لا
يستطيع
«مهرجان
الخليج السينمائي»، الذي أقيمت دورته الثانية بين التاسع والخامس عشر من
نيسان الجاري في إمارة دبي، أن يستمرّ في استقطاب الأعمال البصرية كلّها
فقط،
المصنوعة في دول الخليج العربي ومجتمعاتها وبيئاتها الثقافية
والحضارية والإنسانية؛
لأن وظيفته معنية بغربلة الموجود، ومطالبة بوضع أسس جوهرية لبناء عالم
سينمائي خاص
بهذه البقعة الجغرافية، بدلاً من أن يبقى احتفالاً سنوياً عابراً بالمنتج
البصري.
كما أن الهدف المرتجى منه منصبٌّ على ضرورة الخروج من الشكل الظاهر، والبحث
في
كيفية تحويل المواهب الشابّة إلى حرفية مهنية، يُفترض بها أن تعمل على
إيجاد
المسوّغات الأولى، على الأقلّ، لتأسيس حقيقي لصناعة سينمائية
خليجية، تمتد على
الجغرافيا الخليجية كلّها، وتحافظ على الخصوصيات المحلية في الوقت نفسه.
لا
يُمكن لهذا المهرجان المختلف أصلاً عن المهرجانات العربية
الأخرى، أن يبقى محاصراً
في خطاب دعم المواهب الشابّة، وفتح آفاق تواصلهم مع الآخرين، وتحريضهم على
ابتكار
أنماط شتّى من التعبير البصري؛ لأن أمراً كهذا كفيلٌ بجعل الاجتهاد
الثقافي/ الفني،
في حال تواجده لدى بعض الشباب، مجرّد روتين إنتاجي، يستلّ من
المشاهدات الغربية ما
يتلاءم ومزاجاً ذاتياً في صناعة صورة مغتربة عن الواقع، أو مفترقة عنه، أو
رافضة
له، شكلاً ومضموناً.
لا يجوز لمهرجان وليد كهذا، ورث حضوره من تظاهرة أساسية
ومهمّة شهدتها إمارة أبو ظبي على مدى أعوام قليلة منذ مطلع الألفية الثالثة
(مسابقة
أفلام من الإمارات)، أن يعجز عن ابتكار الجديد والمختلف في مقاربته حركة
شبابية،
تسعى إلى إنجاز صورة فنية متحرّكة ما؛ لأن مهمته الأساسية يجب
ألاّ تقف عند حدود
منح هؤلاء الشباب فرصة سنوية لتقديم ابتكاراتهم البصرية، بدلاً من أن يُصبح
المهرجان مساحة ثقافية/ فنية/ فكرية/ اقتصادية متكاملة، تتيح للجميع فرصاً
متفرّقة،
أكبر من أن تكون مجرّد حيّز لعرض منتوجات بصرية صُنِعت
غالبيتها الساحقة كيفما كان،
وأبرزها: تدريب ميداني على الاشتغال السينمائي، وليس البصري فقط؛ إقامة ورش
عمل
مختلفة، تطال الجوانب كلّها المختصّة بإنجاز فيلم سينمائي سليم؛ إتاحة
الفرصة
للاطّلاع المعرفي على التيارات والنظريات والأفكار والنقاشات
والكتب الجدلية
والتنظيرية والتحليلية وكتب الحوارات، الغربية منها والعربية (مع أن الكتب
العربية
المهمّة والجدّية، في هذا المجال، قليلة العدد)؛ إفساح المجال لمشاهدة أكبر
عدد
ممكن من الأفلام، بأشكالها وألوانها وأنواعها وآفاقها
وجنسياتها وأساليب مخرجيها
المتناقضة والمتعدّدة، ومناقشتها مع اختصاصيين وأصحاب اختبارات وتجارب؛
لقاءات مع
سينمائيين ونقّاد يتناولون، مع الشباب الخليجيين المهتمّين جدّياً بصناعة
الصورة
البصرية/ السينمائية، شتّى المواضيع والأفكار والتقنيات الحديثة.
تساؤلات
على الرغم من أن أي قراءة نقدية سليمة للمنتج البصري المصنوع في دول الخليج
العربي، باتت مكرّرة ومملّة؛ إلاّ أن مكانة «مهرجان الخليج
السينمائي» في المشهد
البصري الخليجي تمنح المهرجان فرصة ذهبية للعب دور أكبر من أن يبقى واجهة،
لأنه
منبثق من تجربة رائدة في دولة الإمارات العربية المتحدّة أولاً، والمنطقة
الخليجية
ثانياً، متمثّلة بـ«مسابقة أفلام من الإمارات»، التي شكّلت
دوراتها الأولى مناخاً
حيوياً وحماسة واضحة لدى مجموعة من الشباب الإماراتيين ثم الخليجيين، الذين
أرادوا
الصورة المتحرّكة أداة تعبير عمّا يشعرون به أو يعانون تداعياته، إزاء
الذات والآخر
والعلاقات الإنسانية والواقع الاجتماعي والتفاصيل الحياتية. إن
كلاماً كهذا نابعٌ
من واقعية الامتداد العفوي من المسابقة إلى المهرجان، ومن تشابه العناوين
العامة
بينهما، ما يجعل أي قراءة نقدية لآلية تنظيم المهرجان وللأفلام المشاركة
مستلّة من
الملاحظات الدائمة الموجّهة إلى المهرجان والأفلام معاً. مع هذا، لا بأس في
شيء من
التكرار، لأن الإمكانيات المادية والإنسانية والتقنية موجودة، والموهبة
حاضرة عند
البعض، المحتاج إلى مواكبة عملية ترافقه في الخطوات الأولى
لرحلته في اتجاه
السينما. ولأن مهرجاناً كهذا معنيّ بإتاحة الفرصة لهؤلاء الراغبين، جدّياً،
في
الذهاب بعيداً في العوالم المتفرّقة للفن السابع، كي يتسنّى لهم المضي
قدماً، بثبات
ووعي وإعمال فعلي للعقل والمخيّلة والاشتغال الاحترافي بالتقنيات كلّها، في
عالم
الصناعة البصرية.
أوهام، أم محاولة لتسليط الضوء على المشكلة الأبرز التي
يواجهها المهتمّ بشؤون الصورة وصناعتها في العالم العربي كلّه، وليس فقط في
منطقة
الخليج العربي، والكامنة في غياب حدّ أدنى من القناعة الجادّة في أهمية
الصورة على
المستويات الإنسانية كلّها؟ تنظير لا طائل منه، في دول لا تأبه
الغالبية الساحقة من
أبنائها بشؤون الإبداع الحقيقي؛ أم معاينة صادقة تبغي قراءة المشهد الآنيّ،
وتفاصيله المتشابكة؟
ذلك أن شباباً خليجيين عديدين منشغلون بالشكل لا بالمضمون،
ومنصرفون إلى التشكيل البصري لا إلى صوغ النص السينمائي المتلائم وهذا
التشكيل،
ومهتمّون بالنسخ والتقليد والتماهي لا بالتوغّل (أكثر فأكثر) في عمق البيئة
الإنسانية وتفاصيلها المتفرّقة، التي يقيمون فيها. مع هذا، لا
بأس في التماهي مع
أشكال غربية في إنجاز الأشرطة البصرية؛ ولا بأس في تقليد الشكل الغربي،
الذي يُغلّف
مضامين محلية. لكن الارتباك الحاصل في الكتابة البصرية، وسوء استخدام معظم
التقنيات
الأساسية (الإضاءة، التصوير، التمثيل، المونتاج، الموسيقى...)، يدفعان إلى
طرح
السؤال التالي: من المسؤول عن توجيه الشباب الخليجيين وتدريبهم
في المجالات
السينمائية كافة؟ قد يرى البعض الأول أن المهرجان لا يتحمّل مسؤولية
التردّي الواضح
في إنجاز هذا الكمّ الهائل من الأفلام الخليجية؛ وقد يقول البعض الثاني إن
المهرجان
مجرّد حاضنة لهذه الأعمال ولمخرجيها، ومساحة للقاء والتواصل؛ وقد يُحلّل
البعض
الثالث الحالة الخليجية العامة، محمّلاً الأنظمة الحاكمة
والمؤسّسات الاجتماعية
والثقافية مسؤولية غياب الحوافز المختلفة للعمل الإبداعي السينمائي، إذ إن
الأنظمة
والمؤسّسات مطالبة بتأمين المستلزمات الأكاديمية والعلمية والفنية
والثقافية
الخاصّة بصناعة الفيلم السينمائي، وبإشاعة مناخ من حرية
التعبير والتواصل.
دور
المهرجان
لكن المسألة الميدانية مختلفة: لا يُمكن التعاطي مع «مهرجان الخليج
السينمائي» بالطريقة نفسها التي تُستخدم في التعاطي مع
مهرجانات سينمائية عربية
أخرى، لأنه مختلف عنها بسبب طبيعة تكوينه والبيئة الطالع منها. ثم إن
مسؤوليته
كبيرة، إذ يُفترض به غربلة الأعمال الكثيرة التي يغدقها الشباب الخليجيون
عليه،
وعدم التساهل في الاختيار، وعدم منح جوائز مالية للفائزين
(يُفترض بهذه الجوائز أن
تتحوّل إلى مساعدات إنتاجية متفرّقة، خصوصاً في فئتي الطلاب والمواهب
الشابّة، ما
يُحرّض المخرج الجدّي على بدء تنفيذ مشروع جديد له، من منطلقات أكثر جدّية
وعملية)،
وبرمجة تظاهرات جانبية، يُعمل على حثّ المخرجين المشاركين في
المهرجان على المشاركة
فيها، كدعوة مخرج سينمائي عربي (في الدورتين الأولى والثانية، كُلّف
المخرجان
المصري داود عبد السيّد والسوري عبد اللطيف عبد الحميد برئاسة لجنة التحكيم
الخاصّة) إلى لقاء مع المخرجين الخليجيين حول عناوين متفرّقة؛
وإقامة ورش عمل خاصّة
بتقنيات متفرّقة في صناعة الصورة البصرية/ السينمائية؛ وتنظيم دورات
تدريبية مكثّفة
مع مخرجين خليجيين شباب يمتلكون موهبة جدّية قابلة للتطوّر الاحترافي،
يديرها
سينمائيون وعاملون في حقول سينمائية مختلفة ذوي تجارب مهمّة من
العالمين العربي
والغربي؛ تخصيص جوائز مختلفة، كتقديم منح تدريبية لمواهب جدّية، تخوّل
أصحابها
السفر إلى دول عربية وغربية تمتلك صناعة سينمائية حقيقية، أو حركة جدّية
لإنتاج
سينمائي ما (من المغرب وتونس ولبنان، إلى أوروبا والولايات
المتحدّة الأميركية
وغيرها).
ثم إن المخرجين الشباب أنفسهم يتحمّلون جزءاً أساسياً من مسؤولية
تردّي أحوال المنتج البصري الذي يصنعون، إذ إن غالبيتهم
الساحقة مهتمّة بإنجاز
أفلام كيفما كان، وبتسرّع مسيء إلى صناعة الصورة، بغية إشراكها في «مهرجان
الخليج
السينمائي» وفي مهرجانات خليجية أو عربية أو دولية أخرى، بدلاً من الانصراف
إلى
تطوير الذات ثقافياً وفنياً ومعرفياً، وإلى الاشتغال الميداني
والجدّي على إعمال
المخيّلة، إما من خلال مشاهدة مكثّفة وهادئة للأفلام العربية والغربية،
وإما عبر
قراءات متفرّقة (سير ذاتية، حوارات، تحليل نقدي، فكر، تنظير...)، وإما
بالسعي إلى
المشاركة في ورش عمل مختلفة تُقام في هذه المدينة العربية أو
في تلك البلدة
الغربية. والأهمّ من هذا كلّه أيضاً، كامنٌ في ضرورة تنبّه هؤلاء الشباب
إلى عدم
الوقوع في الأنانية، لأن التواضع سمة إنسانية مفيدة ومهمّة. إذ لا بأس
بمشاهدة
أفلام الزملاء والأصدقاء، لكن الأسلم إكمال مشاهدة كهذه
بمشاهدة أفلام مقبلة إليهم
من كل حدب وصوب (وهذه مهمّة المهرجان أيضاً، لأن أصحاب الصالات التجارية
والموزّعين
المحليين مهتمّون بجوانب تجارية بحتة، تترافق وأنظمة الرقابة السياسية
والاجتماعية
القائمة في هذه الدول)، ومتابعة اللقاءت والندوات التي يُفترض
بإدارة المهرجان
تطويرها وتحسين شروطها، والتواصل مع الضيوف العرب والأجانب (إن وجدوا)
بفعالية
أكبر، وبحرص على الاستفادة من الخبرات التي يحملون، ومن المعرفة التي
يملكون، ومن
التجارب التي يختبرون، لأن تواصلاً كهذا لا بُدّ من أن يُفيد المهتمّين
بالفن
السابع.
لا تُلغي الملاحظات السابقة أهمية الدور الذي يحاول «مهرجان الخليج
السينمائي» أن يلعبه، تماماً كما حصل مع «مسابقة أفلام من
الإمارات»، إذ إنه يحاول
تشجيع المواهب ويحرص على تقديمها أمام ضيوف ومدعوين، وأن يُرسلها إلى
مهرجانات أخرى
معنية بما يجري، بصرياً، في هذه البقعة الجغرافية/ الثقافية/ الحضارية من
العالم
العربي؛ في حين أن الملاحظات السابقة منصبّة في إطار الدعم
النقدي للتظاهرة، وتفعيل
حيويتها الثقافية/ الفنية أيضاً. ولا تتغاضى الملاحظات نفسها عن حماسة شباب
خليجيين، وعشقهم الواضح للفن السابع، ورغباتهم الجدّية في امتلاك الأسس
الثابتة
لصناعة بصرية حقيقية. فهي (الملاحظات) نابعة من حرص ذاتي على
مناقشة نقدية لبنية
المهرجان وللأعمال الفنية المتفرّقة، ومن معاينة دؤوبة للمنتج البصري
الخليجي،
الخاضع حكماً للنقد السليم والصادق.
السفير اللبنانية في
16/04/2009 |