع حاول شاهين ان يجسده في كل افلامه السينمائية.
ولم يكن هذا التجسيد متأتي من فراغ بل نابع من وعي والتزام مبنيين على
تحليل لحركة الواقع والمجتمع والتاريخ وما تحمله من صراعات مختلفة ، قد
تكون احيانا السمة الغالبة لها.
ففي فيلم " صراع في الوادي " كذلك فيلم " صراع في الميناء " وفيلم ( شيطان
في الصحراء ) نجد شاهين يتحدث لاول مرة عن سلطة ملك فاسد ومحاولة الانقلاب
عليه. وهو اشارة الى فساد الحكام وضرورة الثورة عليهم وازاحتهم عن السلطة
كنتيجة للصراع المستمر بين سلطة الحكام الفاسدين وجماهير الشعب التي تريد
التغيير. ويتعرض شاهين في " صراع في الوادي " الى الباشاوات الاقطاعيين
مجسدا ذلك من خلال الصراع بين المهندس الزراعي والفلاحون من جهة وبين
الباشا الاقطاعي الذي يرى في نجاح المهندس بتحسين اساليب زراعة قصب السكر
خطرا على محاصيلة، وفي " صراع في الميناء " تناول شاهين اوضاع عمال الرصيف
في ميناء الاسكندرية عبر صراع العامل الشاب مع مديره.
اذن المجتمع عند شاهين تهيمن عليه مصالح اقتصادية استغلالية، وتتجاذبه
صراعات داخلية شتى ، وتهده اخطار واطماع خارجية قوية وتواجهه تحديات عصرية
ملحة، وتتسلط عليه مؤسسات حكومية فاشلة، وبالتالي فان الانسان في مثل هكذا
مجتمع يعاني من الحرمان والقهر والاستغلال، ومن قمع المؤسسات الاجتماعية
والسياسية وفسادها وحيال ورفض هذا الواقع لا يجد الانسان امامه طريقا سوى
طريق التمرد والصراع. الصراع مع العائلة، الصراع مع السلطة، الصراع ضد
الفساد والحرمان، الصراع ضد الاستغلال والهيمنة والتسلط، الصراع مع النفس.
وبالتالي فان الصراع هو رفض. رفض للعائلة والمجتمع وللعقلية المتخلفة ولجشع
البرجوازية ورفض الاتجاهات السلفية والشعارات الكاذبة. ورفض الهزيمة وهيمنة
المعتدي الاجنبي واخذ شاهين من الصراع الذي تلمسه بكل حواسه موضوعات لاهم
افلامه التي جعلت منه هذا الاسم الكبير ويمكن ان نحدد بعض نقاط الارتكاز
الاساسية التي استند اليها شاهين من خلال تلمسه للصراع وهما:
1- (عودة الابن الضال ).
2- الصراع الاجتماعي والوطني خاصة في فيلم ( جميلة الجزائرية ) (الصراع
الطبقي ( خاصة في صراع في الوادي )، ( الارض) الناصر صلاح الدين ) و (
اسكندرية ليه ).
3- الصراع النفسي المرتبط ببعد اجتماعي في افلام ( باب الحديد )، (
الاختيار ) ( فجر يوم جديد ).
ان معظم افلام شاهين تحمل معظم تلك الصراعات متداخلة مع بعضها البعض، وقد
يغلب احدها على الاخر، غير انها جميعا موجودة في خلفية الصورة، ففي فيلم
العصفور الذي يشكل سؤالا محوريا حول الهزيمة واسبابها، تظهر جليا بعض صور
الصراع الطبقي والفساد السلطوي.
ودائما ما نلاحظ ان شاهين يغلب سمة من سمات الصراع على سمة اخرى. وهذا يبن
مدى العلاقة التي يعيشها الفنان كمواطن وكانسان بالواقع الحي. ففي فيلم (
باب الحديد ) يكون الصراع ذو شكل طبقي ويدور حول مسألة التنظيم النقابي
ومحاولة الحمال ( فريد شوقي ) ان يكون نقابة للعمال تحمي مصالحهم، ولكن
شاهين كما قلنا يحاول ان يغلب سمة من سمات الصراع على سمة اخرى. وذلك من
خلال تغليب الصراع النفسي المرتبط ببعد اجتماعي والذي يجسده من خلال شخصية
بائع الصحف " قناوي " المعاق والمستلب جنسيا. وشاهين في هذا الفيلم يكون
اول من تطرق وللمرة الاولى في السينما المصرية، الى موضوع كان محرما قبل
ذلك وهو موضوع " الاستلاب الجنسي ".
( ان احب الصراعت الى النفس واصعبها هو الصراع مع النفس )
في ثلاثة من اهم افلام يوسف شاهين نجده وقد وضع نفسه نتيجة للصراع النفسي
الذي يعانيه، تحت مجهر الكاميرا السينمائية مخترقا كل الجدران والحواجز
والقيود التي من الممكن ان تعيق بوجه بما يريد ان يقول غائصا في اعماق ذاته
بحثا عنها.
هذه الافلام هي " اسكندرية ليه " و " حدوته مصرية " و " اسكندريه كمان
وكمان ". حيث اراد من خلالها ان يصفي حساباته مع نفسه وهواجسه ودوافعه،
كذلك مع عائلته البرجوازية وفنه. هذه الافلام صنفت ضمن افلام السيرة
الذاتية. وهو بهذه الافلام لا ريد ان يمجد " الانا " انما اراد ان يتحدث عن
نفسه ليكتشفها ويكشفها ويكشف معها تناقضاته وصراعاته مع عائلته ومحيطه
ومجتمعه.
في فيلم الاختبار ، يظهر يوسف شاهين جليا الصراع النفسي المتولد من مشكلة
تكمن في النظام الاجتماعي. ومأساة بطله تتلخص في انه عاجز عن ان يكون هو
نفسه وعاجز عن الاندماج في نظام اجتماعي يعرف انه نظام مهزوم وفاسد. اذن
الاختيار هنا هو بين وجه الانسان الحقيقي وبين القناع الذي يضعه على وجهه،
او بين الانا الحقيقية والانا الخارجية، بين الانا الذاتية والانا
الاجتماعية وهنا يكمن الصراع.
بما ان الفكرة هي الاساس الذي يبنى عليه اي عمل درامي ، لانها تتأسس
وتستدعيها معظم الأبنية الفنية الاخرى، فان معظم المخرجين يبحثون عن الفكرة
التي توفر لهم هذا الاساس وهذا التأسيس.
وفي السينما المصرية كانت معظم الافكار التي تستند عليها الافلام، افكار
ساذجة لا تبحث في واقع المجتمع المصري خصوصا وان السينما المصرية في
بداياتها لم تحاول ان تستوحي افكارها من واقع الشارع المصري، وحتى ان فعلت
ذلك كان يتم بشكل ساذج بسيط، وكانت تحاول ان تقلد او تحاكي السينما الغربية
وخصوصا سينما هوليود بكل اساليبها، لكن جيلا من المخرجين الذين ظهروا في
بداية الخمسينات ومنهم يوسف شاهين حاولوا ان يصنعوا افلامها تنبع افكارها
من الواقع المصري.. ففكرة فيلم باب الحديد الذي لم ينجح جماهيريا اثناء
عرضه كانت غريبة على السينما المصرية، حيث حصد شاهين كل ما يستطيع حصره من
صراعات، طرح بعضها بشكل صريح وحاول ان يطرح الاخر بشكل رمزي في محطة باب
الحديد وهي مدينة صغيرة فيها محطة قطار ورغم ان " هنومة " "هند رستم " كانت
من اكثر الممثلات التي يشكلن اقبالا على شباك التذاكر لكن طرح فكرة تجسد
صراع عمال " العتاله " او الحمالين ومشكلة الاستلاب الجنسي وما يدخل كل
هؤلاء من صراع داخلي وخارجي مع واقعهم. شكلت طرح جديد ا للمشاهد الذي تعود
ان يرى " هند رستم " وهي تحاكي حركات ورقصات الممثلة الامريكية الشهيرة "
مارلون مورو " لذلك اعتبر الكثير أن اختيار شاهين لمثل هكذا افكار قد يؤدي
الى فشله لكن ثبت العكس حيث ان فيلم مثل باب الحديد وما اسس عليه من فكرة
تتناول الصراع الحاصل بين شخوص المحطة. مازال الى اليوم يعتبر واحدا من اهم
انجازات السينما العربية.
كذلك في معظم الافلام التي جاءت بعد باب الحديد كان شاهين حريصا على " فكرة
" الفيلم سواء كانت هذه الفكرة مأخوذة عن رواية او مكتوبة خصيصاً للسينما،
الا في بعض الحالات التي اضطر فيها ان يخرج افلاما لم تكن فكرة الكثير منها
جيدة كونه لم يكن يملك قرشا واحدا.
واستطاع شاهين ان يبنى ويرتب الاحداث من خلال حبكة رائعة تتميز بعرض الصراع
بامثل الطرق واشدها تأثيرا، وهي طرق تزود الصراع بمغذيات وروافد. تزيد من
قوة التأثير على المشاهد. وكان يقوم بهذا من خلال بناء عدة احداث ترمز الى
طبقات وفئات مختلفة وبشكل متواز حتى لا تضيع الخيوط الدرامية. لذلك نشاهد
في " العصفور " العديد من الشخصيات التي ترمز لفئات وطبقات مختلفة، المثقف
الانتهازي، السياسي الفاسد، المواطن الغاضب، التاجر المستفيد من كل الحالات
حتى من هزيمة بلده عسكريا... حتى يصل بنا الى شخصية هي رمز الوطن " بهية "
التي تطلق عصفورها. ردا على كل ما تم طرحه او التطرق اليه حول اسباب
الهزيمة التي كانت هي فكرة الفيلم الاساس.
رغم ان شاهين مقلا في حواراته، فاسحا المجال للصورة ان تتحدث بشكل اكبر
واوسع من الحوار اللغوي الذي من احد صفاته تنمية الصراع من خلال قوة الكلمة
ومعناها. وبالتالي الكشف عن عمق المعاناة المسببة للصراع. لذلك نرى يوسف
شاهين قد كتب بنفسه الحوار لاكثر افلامه اهمية مثل عودة الابن الضال، اليوم
السادس، حدوته مصرية، اسكندريه ليه. الوداع يا بونارت، اسكندرية كمان
وكمان، العصفور، المصير، الاخر وغيرها.
لذلك نرى ان الحوار في معظم افلامه حوار مقتضب قصير، لكنه معبر وقوي، يحاول
شاهين من خلاله طرح اسباب الصراع ، وفي حيان اخرى يحاول ان يؤجج الصراع
وصولا الى ذروته.
كذلك شخصيات شاهين المحورية متنوعة. ومتفاوته القوة، لكنها هي التي تقود
الصراع، لتصل به الى الذروة وكذلك هي التي غالبا ما تصنع الحلول. ترافقها
في ذلك شخصيات محورية اخرى فـ ( طلبة ) هو الشخصية المحورية في عودة الابن
الضال رغم كونها شخصية ساذجة ومتعجرفة متمسكة بقيمها الرأسمالية، لكن
الشخصيات المرافقة لها والتي قد يتعاطف المشاهد معها ليست هي من تقود
الصراع بل ان الشخصية المحورية ( طلبة ) هو من يؤجج الصراع وهو من ينهيه (
مشهد القتل ).
في( العصفور ) هناك ( بهية ) رمز الام، الوطن، والتي تقود الصراع في
النهاية واضعة الحل، ولا يمكن ان تهزم وتقود المظاهرة وهكذا باقي شخصيات
شاهين المحورية، كذلك الشخصيات المرافقة لها.
ان اسلوب يوسف شاهين السينمائي تميز بالتجديد والبحث عن ادوات فنية بشكل
مجتهد، واحد اساليب شاهين هو التقطيع المكثف والذي يعمل بقوة على تجسيد
واظهار الصراع، كذلك اسلوب الكوادر المرسومة بعناية وبزوايا تقنية جدا،
اضافة الى الاضاءة التي تأخذ موقعا رئيسا في كل كادر او لقطة نجد هناك رسم
بالضوء، يعطي ابعادا نفسية للحدث، كرسم اجواء القلق والحزن وغيرها، وكل هذه
الاحاسيس نجد لها توظيفا دقيقا بالضوء واللون والزاوية، وبالتالي تحاول
كلها ان تبرز الصراع الحاصل في سياق الفيلم الروائي و اكثر فيلم ظهرت به
هذه الاستعمالات التقنية لعناصر اللغة السينمائية هو فيلم ( عودة الابن
الضال ).
اما استخدام شاهين لحركة الكاميرا فتميز بالخروج عن المألوف في السينما
العربية.
حيث صور شاهين في فيلم " حدوته مصرية " مشهد المحاكمة داخل جسم انسان وهي
محاكمة تعبر عن صراع اجيال عدة داخل العائلة " المجتمع" ويعتبر بعض النقاد
ان " حدوته مصرية " تعتبر مكسبا للسينما العربية وانتصارا للغة السينمائية،
حيث لم يسبق لأحد أن قدم فيلما بهذه التقنية.
كان شاهين موفقا في اختيار اماكن تصوير افلامه التي تشهد احداث افيلم
والصراع الكامن فيها، فكان شاهين يحاول جاهدا ان يختار الاماكن الحقيقية او
المفتوحة التي تخدم فكرة الفيلم بشكل جيد وتصل بالمشاهد الى حالة قناعة في
ان هذا لا غيره هو المكان الذي حدثت فيه الاحداث، في " باب الحديد " المكان
حقيقي وكثير من الاشخاص الحقيقيون الذين يعيشون فيه هم كثيروا الشبه بابطال
الفيلم. وفي " العصفور " المكان هو كل مصر لذلك كان التصوير الخارجي هو
مكان حقيقي جرت فيه احداث مشابهة لاحداث الفيلم او ما يريد الفيلم ان يقول
ان احداث جرت هنا وانا اريد ان تشاهدوها في هذا الفيلم وبالتالي فان اختيار
المكان في افلام شاهين دائما ما تخلق مناخ تعبيري للافصاح عن عوامل الصراع.
كذلك يحرص شاهين على سرعة الايقاع في تناوله للصراع في مجمل افلامه. فهي
تتميز بايقاع سريع مضطرب، غالبا ما يعطي احساسا بالتوتر يتناغم مع نمو
الصراع وسير الاحداث. كما في فيلم " باب الحديد " و " عودة الابن الضال " و
" العصفور " وغيرها من الافلام.
ويعد يوسف شاهين افضل من جسد الصراع في الافلام السينمائية العربية ويعز
البعض ذلك ان شاهين لم يكن ينشد من افلامه الربح التجاري الصرف، بل كان
يريد ان يرسل رسالة الى الجميع حول مجمل الصراعات الدائرة في المجتمع.
المصادر:-
1- وليد شميط ،يوسف شاهين، حياة للسينما.
2- احمد جمعة ، سينما التحولات .
3- ابراهيم العريس ، رحلة في السينما العربية .
أدب وفن في
04/05/2009 |